عالم الأدب

رواية أحمد عبدالملك: أحضان المنافي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

قدرة في بناء الشخصية ...وتقنيات يستمدها من السينما

لا تنهض الرواية بغير الحرية ولا يكتب لها الاستمرار ما لم يتصد لها كتاب يحملون هماً وموقفاً يحاولون إيصاله والتعبير عنه، وهكذا لا تغدو الكتابة نوعاً من الترف اللامجدي، وإنما جزءاً من المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية التي يحسها الكاتب تجاه مجتمعه ووطنه.
إن الروائي حين يقوم بكتابة روايته إنما يدفعه هدف الأمل بالتغيير، والإصرار على فعل شئ ما، لا رغبة في الحكي والقص لذاتها. من هنا تكون مهمة الروائي مهمة جليلة لا يقدر عليها غير أولئك الذين نذروا أنفسهم لمثل هذا العمل النبيل، وهذا ما يفسر اعتزاز هربرت لورنس بعمله روائياً فيقول (إني اعتبر نفسي لكوني روائياً أرفع شأناً من القديس والعالم والفيلسوف والشاعر، فالرواية هي كتاب الحياة الوحيد الوضاء)، ولعل مبعث هذا الإحساس إنما يأتي من قدرة الروائي على خلق شخصيات نصدقها ونصدق أفعالها ونأخذ حياتها على محمل الجد.
للدكتور أحمد عبد الملك وهو إعلامي قطري معروف عدد من المؤلفات في مجال تخصصه وهو قاص أيضاً، لكنه أخيراً ولج عالم الرواية بصدره روايته الأولى "أحضان المنافي" لينظم بذلك إلى من استهوتهم الرواية فخاضوا غمارها. وإذا كان مفتتح الرواية ومدخلها هو العنوان، فإننا نجد أنفسنا أمام عنوان رواية د. عبد الملك بين نقيضين في الدلالة حيث (أحضان) وما يمثله الحضن من الأمان والدفء والطمأنينة مضافاً إلى ( المنافي) وما تثيره فينا هذه المفردة من شعور بالبعد والقلق وربما التشرد، إن الجمع بين هذين النقيضين يحيلنا إلى إشكالية الدلالة اللغوية وما تولده من شعور في دواخلنا.
تقع الرواية الصادرة عن دار بلال - بيروت في 293 صفحة من القطع المتوسط، وهي تتحدث عن مثقف خليجي مثقل بهمومه التي لا تختلف عن هموم المثقف العربي إلا في بعض التفاصيل وبمعاناة لا يدركها الآخرون. فما إن تنتهي من قراءة الرواية حتى يأخذ التأمل إلى هذا الكم الهائل من المعاناة التي يعيشها هذا المثقف.
تحكي لنا قصة (ميهود) الطالب الخليجي الذي تغرب ليتعلم، وتنقل من بلد إلى آخر، يتحمل عذابات الغربة وتمزق العائلة، ومواجهة مشاكل لم تخطر على بال، والأصعب من ذلك كله الخوف من الفشل، وهو خوف مشروع له ما يبرره، لكنه ينجح ويعود ليخدم وطنه الذي أحبه (وردة) لكنه يشعر أن هناك من يحاول إيقافه ومنعه عن العطاء، بتحويله إلى التقاعد المبكر، ليصبح جزءاً من (السمارية) وهو لقب أطلقه أحد المثقفين على من يحالون على التقاعد المبكر، والسماري تعني انسياب القارب فوق سطح الماء بلا مرساة، أي لا يدري إلى أين هو ذاهب، فيصبح في حالة من الضياع والتشرد، هذا الشعور يولد إحساساً بالمرارة والشقاء والرغبة بصراخ يظل مكتوماً، ذلك أنه ما زال عنده القدرة على العطاء لهذا الوطن الذي أحبه فأغدق عليه ليتعلم، وهو حين يريد العمل، إنما هي رغبة برد جميل الوطن عليه، إن لم يكن جزءاً من الواجب.
ونحن نقرأ الرواية نكتشف بسهولة أنها سيرة ذاتية للمؤلف، من خلال معاناة ميهود يسرد الكاتب عذابات المثقفين في مجتمعاتنا العربية، بأسلوب لا يخلو من الامتعاض والسخرية أحياناً حين يقارن حال المثقفين بالمطربين المبتذلين الذين يملأون الفضائيات صراخاً وسط رقصات هي أقرب إلى تقافز القرود منها إلى ذلك الفن السامي.
مواقف ومواقف
ليس مهمة الروائي السرد وقص الحكايات للتسلية كما كانت تفعل الجدات، فالروائي اليوم لابد أن يكون صاحب موقف نتلمسه خلال القصة أو الرواية، وهدف كبير يسعى إليه، فعلى مدى صفحات رواية " أحضان المنافي " نتعرف على موقف الراوي من رجال الدين والسياسة والمجتمع، فهو يصرح على لسان أبطاله بموقفه من بعض رجال الدين الذين ترتبط مواقفهم بالسلطة التي يتبعون إليها لا بموقف الدين نفسه، ويأتي ذلك في مواضيع خطيرة كموضوع غزو العراق " شيوخ الدين عندنا موظفون لدى الدولة، ولا يتمتعون بحرية ولا يمكن أن يتحدثوا في موضوع تراه الدولة غير مناسب، غداً سوف تخرج مظاهرة في لندن من مليون مسلم ومؤيد للعراق أين نحن من هذا " ، وعن حيرة رجال الدين في الكويت بعد مقتل رجل قام بقتل جندي أمريكي في اعتباره شهيداً أم مجرماً؟ مما يدل على عدم إدراكهم لمسؤوليتهم الشرعية والأخلاقية.
يصف لنا سلوك بعض الناس وهم كثيراً ما نجدهم في حياتنا، يتخذون من الدين ستاراً لسلوكهم المنافق " تعجبت من شاب متدين كان يرفض دخول الساقطة إلى مكتبه، وينصح الزملاء بعدم وضع صور فنانات على مكاتبهم، وكان كثير الاستشهاد بالآيات القرآنية في حديثه. كان يزين مكتبه بحكم دينية تعني التطهر والأمانة والاستقامة! وفي الليل يختلي مع المدير العام وزبانيته ويقوم بخلع عباءته القذرة ويبدأ في انتقاد أداء زملائه، يزور للمدير العام الحقائق ويتهمني بعدم الكفاءة والقدرة على أداء العمل"
ومما نلمسه في (أحضان المنافي) عشق الكاتب لوطنه، غير أن ذلك لا يمنعه من نقده لمجتمعه الذي عاش فيه، لا ترفعاً عليه، وإنما رغبة منه في أن يظل هو الأجمل في نظره رغم سياحته في العديد من البلدان وتعرفه على مجتمعاتها عن كثب.
من هنا يكون الشعور بالنفي داخل المجتمع نفسه، وهو أقسى أنواع الغربة " فما بالكم عندما يكون الإنسان منفياً داخل ذاته! وموثوقاً إلى عذابات الذات المثخنة بجراحها واحتجاجاتها الخرساء ضد الأشياء المقلوبة والأفكار المعكوسة التي تمثل منهاجاً لواقع حال المجتمع الذي رضع حليب العادة وتربى داخل حضن الخنوع" ، ولعل قمة الشعور بالغربة حين يجد نفسه وهو يسير على الكورنيش منفصلاً عن الناس " الكل له سبب في المشي على الكورنيش ! لكن أحداً لم يكن يفكر بأسبابي أنا" ، وهو هنا يذكرنا بالشاعر سعدي يوسف حين يقول بالدلالة نفسها ( أسير مع الناس وخطوتي وحدي)، كذلك نظرته لتبدل أخلاق الناس وسخطه على الجيل الجديد الذي فقد قيمه " جيل لا يعرف ما هي المعلقات ولا جماليات اللغة العربية، جيل منفصل عن التاريخ والجغرافيا، جيل ممزق بين المسجد والبار، بين عفة المسلم وأفخاذ (شاكيرا)، بين الرجولة والصلابة ودعوات التخنث"
يفصل ميهود- الراوي بوعي بين الموقف السياسي والاجتماعي، فرغم موقفه من الأمريكان وسياساتهم الخرقاء، لكنه لا يخفي إعجابه بمجتمعهم وانضباطهم في العمل، كانت رحلته إلى أمريكا تجربة ثمينة، والناضج هو وحده من تغيره التجارب لا الإبقاء على ما في الرأس من مفاهيم " الجديد مذهل في تجربتي الذاتية ...... السلوكيات العامة للناس . قص الحشيش أمام المنزل من الصفات الحضارية للجار. سياسات الأحزاب والنقابات والحقوق المدنية. كانت حواراتي مع الأساتذة تفريغاً لشحنات من التراكمات الثقافية التي يشوبها التشوه بفعل الإعلام العربي وسياسات القمع وتكميم الأفواه والدجل الرسمي! كنت أتمنى أن يسمع القائمون على الإعلام والصحافة في البلاد العربية تلك الحوارات التي تدخلهم عالم الإعلام الحقيقي بعيداً عما يمارسونه من دعاية فجة للحكام وتغييب للمواطنين" ، أو حين يسمع مديرة المعهد تقول لهم "- نحن هنا في أمريكا، الكل يعمل ما يحلو له ضمن القانون.نحترم احتفاظكم بقيمكم، وعليكم احترام قيمنا. مجتمعنا مفتوح ومتعدد الجنسيات والأعراق، وسوف تلاحظون أننا أكثر الشعوب انفتاحاً " ، وفي موقع آخر يقول الراوي في استرسال طويل " أمريكا تتيح لك المجال لأي توجه ترتئيه، لا مخابرات ولا جواسيس إلا من البلدان العربية.لذلك يخاف مواطنو الأنظمة الشمولية من وجود جواسيس تلاحقهم خصوصاً من طلبة العراق وإيران. أما نحن فلم نكن نخاف إلا من الملحق الثقافي الذي كان يلاحق المعهد ويسأل عن تقديراتنا ومدى التزامنا بالدوام" ، لكن البطل ميهود يقع ضحية التعصب حين يطرد من الجامعة لدفاعه عن عبد الناصر وتيتو وحركة عدم الانحياز.
المكان فضاء الرواية الرحب
يشكل المكان أحد عناصر الرواية المهمة، وإذا كان البعض يراه مسرحاً تجري فيه الأحداث، فإن فرانسواز روسوم ترى غير ذلك فتقول ( ليس فقط هو المكان الذي تجري فيه المغامرة المحكية، ولكن أيضاً أحد العناصر الفاعلة في تلك المغامرة نفسها)، فالمكان له سطوته وتأثيره في الحدث، وهو يلقي بظلاله على الشخصية، " فالمكان موضوع للرغبة إذا كان ملكية عقارية مثلاً عند بلزاك، وهو موضوع للنفور إذا كان حياً فقيراً في عيني حميدة الطامحة للثراء، وهو موئل وملاذ مبارك بجوار الحسين لعائلة متوسطة" ، وهكذا يبدو المكان مقرفاً لميهود الحالم بأن يصبح كاتباً كبيراً "احتوتني غرفتي الصغيرة بطرف المنزل .. ليس فيها أثاث فاخر..سرير خشبي قاس وخزانة ملابس ذات بابين وطاولة كتابة من (الفورمايكا) الرخيصة. حمام الغرفة أشبه بصلعة رجل مسن، ثلاثة أمتار من الأسمنت الخشن. ليس فيه أية ديكورات، من يدخل حمامي؟ كانت قدماي ترتجفان أيام الشتاء من برودة أرضية الحمام أو الغرفة كلية. طاولة الكتابة كانت أعز ما في الغرفة. هل يمكن لشخص يريد أن يصبح مشهوراً أن يسكن في هذا المكان؟ أم أن الظروف سوف تتغير"

بناء الرواية
يتخذ د. أحمد عبد الملك في روايته "أحضان المنافي" المقهى الشعبي مسرحاً لحركة شخصياته، ومن خلال هذا المقهى نتعرف على ملامح الشخصية الخليجية والمجتمع الخليجي بما يضمه من تنوع ثقافي وعرقي وديني أيضاً، تشكل بفعل ظهور النفط وتقاطر الناس على هذه المنطقة من كل حدب وصوب، هذا الخليج الذي حول العمال الهنود إلى صيادين ذلك أن ( النفط له رائحة نافذة، جذبهم النفط من الجبال والوديان وديمقراطية الهند العتيقة إلى التكسب حتى في البحر، الذي يأتي إليهم بالدوار والإسهال) ، ويتنقل ميهود من مكان إلى آخر من المقهى على البحر، وبأسلوب الفلاش باك يستذكر تنقلاته بين لبنان ومصر وما يلاقي في هذين المكانين من أحداث، الحرب اللبنانية التي يفر منها إلى مصر، ثم انتقاله إلى أمريكا وبعدها بريطانيا.
يستخدم الروائي أسلوب السرد الدائري فحين تبدأ الرواية من نقطة معينة ليست هي البداية، إنما هي جزء من حياة الشخصية التي تروي الحدث (ميهود في المقهى) ينتقل لأكثر من حادثة ليعود إلى النقطة ذاتها حيث يجلس هو وصلاح في مقهى شعبي.
كما إن تأثير السينما يبدو واضحاً في لغة السارد الذي ورثه من أبيه، وذلك من خلال استخدامه لتقنياتها في روايته، ففي مشهد سينمائي بانورامي طويل يتخلله قطع وفلاش باك وعودة إلى مشهد سابق، يستعرض الكاتب شخصيات المقهى لنتعرف عليها وعلى مجتمع يمور من الداخل من خلالها، فالمجتمع الخليجي مثل غيره من المجتمعات له همومه وإن اختلفت عن هموم غيره حيث (الشباب المقالون من أعمالهم) ، وتحولهم إلى أصفار على الشمال لا قيمة لهم، وهذا الشعور بالعجز وعدم القدرة على العيش بشكل طبيعي، الأمر الذي لابد أن ينعكس على علاقاتهم بنسائهم، والشيوخ الذين مازال فيهم رمق وعشق للحياة لهم همومهم أيضاً (يقولون توجد روسيات هنا) ، ووسط هذه الأجواء الخليجية، نجد عرباً يمتصون الشيشة ويتذكرون شوارع القاهرة وحواريها، وبين كل هؤلاء العامل الآسيوي (سهيل) الذي لا يكف عن الدوران مثل ثور يلبي طلبات زبائن لا يكفون عن الصراخ في وجهه.
يلجأ الروائي إلى السارد الذي يستخدم ضمير المتكلم فهو موجود وعالم بما سيجري، يمثل الراوي هنا نموذجاً لجيل من الشباب، أحب وطنه حد العشق، لكنه لم ينل غير الخيبات، رغم طموحه ورغبته في خدمة (وردة) وهي الوطن لكنه يشعر بالإقصاء والتهميش الذي يتسلل إلى نفسه ليعبر عن جيل كامل من الشباب فقدوا حماسهم للحياة والعمل.
رغم حبكة الرواية التي اجتهد الكاتب في صياغتها، غير أني أحسب أن هناك بعض الإطالة التي لا موجب لها في بعض المواقف، غير أن الروائي يبقى حراً فيما يقول.

الشخصية
يبني الروائي شخصياته مستمداً بعضها من الواقع مضيفاً عليها بعض الصفات والسلوكيات ليمنحها خصوصيتها كشخصية جديدة، وربما قدم الروائي شخصية واقعية لكنه غير بعض ملامحها، فما عادت تشبه الشخصية الأصلية، يقول نجيب محفوظ أن أحد شخصيات "خان الخليلي" شخصية حقيقية وهو من معارفه لكنه لم يتعرف على نفسه في العمل، ذلك أن الروائي يطرح الشخصية كما يريد لها أن تكون لا كما هي في الواقع، ومن قرأ عمل الدكتور عبد الملك يحاول إسقاط هذه الشخصية الروائية على هذه الشخصية الواقعية أو تلك، إنما يظلم الرواية، لأن تلك الشخصيات أعاد الروائي خلقها على الورق من جديد، وربما اخترعها من عنده، مثل شخصية (أحمد) ربما لا يكون لها وجود لكنه وضعها لضرورات النص أو لإسقاطات أرادها.
الشخصية في الرواية كما هي في الحياة فهي لا تنمو ولا تتطور ما لم تمر بها التجارب، والروائي حين يطلق على الشخصية أسمها فإنه سيحتاج إلى عدد من التجارب والأحداث التي تطور هذه الشخصية، وهكذا فنحن نتعرف على الراوي من خلال رصده لشخصيات الرواية فنكتشف أن الشخصية المحورية في العمل هي (ميهود) حتى الاسم هنا لا يخلو من دلالة، فهو (مجهود) أي المتعب غير أن بعض أهل الخليج يقلبون الجيم ياء، (ميهود) الذي تربى في ظل أب ما زال يتذكره بعد سنوات طويلة على رحيله، هذا الأب الذي كان يقرأ ويحفظ الشعر العربي والفارسي في وقت لم يكن فيه هناك من يفك الحرف إلا القليل. كان أبوه ذا شخصية منفتحة من خلال جمعه لجانبي الحياة، فلا هو باللاهي العابث، ولا هو بالناسك المنقطع عن الحياة، كان قاسياً على أولاده لإدراكه بالواقع الذي سيواجههم.
الطفولة هذا العالم الجميل ماذا يتذكر ( ميهود) منه، كان يعمل وهو صغير، فقد جرب العمل، لكن ( لم تحتمل أصابعي الغضة شراسة الطابوق وحدة الأسمنت. تعبت جداً من نظرات أصحابي كلما شاهدوني بالثياب الرثة وبقايا الأسمنت متعرجة في جسدي بينما هم يتلذذون بشرب المياه الغازية الملونة ويرفلون في ثيابهم الناصعة) ، في داخل ميهود نوع خاص من التحدي، محاولة النجاح والتلذذ بهذا النجاح حين يراه في عيون الآخرين وحسرتهم، فكان ينفق ما يحصل عليه لتحقيق أحلامه الطفولية( ركبت الدراجة أفاخر بها في الحي وأتعمد المرور على الدكاكين ومواقع تجمع أقراني الذين يحتقرون عملي)
في خط تصاعدي نام نرى (ميهود) تنمو شخصيته وتتطور وفق ظروف متغيرة، يحاول هو من خلالها تحقيق نجاحات عجز غيره عن تحقيقها. لا ينجح الروائي إذا لم يكن يمتلك الشجاعة والقدرة على الإفلات من القيم الاجتماعية التي تشدنا إلى الوراء، أحمد عبد الملك يمتلك هذه الشجاعة ويعبر على لسان الراوي عن هذه الشكوى: ألا تكفيني سهام المرض الاجتماعي؟؟ ، يحدثنا عن تبدلاته المهنية واهتماماته، حيث ولعه بالمسرح ومعاناته في اختيار مهنة لا يقدرها الناس فكيف بمن يمثل دور فتاة؟ وعمله مع فرقة يرسم لنا شخصيات أعضائها بإتقان، ثم العمل في الإذاعة وكتابة المسلسلات والتمثيل والكتابة في المجلة الوحيدة في البلد، في تسابق مع الزمن، ولا يخفي سروره في رؤية صورته على صفحاتها، يتنقل من عمله في البنك الذي لم ينجح فيه لارتباطه بحب العمل الفني الذي يجد نفسه فيه فيخسر ما عداه، دون أن يحقق طموحه فيما اتجه إليه.
ولكن ما الذي حقق حب الثقافة والفن إنها مجرد حسرة وخيبة يعبر عنها ميهود حين يقارن واقعه الحالي بعد حصوله على الدكتوراه بين بقائه في عمله في البنك " ها هي الهامات المنتصبة على أرجل الجهل والزيف تتقاطر على البنك كي تودع أموالاً يصعب حسابها، دونما دراسة أو تعب.وهاماتنا تنحني مع رؤوس العلم والأمانة وجيوبنا خالية " هذه الحيرة تشغل معظم المشتغلين بالثقافة في كل مكان.
يكشف الروائي في هذا العمل تفاصيل عن شخصية الفرد الخليجي ربما لا يدركها الآخر، الذي لا يرى فيه غير مظهر يلفه البياض في تعبير واضح عن داخل راض هانئ سعيد وبال هادئ صاف، لكن الروائي عبد الملك وهو ابن هذه الأرض ينقل إلينا بجرأة وصراحة يحسد عليها في أكثر من موقع، هموماً ربما لا يتوقع الكثيرون أنها تشغل ابن الخليج، فمنهم الضاحك وقلبه مدم، والمنتعش وهو يخفي روحاً معذبة لم تذق السعادة، والناقم الذي لا يرى خيراً قادماً وهكذا، إنه يرسم صورة لهؤلاء الذين يجمعهم المقهى وتفرقهم الهموم (الكل يمثل شخصين، أحدهما البارز المحاور الباسم العابس، والآخر تحت الجلد، تعلم كيف يصمت حتى يأتيه الراتب آخر الشهر)

فاعلية الزمن
لو لم يلجأ الروائي إلى تثبيت التواريخ بهذا الشكل القاطع عام 1968، في عام 1975، وفي عام 2... لانصرف ذهن القارئ عن كون ما يقرأه سيرة ذاتية مما يضطره فيما بعد إلى مطابقة بين تواريخ يعرفها عن الروائي ربما لا تفلح أحياناً، فالروائي معني بالحدث والسرد أكثر من عنايته بالتواريخ ذاتها.ونلمس حركة الزمن بسنوات الدراسة التي يمضيها بعيداً عن بلده وابنته وابنه اللذان يكبران، وفي مشهد فيه من الحسرة أكثر مما فيه من الفرح حين يعود بعد نيل الدكتوراه، وهو يحدق في زجاج الطائرة ليرى رأسه وقد اشتعل شيباً، سنوات كثيرة أمضاها في المنفى والدراسة والتعب، ثم ماذا جنى؟

الوعي السياسي
لا تخلو الرواية من تلمحيات وتصريحات سياسية تنم عن وعي الروائي السياسي من خلال ما يرد على لسان شخصيات العمل، وعلى لسان (ميهود) تحديداً فهو الراوي الأساسي وبطل العمل أيضاً الذي يتماهى مع الروائي نفسه في كثير من المواقع، من ذلك "يبدو أننا سنبقى تحت رحمة الأمريكان لفترة طويلة" ، فهو يرى أن السياسة لا تتوقف عند حد الفعل السياسي، وإنما تتعداه إلى التأثير في بنية المجتمع الخليجي، فيتغير السلوك والطباع بتغير نمط المأكل والملبس، والتخلي عما هو وطني لصالح ما هو مستورد " ونعم بالله، ولكن ألا ترى هذا التدخل اللامحدود في حياتنا وقيمنا. هل لك أن تخبرني ماذا يأكل أولادك ؟ ماذا يلبسون ؟ ماذا يشاهدون ؟"، يسترسل الراوي مذكراً بخطر هذه التحولات حين يستشهد بقول لوزير الخارجية الأمريكية " سنفرض الأفكار الأمريكية وإن تعارضت مع الإسلام" ، ثم وبأسلوب يغلب عليه الطابع الصحفي - فالرجل إعلامي - يسرد لنا موقف السعودية من الأخوان المسلمين ويستعرض رسالة ابن لادن حول العراق، ثم حديث عن التحولات السياسية بعد سقوط نظام بغداد، حيث زمن الفوضى في كل شئ والبغاء السياسي عبر الفضائيات " يوم 2. مارس يضرب العراق، ويوم 9 إبريل تدخل القوات الأمريكية بغداد وتعلن سقوط النظام الذي تلاشى مع دخول طلائع القوات الأمريكية . وبينما كان وزير الإعلام العراقي الصحاف يمارس كذبه على الأمة العربية، تماماً كما حصل عام النكسة في 1967، تبدأ مرحلة جديدة في المنطقة حيث ترهن هذه المنطقة لأجل ليس بقريب في يد الولايات المتحدة"
الكاتب يرى أن سقوط الأنظمة السياسية العربية سببها سقوط أخلاقي قبل أن يكون سقوطاً سياسياً حيث لا قيمة للمواطن في بلده، "في بعض بلدان وطننا العربي يبيعون الدجاج واللحم الفاسد (عيني عينك) أمام مرأى الحكومات والناس تأكل وتتسمم وتموت ولا أحد يسأل أو يحاسب" ، أما في أمريكا فإن غذاء الحيوانات فيه تاريخ للصلاحية !!!

جماليات الوصف
أغلب الظن أن المبدع حين يكتب روايته فهو يمضي فيها وبوصلته الحالة الإبداعية، فهو لا يكتب ضمن اشتراطات يضعها لنفسه، والوصف عند عبد الملك ينساب بجمالية وعذوبة لا بإنشائية مقصودة، وإن كنا نجد هنا أو هناك صفحات صحفية أكثر من كونها روائية. من الوصف الذي مررت به في النص وهو كثير منه ما يقترب من لغة السينما، من ذلك وصفه لمنظر من الطائرة " أشجار السنديان العتيقة تبرز كرماح أفريقية من خلال الثلج الناصع " ، وفي وصفه للسمسار الذي حضر إلى الفندق " حك السمسار البدين طرف أنفه، وأنزل جزءاً من فانيلته الصوفية التي رفعها كرشه إلى صدره" ، إعجابه بحبيبته هيلين جعله يستخدم كل الحواس لينقلنا إلى ليلته الحميمة النظر والشم والإحساس " صورة جسدها لم تفارقني، عطرها لا زال عالقاً في شعري، أنفاسها لازلت أشعر بها حول عنقي"، ثم وبعبارة موجزة يلهب مشاعر القارئ حين يقول " غطيت ساق هيلين الأبنوسي الذي تدلى من السرير" . من الصور الجميلة الأخرى وهي كثيرة، ذلك هذا الطالب الجامعي البسيط الذي تعشقه الأستاذة مقابل تجاهلها للكويتي بثرائه " إلى جانب دراجته التي يربطها كعنزة مريضة عند مدخل المعهد"
يهتم الكاتب بالوصف كثيراً دون إقحام فهو يأخذ القارئ من يده ليريه ما يرى ذهنه بهدوء فينقل إلينا ببضع كلمات الصور التي تختلج في نفسه بما يخدم العمل الفني، فحين يصف مريم بهذا النقاء لاحظوا حتى اختيار الاسم له دلالته فكما يقولون لكل امرئ من اسمه نصيب، تتجسد أمامنا بجمالها النقي شابة رائعة الجمال مثل قمر " مريم فتاة رقراقة أصيلة، مستديرة الوجه، بيضاء تسر الناظرين. جسدها متوائم في قالب أحسن الله صنعه، فمها صغير كحبة فراولة، عيناها واسعتان، محتشمة المظهر، تداوم على الصلاة وتخبئ خلف عينيها رماداً كربلائياً!.....الوجه القمري"
ومن تأثيرات السينما في الروائي "وفاجأتني صورة مريم كفيلم تسجيلي"، ثم يضيف المؤثرات صوتية لوصفه "استقبلني البحر كعادته صامتاً إلا من قرقعة بعض العلب الفارغة التي تناطح صخور الشاطئ،" ثم يستمر لخلق جو انفعالي مع شخصية ميهود في هذه اللحظة، فالمكان جزء من الحالة النفسية "يمد البحر لساناً رقيقا تحت قدمي ...بعض القشوريات تتجول عمياء على الشاطئ، نوارس تتصارع حول سمكة نافقة . آسيويون يتسلون بصيد السمك الصغير عديم الفائدة " كل ذلك انعكاس لحالة ميهود المأزومة.كما يهتم الروائي بإبراز الألوان فالباب مطلي بالأخضر والثوب وردي فلا يفوته أن يذكر لون الأشياء التي يذكرها، فهو يرسم بالكلمات.

أفول الحلم
يختتم أحمد عبد الملك بكم هائل من الصور التي تفضح سوء التقدير في مجتمعاتنا العربية، وعن لوعة ذوي العقول، وقبل أن يتساءل في الصفحة الأخيرة لماذا أنا، كان يتساءل ويشكو من ضيق حضن (وردة) الذي لا يتسع لواحد مثله، غير أن الإجابة وجدناها حين تحدث بتفصيل جميل ومؤلم، جميل في سرده، ومؤلم في وقائعه عن رحلته في المؤسسة الخاصة، فنردد قول الشاعر:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلهاولكن أخلاق الرجال تضيق
غير أن هؤلاء لا يمتلكون من صفات الرجولة شيئاً، فقد عاشوا طحالب على النميمة والنفاق.لقد وجدت في هذا العمل صدقاً وجرأة ربما لا تتوفر عند غير عبد الملك، وفي الرواية الكثير من الوقفات التي تستحق التأمل والإشادة.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف