عالم الأدب

ذات: الرؤية والتشكيل.. مقاربة بنيوية تكوينية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"ذات" هي رواية للكاتب صنع الله إبراهيم، والذي اختار لبطلته فيها هذا الاسم غير المعرّف إلا بكل ما يمكنه أن يكون إنسان تلك الفترة وتلك الأحداث التي يسوقها في روايته. ويقدم الكاتب ناهض زقوت لدراسته حول الرواية بقوله: "دأبت الدراسات النقدية في العالم العربي على وضع الروايات في مقابل الواقع الاجتماعي.. وقد دفعت المنهجية الواقعية بعض النقاد أيضاً إلى قراءة النص الروائي من خلال حياة المؤلف وأفكاره، والمؤثرات النفسية والاجتماعية الخاضع لها، واستمرت تلك المنهجية إلى أن تطورت تحت تأثير المدرسة البنائية ومدرسة الشكليين الروس ومدرسة النقد الجديد في أمريكا، والتي خرجت من عباءة المضمون إلى فضاء الشكل الروائي، ورفضت المقولة الشائعة أن الرواية نوع أدبي لا شكل له، إنما هو مضمون فقط". ويضيف بأنه قد حرص في هذه الدراسة على تقديم منهج البنيوية التكوينية، والذي هو منهج فرنسي لنقد الرواية. ويوضح زقوت أنه قرأ النقد الذي وجه إلى منهجية لوسيان جولدمان، والذي هو صاحب المنهج الذي يعتمده في نقد رواية صنع الله إبراهيم والذي قد خصص له الجزء الثاني من فصله الأول، أما الجزء المبتدئ فقد أورد فيه الجدل القائم حول الرواية وعلاقتها بالواقع الاجتماعي حسب الرؤى المختلفة الأوروبية والعربية.
وفي الفصل الثاني حاول زقوت، ووفق نقاط محددة دراسة الرواية من حيث الاسم والرمز والدلالة والبنى التي كونت العقد في الرواية وأيضاً الخلفية السوسيولوجية -التاريخية للرواية.
وفي مقدمة المبحث الأول من الفصل الأول، والذي كما أسلفت يتحدث عن العلاقة بين الرواية والواقع الاجتماعي، نجد الكاتب يكثر من التساؤلات فيقول: "هل نحن في زمن الرواية؟" ويجيب عليه بعدّ سوقٍ للآراء المختلفة، فيصرح بأننا نعيش فعلاً في زمن الرواية، ويؤكد ذلك بقوله: "لأن العلاقة بين الأنواع الأدبية علاقة متغيرة تغيّر اللحظات التاريخية، وأن كل لحظة تاريخية تعثر على خصوصيتها في نوع دون آخر.. وهناك سبب آخر غير تغير اللحظة التاريخية وهو شدة ارتباط الرواية بالواقع".
وفي تساؤله الثاني يقول: "ما المؤثر في علاقة الرواية بالواقع؟" ويجيب بأن العلاقة جدلية، وأنه لا يمكن عزل الأدب عن منبته الحقيقي الذي ظهر ونشأ فيه، أي السياق الاجتماعي لفترة تاريخية ما.
وفي التساؤل الثالث وهو حول نفس النقطة ولكن من ناحية المؤلف أو الراوي يقول فيه: "ما رؤية الأديب أو الروائي للواقع؟" والذي ربطه بعدة تساؤلات أخرى، ولكنه أجاب فقال: "هل يرى الروائي الواقع في حالة تناقض وصراع وتحول، أم يراه في حالة انسجام وتعاون واستكانة؟ وكيف يصور الروائي الإنسان في علاقته بالواقع، هل الإنسان مغترب ويشعر باستلاب في الواقع؟ وإلى أي حد وما مصادر اغترابه؟". ثم يضيف الكاتب عدة آراء لدارسين أو باحثين ونقاد وأدباء في هذا المجال ويذكرها بالتفصيل، وهم على الترتيب د.عبد المحسن بدر، الناقد اللبناني حسين مروة، أرسطو جورج لوكاش، محمود أمين العالم، جولدمان، وفي نهاية المبحث نجد الكاتب يقول: "نجد أن سر عظمة الكُتاب الكبار هو أنهم يتحسسون معاناة الإنسان تحسساً صادقاً، وبقدر ما يعبرون عنها بصدق وبأسلوب فني متفرد يكون تأثيرهم في تشكيل وعي جديد، وفي حض القارئ على الالتزام والفعل.. ولذلك فالرواية كنتاج فكري ليست ترفاً كما يراها البعض، بل بإمكانها أن تعمل ضمن المساهمة القومية لحياة المجتمع الروحية، فتمارس تأثيرها على الواقع في حدود إمكانياتها الخاصة".
المبحث الثاني هو منهجية لوسيان جولدمان، ويوضح الباحث -الذي استند في تحليل الرواية "ذات" على هذا المنهج الفرنسي- نظرية هذا المنهج والنظريات التي تأثر بها واستثناءاته وكيفيه تعامله مع النص أيضاً. ويقول الكاتب "ما يهمنا في عملية التأثر هو الفلسفة الماركسية، حيث أن لوسيان جولدمان في منهجه النقدي "البنيوية التكوينية" ومفهومه عن العلة المحركة لهذا المنهج "رؤية العالم" يستند إلى الماركسية وعلاقة الاقتصاد ودوره في متغيرات الحياة الاجتماعية".
ويعيد الكاتب أسلوب التساؤل هنا فيقول ما الوعي؟ "حسب نظرية جولدمان"، ويقدم الإجابة على أنها "مظهر معين لكل سلوك بشري يستتبع تقسيم العمل". ويضيف أن البنية المتغيرة هي الوعي الجماعي للطبقة، والذي يأخذ عند جولدمان شكليْن متمايزيْن رغم ما بينهما من تداخل، وهما: الوعي القائم والوعي الممكن. وينشأ الثاني عن الأول بشكل المستقبل. ويضيف الكاتب: "لهذا يؤكد جولدمان أن النتاج الأدبي ليس مجرد انعكاس بسيط للوعي الجماعي للواقع، ولكنه تعبير عن الوصول إلى مستوى متقدم من الانسجام للميولات الخاصة لوعي جماعة أو أخرى. هذا الوعي الذي ينبغي النظر إليه كحقيقة ديناميكية موجهة نحو تحقيق حالة من التوازن لتلك الجماعة". ويؤكد في جانب آخر أن الرؤية للواقع ليست فردية إنما جماعية المنشأ، ويكون المبدع حراً في اختيار أدواته الفنية التي يعبر بها عن رؤيته للعالم. ثم يضيف "لذلك رفض جولدمان التفسير السيكولوجي الذي يعتبر أن الذات الفردية هي المبدعة للعمل الفني، لأن تجربة الفرد الواحد أقصر، بل أضيق من أن تخلق مثل هذه البنية العقلية".
في جانب آخر يوضح الكاتب أن جولدمان يتعامل مع النص كله، ويبين أنه وضع عدة أسس للناقد أو الباحث لتحديد البنية الدالة في العمل الأدبي.
ويعقب الكاتب بعد سرد هذه النقاط بقوله "وبهذا نجد أن جولدمان قد رفض مع بعض البنيويين سيرة المؤلف أو نيته الواعية، والمؤثرات الخارجية في عملية التحليل الإبداعي، ويرى أن تحليل الأثر الأدبي ينبغي أن يتجه في المقام الأول إلى بنية العمل الداخلية، وهذا ما يسميه جولدمان المرحلة الأولى من التحليل ويطلق عليها: مرحلة الفهم، ولا يقف عند هذا الحد ولكنه يقول أيضاً بضرورة الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي تؤكد انتماء منهجه إلى سوسيولوجيا الأدب ويطلق عليها مرحلة الشرح.
وفي جزء آخر أخير يوضح الكاتب أن هناك قضية مهمة طرحها جولدمان في كتاباته وهي الاستلاب، ويتساءل "ما هو؟"، ويجيب بأن "المجتمع الذي يجعل من العمل والإنتاج أداة لاستغلال الإنسان للإنسان، يشعر الفرد فيه بنوع من الظلم والغبن، لذلك ينشأ مبدأ الشعور باغتراب المرء عن نفسه وعن طبقته، وبهذا يفقد الإنسان مقوماته الإنسانية والحياتية". وبعد استعراض لآراء فلاسفة مثل هيگل وماركس وغيرهم حول التشيؤ والاستلاب، ينهي المبحث بقوله: "وهكذا نصل إلى أن التشيؤ والاستلاب صنوان لا ينفصلان، وهما من نتائج المجتمع الرأسمالي، وتخضع القيم لقانون العرض والطلب، والحياة الاجتماعية تحدد من خلال قيمة التبادل، لهذا لا يتم تجاوز الاستلاب وفق المفهوم الماركسي إلا على مستوى الممارسة والثورية".
الفصل الثاني "الرؤية والواقع" ينقسم بدوره إلى مبحثين، الأول بعنوان "المصالحة والاندماج واختلال الواقع" وفيه يمهد الكاتب بذكر للمجتمع الذي كتب ودارت حوله وفيه الرواية، ويسرد هنا رؤية المجتمع المصري التعبيري للعالم، ويعرج على جيل الروائيين، ثم يوضح أبرزهم ويقف عند المؤلف محل الدراسة ويعتبره راية من رايات جيل السيتينات. ثم يوضح زقوت أهمية روايات المؤلف التي يرى أنها كانت دائماً مثاراً للجدل والمناقشة، منذ إصداره الأول "تلك الرائحة" مروراً بـ "نجمة أغسطس" ومن ثم "اللجنة" و"بيروت بيروت" وصولاً إلى "ذات".
ثم يبدأ في تحليل "ذات": الاسم، الرمز، الدلالة. ويعود للتساؤل بقوله: "من ذات؟ وما الدلالة التي يتوخاها الكاتب من وراء هذا الاسم؟"، ويضيف "أجمع النقاد على أن "ذات" امرأة عادية تنتمي إلى الطبقة البسيطة المقهورة".
ثم ينتقل الكاتب إلى ثلاثية البنية الروائية بعد أن حدد معالم "ذات" فيحاول الدخول أكثر إلى عمق الرواية ويضيف أن الرواية تقدم "عالماً يموج بالحركة من شخصيات وأحداث ووقائع وجماعات، ولكنها لا تقف عند هذا الأمر فحسب، بل تتجاوزه إلى رصد الحركة الداخلية لهذا العالم". ثم يستعرض زقوت هذه البنيات الثلاث للرواية:
أولاً: بنية المصالحة والاندماج، وفيها يوضح أن حياة "ذات" تبدأ طبيعياً بالتقارب التدريجي بينها وبين عبد المجيد، وينتهي التقارب بالزواج وانتقالها. ويوضح بأن صنع الله إبراهيم لم يكتب روايته عن القرية والفقراء، ولكنه اختار أعقد الطبقات وأغناها بالدلالات، تلك الطبقة الملفوفة بلعنة الصعود والهبوط، الطموح والإحباط، الطبقة الوسطى التي تبلورت في الستينات وازداد نموها بعد السبعينات، والتي أفرزت طبقات جديدة بدأت تسعى للاندماج والوصول على قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة".
ثانياً: بنية الوثيقة واختلال الواقع، ويقدم لها بقوله "ليس جديداً على قارئ روايات صنع الله إبراهيم أن يجد المادة الوثائقية تتخلل أعماله، ضمن السرد الروائي، وتلعب دوراً كبيراً في عملية السرد الروائي، ويعقب بأن الجديد في "ذات" هو أسلوب الفصل بين المادة الوثائقية والسرد الروائي مما جعلها تتمرد على الشكل المألوف للرواية، فجاءت في تسعة عشر فصلاً، منها عشرة فصول تتناول الجانب السردي، وتسعة فصول تعرض للجانب الوثائقي، وبذلك دخل العنصر الوثائقي كمقوّم رئيس في الرواية. ويستدرك الكاتب بقوله: "هل فصل المادة الوثائقية عن النص السردي يحمل هدفاً مقصوداً، أم أنه مجرد شكلاً جديداً لصياغة الرواية؟" ويوضح زقوت أن القسم الوثائقي من الرواية يجعل القارئ يتوقف ليقرأ وحيداً ويواجه كم هائل من الأخبار المتعددة المصادر والمواضيع، ورغم غياب التعليق فإن أثر السارد موجود في اختيار الوثيقة الإخبارية مما يجعله متحكماً بشكل غير مباشر في توجيه القارئ نحو هدف أعمق لا يظهر للوهلة الأولى، ويسوق الكاتب أمثلة وأجزاء من جسم الرواية نفسه كتوثيق لدراسته.
ثالثاً: الأنا السارد.. والذات.. والآخرون. يقول الكاتب "في الروايات السابقة لصنع الله إبراهيم كان الراوي يتحدث بضمير المتكلم، أما في "ذات" فتحدث بضمير الغائب مع بعض التدخلات من ضمير المتكلم، مما أدى إلى توزيع السرد بين الرواي وشخصيات روايته". وضمير الغائب جعل القارئ ينظر للحدث من أعلى، مراقباً ومشاهداً لما يدور مع "ذات" من خلال تفاعلها وعلاقاتها وتعاملها مع الواقع.
ويقول زقوت إذا تعمقنا في أحداث الرواية من خلال البطلة نجد أنها شيوعية ومؤيدة لعبد الناصر، مما يعطي دلالة عبر سياق استخدام ضمير الغائب بأن الراوي ينتمي إلى هذا العالم. والراوي دائم التدخل في النص، قاطعاً السياق الروائي بانتقالات زمانية ومكانية، وبتعليقات متكررة. ويشير إلى ذلك بعبارة ترد بين قوسين مما يوضح أن السارد عليم بما سوف يحدث. وعلى امتداد الرواية مع البطلة "ذات" نجد الأنا السارد يسخر منها، وخاصة في مواقفها التي تسعى فيها للاندماج والمصالحة، من حيث استحالته. والسخرية تبرز كرابط مشترك وعضوي في الرواية، وهي دعوة متخفية كما يوضح الكاتب للتحريض والخروج من الواقع والثورة عليه.
ثم ينتقل الكاتب لعناوين جانبية جديدة يتعمق من خلالها في بنية الرواية أكثر، وهي "جدلية المكان والزمان"، "بنية القهر الجنسي"، "تعدد الشخصيات وبنية الاتفاق والاختلاف"، "مظاهر الفقر وبنية الفساد الطبقي"، "البناء المضموني للرواية"، وتتضمن هذه العناوين ملاحظات الكاتب على الرواية، وأخيراً "البنية الدالة.. الرؤية إلى العالم".
ويرى زقوت أن التماثل بين البنية التخيلية في الرواية، والبنية الأوسع في الواقع، يؤكد القيمة الجمالية لرواية "ذات" ويمهد للمبحث الثاني والأخير في كتابه، حيث هذه القيمة تدفع إلى مناقشة سوسيولوجية تاريخية للرواية، ليحاول هنا الربط بين الشكل الروائي بصورة أعمق مع الواقع الاجتماعي، وهذا المبحث بعنوان "خلفية سوسيولوجية -تاريخية للرواية".
ويبدأ هذا المبحث الأخير بقول جورج لوكاش "إذا أردنا أن نفهم كاتباً ما فعلينا أن ندرس القرائن التاريخية والاجتماعية لعصره"، ويعود ليتساءل "ما علاقة البنيات الجزئية والبنية الكلية بحزب التجمع؟ وما دور حزب التجمع في الواقع المصري؟ وكيف تأسس الحزب ولماذا هذا الحزب بالذات؟" ومن ثم يبدأ الكاتب في استعراض للتاريخ منذ أوائل الأربعينات حيث يرسم خريطة للحركة الشيوعية في مصر، ثم يتوقف عند الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، لأنها الحركة التي استخدمها السارد في سياق روايته، ويوضح نشاط الحركة من حيث برنامجها الثوري وموقفها من ثورة 23 يوليو، مؤكداً تأييدها للمواقف التي تبنتها الثورة.
ويبين كيف ربط السارد بين تاريخ الحركة والأحداث الحقيقية والمعاناة التي مرت بها، وعملية ربط ذلك مع أبطال الرواية، وذلك بعد أن ورث حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي هذه الحركة. ويعقب في النهاية وبطريقة الربط مع مضمون الرواية بأن ليس هناك من سبيل لإنقاذ مصر من التخلف والتبعية والفساد واحتكار القلة للثروة والسلطة، إلا بتغيير حقيقي يتناول السياسات والأشخاص والقوى الحاكمة التي قادت المجتمع المصري. ويرى أن الأمل في المستقبل وفي الشعب المصري الذي كما يقول أثبت على امتداد تاريخه الحديث أنه قادر على قهر الصعاب.
ويحاول الكاتب في النهاية أن يضع التشكيل الروائي في صورة مبسطة يصل من خلالها إلى ما حاول السارد طرحه عبر روايته عن طريق التعريف بدلالة الشخصيات الواردة في الواقع المحكي:
ذات: الحزب الشيوعي المصري.
الأنا السارد: عضو هذا الحزب.
عزيز: عضو التيار الثوري.
ولي العهد: حزب التجمع.
منتصف الستينات: حل الأحزاب الشيوعية.
التقارب التدريجي: التقارب بين الحزب الشيوعي المصري والنظام الناصري.
الاندماج: اندماج الأحزاب الشيوعية وخاصة الحزب الشيوعي المصري في تنظيم طليعة الاشتراكيين.
التذبذب: تذبذب الحزب الشيوعي المصري في موقفه من الثورة وعبد الناصر.
التناقض: تأييد أفكار ومبادئ مخالفة للفكر الشيوعي.
وهكذا تنتهي هذه الدراسة حول تلك الرواية "ذات" التي حاول الكاتب ناهض زقوت تطبيق منهج جولدمان أو المنهج الفرنسي في تحليل بنيتها وتكوينها الواقعي التاريخي بالأبعاد النفسية والإنسانية التي جسدها الروائي صنع الله إبراهيم كشخوص لتوصيل رسالة تاريخية محددة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف