حوار فلسفي بنفس شعري
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بيروت من جورج جحا: لعل في كتاب امين البرت الريحاني الجديد "قطار ولا محطة" اكثر من خروج واحد على المألوف ومن ذلك عودة الى شؤون فلسفية خالصة لم تعد من "الازياء" الشائعة في هذه الايام. ومن ذلك ايضا ان يأتي الفلسفي وقد صهر شعريا فذوّب هذا بعض صلابته وبرودته وانه من حيث الشكل التعبيري تجسد في صورة ادبية اخرى
امين البرت الريحاني صاحب النتاج المتنوع بين كتابات شعرية ودراساتومقالات ادبية ونقدية واخرى مسرحية واعمال ترجمها الى العربية يعرف ان هناك خطأ قد يكون "خطرا" يقع بين الفلسفة والشعر على رغم تداخل بعض تخومهما واسئلتهما. ولذا فهو يستبق اي تساؤل او نقد في هذا المجال بالحديث عنه في مقدمة كتابه. اما كتاب "الامين الثاني" كما لقبه البعض سابقا تمييزا له عن عمه الكبير امين الريحاني.. فقد حمل وصفا جاء اقرب الى عنوان فرعي وهو "حوارية ثلاثية الصوت حول مسألة الزمن".
جاء الكتاب في نحو 200 صفحة متوسطة القطع وصدر عن "دار نلسن" وبرسم غلاف هو لوحة من اعمال سيرين الريحاني. قراءة كتاب الاكاديمي الدكتور امين بلغته الشعرية السلسة المنسابة رقراقة عذبة والتي جعلت موضوعات فكرية جافة نوعا.. مادة ادبية قادرة على الامتاع تأخذ القارىء فتنسيه ما قد يكون خطر له من ان بعض الشؤون الفلسفية مرت في النص مثل مسلمات او امور يومية عادية وانها اذا اخضعت للبحث والتحليل وعملية تحديد المصطلحات لن تمر بهذه السهولة. انها لغة قادرة على سرقة ذهن القارىء وحمله الى عالم نص ادبي موح ومشوق.
قسّم الكتاب الى مدخل وتلاه عنوان هو "ما يشبه البدايات" ثم "على الطريق"وهو القسم الاكبر. اما القسم الاخير فعنوانه "نهاية بلا نهاية".
المدخل لم يأت كتابة تقريرية كأنها "جردة حساب" بل جاء نصا ادبيا فيه حياة وحرارة. قال امين "يوم وجدتني منصرفا الى هذا التأليف لم اكن لاتصور ان موضوع الزمن سوف يستنفد مني كتابا كاملا يستغرق العمل فيه نحو العامين. لم تكن فكرة الزمن لتستوقفني لو لم تتردد على مسامعي عبارات مثل زمن التجلي.. زمن البغضاء.. زمن الوهم.. الزمن الصوفي.. الزمن الوجودي.. زمن الغضب.." الى اخر السلسلة.
يضيف امين بنفس شعري متسائل بعمق.. وبحزن هو ابن النفس الباحثة وابن ما هو مفجع قاس في هذه الحياة "هذه المعاني تتباعد او تتقارب لكن الزمن هو القاسم المشترك بينها او العنصر الجامع لاطرافها. فلماذا الزمن.. لماذا محاولة الامساك باللحظة الهاربة.. لماذا القبض على كرة النار تحرق منك الانامل ليستيقظ الوعي واذا بك امام هول الحقيقة حقيقة الزمن حيث تجد نفسك ريشة في مهب الريح... ولماذا الزمن.. لان لدينا كل "الوقت" لكل شيء ولا "وقت" لدينا لشيء بمعنى اننا ننصرف الى الشكل واللفظ ونعطيهما كل ما لدينا وننصرف عن المعنى غير ابهين. تضيع الاولويات وتتضعضع مفاهيم الزمن لاننا بعيدون عن ذواتنا وفهم العالم يبدأ بفهم الذات وفهم الذات يبدأ بفهم الزمن."
جعل امين العالم مسرحا صغيرا واستحضر اليه "ثلاثة فتية اشقياء" اعطاهم الاسماء التالية.. مكنار وهو صوت المكان.. زمنون وهو صوت الزمان.. ويقظان وهو صوت الانسان.. مع ما يحمله الى الذهن من تداعيات تذكر بحي بن يقظان.
قال امين "وتدور الحوارية حول الفعل كروح كوني يعطي الزمن ابعاده ومعانيه. وعبر ثلاثية المكان والزمان والفعل نستعيد فهمنا للوجود ولانتظام العلاقات الحيوية بين الافراد والجماعات ..."
واستباقا لاي تساؤل عن الفلسفة والشعر في الكتاب قال امين "وفيما ادون كلام الفتية الثلاثة كانت لغة الشعر تسابق لغة الفلسفة على السنتهم كما كانت اللغتان تحاصران معنى الزمن بقدر ما تترافقان في السجال حول ابعاده ومضامينه..." وقد يجد القارىء نفسه يميل الى ان يستعمل تعبير "تسبق" في قول امين هذا ليصبح "كانت لغة الشعر تسبق لغة الفلسفة."
في الرحلة التي لا تنتهي نقرأ مع الكاتب من القسم الذي اعطاه اسم "قطار" حيث يسأل مكنار قائلا "ما بال الناس يا زمنون يحتفلون بك حول الكرة الارضية وانت تمر عليهم تباعا لتسجل انطواء حقبة وانطلاق اخرى.." ويسأل زمنون عن سبب الاستغراب فيرد مكنار قائلا "لان مسارك ليس جديدا ورحيلك من الماضي الى المستقبل قصة قديمة." فيرد زمنون بقوله "قديمة ومتجددة على الدوام."
ويحول امين التحليل الفكري عن علاقة الترابط بين المكان والزمان والانسان الى حوار حيث يسأل زمنون "اتعني اني لا استطيع الانفصال عنك.." فيجيب مكنار "كما لا استطيع الانفصال كذلك عن روح المكان" فيسأله عما يعنيه بروح المكان فيرد مكنار قائلا "انه الكائن الحي الذي يعطي للمكان والزمان معناهما الخاص والمطلق." وردا على مزيد من الاستيضاح يقول "لولا الانسان لفقدنا معنى وجودنا. لولا العقل البشري لما كان من معنى للمكان والزمن" ليضيف زمنون "ولولانا كذلك لما كان للوجود البشري من معنى" فيقول مكنار ردا عليه "لن ندخل في لعبة البيضة والدجاجة والصانع الاول."