نهود حتى لا ننسى دي لاسيرنا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بمناسبة صدور كتاب "نهود" للفرنسي جان غيرشي:
ها جان غيرشي تجرأ أن ينط، في غفلته وانتباه الناس كلهم، دون بسالة تذكر، قدام رامون غوميس دي لاسيرنا (مدريد 1888 بوينيس إيريس 1963). ويسمي كتابا يصدره هذه الأيام بنفس عنوان رائعة دي لاسيرنا. يشفع له أنه أصيب هو أيضا ثمة حيث لا برء يجدي وأنه طالما اكتوى بجمال الكتاب الأصلي "نهود" واستبطن، لفترة، انتشاء وألما ونضوب الهام إزاءها، وظل لأزمنة غير ذا قدرة أن يخط حرفا أو تُقتاد إلى يديه استدارة صدر، ما كان، حسبما يبدر منه، مفارقا، في كلا الأمرين، لطبائعه منذ يفاعته.
لم يحتفظ فقط باسم الكتاب بل لن يك قط بمقدوره أن يضيف، مثلما يعتد بخلاف ذلك، شيئا إلا وكان ينسخ أو يحاذي المعلم دون أن يلامس حتى كعبيه. فليس نادرا أن يبز التلميذ شيخه. غير أنه ها هنا شتان بين كتابة جان والمغامرة المعرفية لدي لاسيرنا.
يعلل جان خطوته بكون "نهود" ليس ملكا لدي لاسيرنا وأنه ليس كتابا وإنما ورشة كبرى مفتوحة لمن قد يستل إزميله ويباشر في الصخر خطورة المعنى. تكون بذلك كبوته الثانية لما راح يحلم أن يعتلي كتابه مثابة الأول و يذكر جنبه. شيء مهم لدى جان غيرشي أن يكون من يعشق نصا ويرغب أن يقتسم متعته مع القاريء. لن أتحامل كثيرا على جان، فهو لم يقم منذ اندهاشه الأول بنسخ الأحرف الجميلة أو البورتريهات الرائعة كما قد يفعل أي فنان عاشق ومبتدئ، لَمَّا يحب و يعشق جمالا وييأس من خلق ومن عدم علم بكيف يمكن أن نتلقى به أمرا خطرا يشد على مناطق ملتبسة منا. جان غيرشي يذكرني بدورتي التي درت فيها مع جمال نص دي لاسيرنا و كيف حُمت نفسي حول صعوبة إمساك إزاء الجنون الذي يبقّع به أدنى شبر من وعي متبق قبل غيبوبة معرفية قلقة. حاولت ترجمات و ملأت مسودات، كما قمت أكتب عن كيف أفلح الرجل في مهنة "كاتب النهود و ناقدها الفني الأكبر". غير أنني انزوي كل مرة وأعرف أن ليس سوى لنصه أن يعلقنا وحده من عل الرقاب دون أية حواش لا تليق.
حاول جان في كتابه أن يتبع نوعا خطى دي لاسيرنا، سواء في الموضوع أولا و في روح العناوين بل أحيانا في حرفيتها و كذا في الزاوية التي ينظر منها إلى الصدر.
ما لاحظت هو أن جان غيرشي لا يكتب عن "النهد" مثل ما كان دي لاسيرنا يكتب عن قوة رغبات في الإمساك بمعنى وجدوى ذلك النتوء الجميل أعلى جذع امرأة. وإنما يكتب نوعا من أوتوبيوغرافيا في العلاقة مع تجارب ونهود ما. و كأنه يجيب عن أسئلة معينة ويعاود بنا مدارات طفولته وبعض أسفاره وتلك اللقاءات العابرة التي كانت على الموعد.
يكتب فصولا تطول أو تقصر لكنها أبعد عن دقة و عمق مباحث دي لاسيرنا. ولست ادري هل لربما يجب دائما كي نضيف شيئا أنه علينا أن نضيفه بنفس الإيقاع ونفس النغمة، إذ لماذا لم يبدع جان شكلا ومعنى آخر دون أن يقتفي في الأمر نصا متعاليا على التقليد أو الإتباع لأنه فريد وأساسي في موضوعه وطريقته التي لن تقلد. ثمة اعتراف لجان يقول فيه أنه شاء مرة أن ينشر نصوصا لدي لاسيرنا و يضمنها بعض نصوصه عن النهد، إذ اعتقد أنها لن يلمحها أحد. غير أنه تراجع عن الأمر إذ تدارك أنه لربما سيوجد ثمة من سوف يضع يده على العملة الفاسدة.
كتاب جان غيرشي من جهة لغته جميل فهو كتب بفرنسية جيدة تشي بقوة ما وانتباه إلى تلافيف الجمل واختيار العبارات الدالة البعيدة عن جفاف بعض الأساليب وهزالة وقعها لدى القارئ. فالذي لا يعرف كتاب دي لاسيرنا سيحب كتاب غيرشي وإن كان، كما أسلفت، ليس من فصيلته البتة.
يكتب في ص 31 عن "نهود ليلى"، تلك المراهقة التي اختلى بها بإحدى المزارع شمال المغرب. ما يبعد جان عن دي لاسيرنا هو أنه حين يكتب يتحدث أكثر عن أشياء أخرى أكثر مما يتحدث عن النهد ولربما ذلك اختيار، وكونه رفع يافطة "ديلاسيرنية" ليس سوى دسيسة لشد القارئ وإعلان اختلافه رغم اعتماده التام عليه. هذه الفتاة سوف تلقنه اسم النهد بالعربية (المغربية طبعا كما يقول) ويجد أنه أفضل اسم عرفه للنهد في وقعه و في كل الأمثلة التي جاء بها في فقه اللغة و استعمالات نفس الكلمة مركبة مع إضافة لطرح معاني أخرى. كلمة "بزولة" وجمعها "بزازل" ما دفع الكاتب إلى تعلم العربية حسب قوله. وإن كنت أجد أن تلك الكلمة في المفرد أكثر احتشاما منها في الجمع وإن كان المغرب يمتاز بغنى لغوي لتمتح منه مفردات كثيرة جدا أكثر جمالا ودلالة. ولم ينس جان غيرشي أن يدس بعض مدح للقدرة الهائلة للعربية في القبض على تقاسيم الأشياء بجمالية قصوى!
يبدو علم دي لاسيرنا حول النهد أكثر ارتكازا على أسس نتجت عن طول تحر و دراسة، بينما جان غيرشي ليس سوى من يطلق انطباعات غير مؤسسة على فلسفة ما، فهو مثلا يتحدث عن إمكان إغراء المرأة و ممارسة جاذبية أولى عليها بالنظر إلى صدرها و ليس بالنظر طولا إلى عينيها (ص137 ) ما يختلف فيه عن دي لاسيرنا الذي يرى خلاف ذلك تماما أن أكبر خطأ يرتكبه المبتدئون هو متى يهمّ أحدهم أن يغوي امرأة انطلاقا من صدرها(ص 270).
تحدث جان غيرشي عن نساء كثيرة عرفها عن قرب أو رآها على الشاشة و سجل بعض تفاصيل بخصوص جانب أو آخر من ملامحها و دهشة استلالها لما في صدورهن من أسرار باهظة. مثال زميلته ديدي التي مضت إلى الموت في منعطف بعد أن تركت تمارينُ رقصها عطشَه أبديا وشقت في وعيه إلى أزل ما سماه لدى التصاق جسديهما التصاقا، أراه مصطلحا جميلا، "التشريح المقارن"! هذه التي خرجت كائنات الحلزون، التي جاءت بها كي تناقش رسالة دبلومها، تتجول في المختبر !
يذكر كذلك كيف أن نهود محارمكم (الابنة، الأخت...) وقرابتكم هي نهودكم ومن يلمسها ويأخذها ويعضها هم أعداء لكم، غير أنهم أكثر الأعداء حميمية ! ( ص 138).
أما صور النهد التي قد تصلنا عبر البريد فهي جد ملغزة إذ يلزم أولا أن نتساءل في البدء من أخذها ؟ و من تسلل إلى السوتيان و فك عنه شرنقته؟!
جان غيرشي بدأ كتابه بتحديد لغوي بسيط أفضى به إلى أن يؤكد أهمية النهد و الهالة التي لفّته منذ القدم، إذ نقول بالفرنسية se perdre dans le sein de la foule كي نشير إلى انغمار في خضم الزحام، إذ sein النهد، يشير أيضا إلى قلب، وسط، مركز، خضم، حسب السياق. لذلك فجان قد ضاع في النهد و ضيعه النهد و ضاع منه النهد مثلما يقول. و ليس جزافا كذلك أن يبدأ بعبارة صينية قديمة من عهد الهان تقول: "نهد واحد يكفي !" فهل يكفي يا ترى و يقي من كل التيه الممكن؟!
و إن عدت إلى دي لا سيرنا، و اصطدمت ثانية بجمال نصه، أذكر ما قاله بيسوا عن قراءاته، كونه ينشغل عن العمل الذي يقرأ بإعادة كتابته.
فذهاب دي لاسيرنا جهة كنوز الصدر أقل اكتراثا بالمخاطر من أي سندباد حقيقي، إذ يمضي حتى آخر منعرج كي يكمل جينيالوجيا جمال ما و سيرة علو تعلو في نثره ما قد يكون في الواقع أقل صمودا من براعة تداعياته الفلسفية.
يثير كثيرا من الانتباه نحو غير المرئي و المخبوء من جمالية الفكرة عن النهد و انشغال المرأة بها عن كل ما يحيطها دون غيره. مثل المرأة التي تملك أفضل النهود، هذه التي ترى، مثلما يقول دي لاسيرنا، الحياة من منظار يتيح لها أن تعتقد أن لمس نهديها هو أعلى وأكبر من مجرد لمس بسيط إذ أنه جس سر الحياة بعينها (ص 43) يقول لها أن لمس نهديها ليس مجرد لمس نهدين ولكنه اقتدار مطلق لمعالجة حميميتها الداخلية بيدين.
"لكنك تلعب بهما مثلما يلعب طفل غبي بأي شيء تافه!"
هذه المرأة تملك نهدين شرعيين في كمال مطلق. استدارة وإمعان لانهائيان في الجمال، وإمكانية عليا لبانوراما خاصة، ليسا من هذه النهود الفارغة، التي ليست سوى جوارب أو جيوب معزولة و متدلية في انبطاح وسط الصدر.
انظروا إلى أي حد استطاع دي لاسيرنا أن يرى في لمس نهدين إعلانا عن تأكيد لحياة. إذ يرى أن ليس عليه، في اللحظات الحرجة، سوى أن يفكر في ذينك النهدين كي يحس بسعادة ما، ولكأنه قبض في يديه بماء زلال شديد الشفافية وكثيف في الآن نفسه. ما أفسد قليلا لذته وانتشاءه هو كون ذينك النهدين سوف يفسدان وأنهما يهرعان في توءدة إلى نهايتهما !
فإن كان دي لاسيرنا يقف هنا شاهدا على أفضل نهدين و يعيرهما أفضل ما يستحقان بلمسة عرفان، فإن ثمة من لا يدرك قيمة ارتفاع تَلَّين من كهرباء و شحنات أخرى أقوى و أدعى لحس رهيف. السيد الذي يملك، ضمن كل ما يملك من أشياء، نهدين يجهل مدى حسيتهما و رغبتهما في إشباع تام.
المرأة التي يملك لم يمس أحد بعد نهديها. لقد كان الجميع جادا أكثر من اللازم معهما، و عاشا لذلك عوزا فظيعا لهذا السبب نفسه. لذلك قيض لهما أن يظلا هكذا في سكون و يموتا في آخر الأمر على "شجرة العزلة"!
رجلها لم يدرك أبدا أي نهدين تملك تلك المرأة أو يملك هو. نهدان نقيان لم يمسسهما أحد. كان على هذه المرأة، مثلما يرى دي لاسيرنا، أن تبحث في ليلة زفافها، عن عاشق يدرك أكثر قيمتهما. أية خسارة كبرى إذن إذ يفقدان في تلك الليلة و بعدها أريجهما بين يدي ذلك المغفل!
و كي نمضي قليلا في استذكار روعة دي لاسيرنا و ذهابه العميق في مبحثه أبعد و أبعد عن حبو جان غيرشي، أقترب من نصوصه و أحاول أن استقي منها بعض ملامح اقتدار الرجل و اختصاصه.
و عندما اختلى بتلك المرأة، في نص "اعتراف"، و صارا في عزلة خاصة تليق باعتراف صريح لم يحصل له مع امرأة أخرى، سألها:
"بماذا تشعرين في نهديك ؟!"
هذا السؤال لم يكن تنطعا جزافيا، بل قلقا مشروعا تجاه ما قد يمكن أن يتدارك في وعيه إذ لربما يمنح إيجاد إجابة حقيقية له نوعا من الارتياح الخاص.
"صمتت قليلا واحمرت وجنتاها بشكل غريب ولكأننا في يوم لقائنا الأول وإن كان بيننا وبينه أمد.
قالت: "ألن تحس بالأسى إن صارحتك؟! ألن يأخذك الأسى إلى الأبد؟!
أجابها: لكن لا ...
اسمع إذن، و قالت له:
إن حساسية نهودنا باردة، إنها أبعد عن شهوانيتنا، إنها جبال على قممها ثلج، احترسوا أن تخدشونا فيها بشكل غير لائق".
النساء إذن تهزأ بمن يلعب بشكل أعمى بنهودهن، و يسخرن من غبائه، إذ أن نهودهن فارغة و غير قابلة لأية حساسية ممكنة. ولما فارق تلك المرأة، طلبت منه أن يحفظ السر، إذ أنها لم تبح بالأمر لرجل آخر سواه، و أكدت له أن النساء عندما يبحن بسر لرجل دون غيره فذلك يعني أنهن يمنحن له ما لم ُيمنح لرجل آخر من ذي قبل. أما المرأة التي تملك نهدين تعبين، فلن يعودا يصلحان لشيء، إذ مثقلين من النَّصَب، ليس من الأفضل إلا أن يتركا لحالهما، إذ لن يستطيعا أبدا ثمة أي صعود محتمل !
"يتدليان مثل دموع تسقط من عيني امرأة مرهقة"
إنهما إذن نهدا يأس و تستحيل عودتهما إلى بريق ما. تعبان من ثقل السنوات و العمر و كثرة احتكاكهما بأيدي شهوانية ما. هذه النهود ما عليها سوى أن تسقط مثل دموع على الذي مضى إلى الأبد و لن يمكن أبدا استرجاعه و تداركه مطلقا.
يصل دي لاسيرنا إلى أمر جدير بالتأمل؛ وعي حر و متنور. هذه الصبايا اللواتي تندفع الحياة من صدورهن، ثرة و قوية على شكل نهود سابقة لأوانها أو أنها منبعثة بحق في حينها. حتى أن كثيرات منهن لا ينتبهن إلى ما يعتمل أعلى صدورهن و ما تفعله تلك اللدائن المتدلية في إيلام ممتع.
يقول دي لاسيرنا أنا لا ندرك كيف سنتصرف إزاء هذه النهود؟ غير أنا ننظر إليها مع ذلك، إذ الأمر غير ممكن أبدا تجنبه. صحيح أن ثمة لا ندرك أحايين أخرى هل فقط ثمة ثنايا قمصانهن ما يخدعنا و يُري لنا النهود مزيفة أم أن حرير معاطفهن هو من يقلد اشتعال نهد؟!
حتى أقران هذه الصبايا يحتارون، مثلما لا نبدي ثمة أي حذر إزاء نهودهن الضخمة، فيشعر هؤلاء الأطفال بأنهم قد صاروا كبارا و يعمدون إلى قول أشياء إلى تلك الصبايا أكبر من سنهم. تلك الأشياء تخيفهم أنفسهم كلما نطقوا بها، و يشعرون فجأة أنهم أصبحوا إذن رجالا.
هذه النهود تجعلنا نتأمل أمورا أخرى مثل أن في الحياة حقائق غير مقبولة أو مستساغة و عليها أن تصيره.
نهود الصغيرات إذن_دائما حسب دي لاسيرنا_ يصلن إلى ارتماء في قرارة العين التي ترى، فلا أحد يقدر أن يلجم سرعتها أو يخفيها عن الأنظار!
وليست لفتته إلى "الذي لمس نهدا ملكة" أقل ذكاء وعمقا، إذ الذي تجرأ ولمس نهديها أفضى به الأمر إلى الإعدام، لأنه لمس الذي لا يلمس و مات صريعا. لكن ليس قبل أن يحقق رغبته الأكيدة. فقط قبل أن يرتكب الذي أدى به إلى الموت، كان حوذيا في القصر و رأى ما رأى من نهود الملكة الجميلة، واضحين، بارزين وقادرين على الإغواء والقتل. لم يتمالك المسكين نفسه وعانق الملكة من وراء ووصلت يداه إلى نهديها. لم تدم لذته إلا لحظات حتى تم ربطه ودفعه إلى الموت. الشيء الذي طلب في الأخير_على غرار رغبة كل المعدمين_ هو فقط أن يلمس ثانية نهدا الملكة !
في الواقع ليس من السهل إلا ملامسة بعض قوة دي لاسيرنا وإعادة نطق الذي نطقه منذ حوالي قرن من الزمن. وذلك ليس، ثانية، إلا بشكل أعسر، وضيق هوامش لأن نضيف في السجل الذي كرس لتأملات الجسد الأنثوي. أبدى معرفة دقيقة بالفن و الجسد و تسربت من نوعية رؤاه معرفة واسعة. منح الذي منح إذن وخلد به وخلد النص.
أما جان غيرشي فقد ذكرنا، هذه الأيام لدى غاليمار، دون أن يكون ذلك هدفه الأول أن لا ننسى قط رامون غوميس دي لاسيرنا!
Kermounfr@yahoo.fr