عالم الأدب

هل كان هاملت كائنا (صفريا)؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

هاملت كائن صفري
تتوالى القراءات والدراسات التي شغلها النص الشكسبيري ــ ومن دون انقطاع ــ على تحليل هاملت كإشكالية جوهرية في العمل كله؟ تُرى ما هي العقدة؟ ولم يكن البحث عن هذه العقدة التراجيدية على مستوى تحديد هويتها بالعنوان العريض وحسب ، بل كان هناك بحث معقد ومتشعب ومضني وشائك عن هوية العقدة ، عن أسبابها، عن تاريخها، عن علاقتها بالآخر، عن كيفية التعبير عنها، عن ا لنهاية التي قادت إليها أخيرا هملت بالذات.
وليس سرا، أن هناك شبه توافق إجمالي على أن العقدة في تسميتها الأولى هي (التردد)، أو الفعل واللافعل، كمعادل موضوعي عن عطب إرادي قاتل ، وإن كان في ذلك نقاش، قد أستجمع عليه بعض جهدي فيما رحمني الألم الذي يعصف في روحي وجسمي وكل كياني.
الأمر الذي يحيرني هو الإطلاق في عرض هذه العقدة المزعومة ، فكأن هناك عقدة زمنية في حياة هذا الشاب المشكل، عقدة سيطرت على كل مساحات حياته، وتغلغلت في كل مسام جلده ، وترسبت في أغوار روحه إلى أبد الآبدين، بحيث شكلت قدره النهائي، وبالتالي، هو كائن (صفري!)
فهل كان هاملت حقا بمثابة حصيلة جمع بين كميتين رياضيتين متساويتين بالكم ومختلفتين بالاتجاه؟ والمُستَحق الرئيسي الذي يترتب على هذا الصفر المطلق إنما هو العدمية المطلقة؟
لا شك أن هاملت كان صريع عقدة الفعل واللافعل، صريع الدوار المرعب بين (نعم) و (لا)، بين السلب والإيجاب، تلك قضية تكاد تكون إحدى المسلمات النادرة، التي لا تحتاج إلى مزيد من الحفر في النص من أجل ملامستها ومعاشرتها ومعالجتها. ليس هناك شك في أصل التصور، بل الشك في تطبيقاته التي تلتهم كيانا بشريا بكله، برمته، بكل بتضاعيفه، بكل ما وُهبَهُ طبيعيا وكسبيا.
لا يمكن أن نتوقع من كائن صفري قدرة دقيقة وشفافة على اكتشاف العلاقة الحيوية والمتبادلة والضرورية بين الداخل والخارج، أقصد الداخل الإنساني والخارج الكوني ، فتلك مسألة متأخرة الإدراك في مسيرة التجربة البشرية نظريا وتجريبيا.
وهل كان هاملت على هذا المستوى من الذكاء؟
نعم!
لقد كان هاملت عارفا بقسط وافر من إسرار النفس البشرية، ومن الشواهد التجريبية على ذلك تخطيطه لإخراج خبايا النفس بتهيئة عوامل إثارتها كردود فعل على معالم الوجه!!
فلم تكن المسرحية التي طرحها مشروعا أدبيا، ولا مشروعا تعليميا، بل كآلية تحليل نفسي دقيق،وهو بهذه الفلسفة يكون قد سبق المدرسة السلوكية في تفسير السلوك البشري، تلك المدرسة التي تحصر كل تصرف وكل تفكير وكل موقف يبدر من بني البشر على أساس معادلة ثنائية لا تتخلف ولا تختلف، أي معادلة المثير والاستجابة، وأن كانت النظرية قد تعرضت لنقد حاد، وتعديلات جوهرية، خاصة فيما يتعلق بالمسافة بين طرفي المعادلة.
هنا قد يقول بعضهم أن هاملت أعتمد في مشروعه النفسي هذا على ما سمعه (سمعت أن المجرمين وهم يشاهدون بعض المسرحيات يتأثرون بما فيها من فن تأثرا يصيبهم في الصميم، فيعترفون بما اقترفوا على الفور، وجريمة القتل وإن أعوزها اللسان، لابد يوما أن تنطق بأبلغ صوت...) ص 137.
ولكن هاملت من النماذج الإنسانية التي لم يكن عقله من سمعه، بل سمعه من عقله، بدليل هذه الخبرة العميقة في توزيعه للأدوار، وتقنينه لمتطلبات الاستجابة على طريق البراعة في التمثيل وترتيب الأثر المرسوم بدقة وعناية ص 121.
لقد قرر فسخ الحب من طرف واحد، وفي سياق موجةٍ من التهويمات والموحيات بعكس ما ينطوي عليه من غاية وهدف ومقصد، وقاوم غريزة العشق التي أخلص لها سني شبابه، بل كان يفتش عن مبرر منطقي ليغمد السيف في جسد عمه الخائن، ويرتاب في أحيان كثيرة في صدق الشبح (قد يكون الطيف الذي رأيته شيطانا، فالشيطان يستطيع أن يبدو في هيئة جميلة، أ جل، وربما اعتمد على خبلي وكآبة نفسي، كما يفعل للسيطرة على من هم في مثل حالي، فيقودني إلى الضلال، لابد أن أجد دليلا أكثر ارتباطا من هذا، والمسرحية هي التي ستكشف ضمير الملك) ص 138، وفي هذه النقطة بالذات، تتبدى مرة أخرى قدرة هاملت على ممارسة التحليل النفسي،فها هو يضع الفروض الدقيقة بالاعتماد على ما يمر به من أزمات نفسيه، وارتباك في حالته الوجدانية، ليعالج قضية الشبح، وهذا التصرف ليس ترددا، بقدر ما هو سبر معرفي معمَّق لواقعة كانت سبب انشغاله المضني، وليس من شك أن هذه القدرة تتجلى أيضا عندما وضع صديقيه أمام الحقيقة المرة بشكل مفاجئ مدهش، فقد كشف سرهما المجمل بالاستناد إلى معالم غير طبيعية بدت على وجهيهما، مسترشدا بتاريخيهما النظيف (وأني لألمح في وجهيكما شيئا يشبه الاعتراف، لا يُحسن طبعكما الكريم التمويه فيه، أعرف أن الملك والملكة قد أرسلا في طلبكما) ص 119، وكانت المؤامرة تهدف إلى جرّه إلى حياة اللهو العابث الجدير بفضحه على سريرته الجديدة!! فهاملت في نص شكسبير ذو دراية في سبر النفوس، وتحليل السلوك!
نعم، كان هناك تردد، كان هناك دوار متعب، مضني، مخيف بين (نعم) و (لا)، كان هناك صراع شرس بين إقدام وأحجام، ولكن ليس ترددا مجردا، ليس ترددا شموليا، يشل الذات بالكلية، ويعطل كل ممكناتها...
إن موضوعة التردد كانت هي القتل، قتل العم الشائن، العم الذي غدر بشرف الأخوة، ودنَّس نقاء الحب، وغمس في قيحه البشع تاريخ المملكة التي يجب أن يُصانَ شرفُها بكل أمانة، خاصة على يد ملوكها.
هنا يتقدم أصحاب هذا الرأي خطوة أولى لحصر العقدة بين قوسين، ولكن ليس هذا منتهى المطاف، فإن السؤل يبدو أكبر من الجواب، فليس هناك مناص من التساؤل عن سبب هذا التردد؟ وتاريخه، ومآله.... والأسئلة تطول...
أصحاب هذه المدرسة في تحليل عقدة هاملت لا يجدون أنفسهم بحاجة إلى سرد النصوص التي تدعم موقفهم ، فقد شخصت منذ البداية،ولكن هل حافظت البداية على صفائها؟ هل بقيت البداية كما هي ؟
ولكن لماذا التردد؟
ولكن لماذا هذا التردد؟ لماذا لم يقدم هملت بشجاعة قاطعة وينهي الأمر؟ ينتقم لأبيه وشرفه وموقعه بضربة قاصمة، وبذلك لا يحقق ثأره المشروع فقط، بل قد يعيد المسار الطبيعي للواقع المختل، ويرمم مسيرة الدولة والرعية، ويعلن انتصار الفضيلة.
تبدأ عقدة جديدة، تلك هي عقدة الجواب على هذا السؤال، ومن الطبيعي أن يطرح أصحاب هذه المدرسة هذا السؤال على خلفية مهمة، تلك هي يقينهم بأن العقدة أصلا تكمن في هذا التردد المشخص، أي تردد هاملت في قتل عمه الخائن.
هل لأيمانه الديني دخل في ذلك؟
هذا ما نقرأه لدى بعضهم، فهاملت كان متيقنا من الجريمة، لا شك أن عمه قد صب السم في أذن أبيه، وفسق بأمه طبق شريعة الناموس الأزلي ، وأغتصب عرشه، لا شك في ذلك، ولا ريب أنه يستحق القتل كي تستقر العدالة على قاعدتها الصلبة، ويستعيد الواقع صدقها على نفسه ، ولكن الوازع الأخلاقي كان حاجزا أو لنقل رادعا دون اتخاذ الموقف الصارم، الوازع الذي تكرس في ضميره، وتحول إلى جزء من بنائه اللاشعوري،كصدى أصيل ومتأكد وعميق للموقف المسيحي من مفهوم وسلوك الانتقام! وقد ظهر مثل هذا التوجه لدى هاملت لما همَّ بقتل عمه وهو يؤدي الصلاة، ولكنه أحجم يرتعد احتراما للقدسية والروح، منتظرا حالة جسدية دنسة في تصوره، أي غارقا في شرابه، ساهيا عن الرب، سادرا في ملكوت الشهوة الحرام (الساعة الآن أن أفعلها! الآن وهو يصلي سأفعلها فيذهب إلى السماء وأكون قد انتقمت لنفسي... فهل أكون قد ثأرت لنفسي إذا اغتلته وهو يطهر روحه... وهو على خير حال للقاء الموت؟ لا...انقبض أيها السيف، و اعلم أن لك فرصة أبشع! حين يكون نائما مخمورا، أ و في ثورة غضب، أ و منغمسا في ملذات فراشه ا لمحرمة، أو مقامرا، أو حالفا لاعنا، أو مشغولا بأمر لا شأن له بخلاص الروح. حينئذ فلتضربه حتى يركل برجليه السماء وتغدو روحه لعينة، سوداء كمآلها الجحيم... ض 180). يبدو أن قتل العم في تلك اللحظة تعني عند هاملت قتل الله، ذبح الله، ومن هنا تراجعت الهمة، وخار العزم. ولكن التفسير الديني هذا يصطدم بشواهد ومواقف كثيرة، فأين هذا الوازع في تعامله مع صديقيه وإن كانا متآمرين؟ ذلك أن المسيحية تقرر أن المحبة يجب أن تغلب الغضب والخيانة، وقد أرسى هاملت في بعض حواراته مبدأ اللطف في التعامل مع الأخر دون مبدأ الجزاء (فلو عاملت كل إنسان بحسب قدره فلن يفلت من الجلد أحد، عاملهم بحسب كرمك وقدرك، فكلما قل ما يستحقون زاد حقهم من عطائك،أمض بهم إلى الداخل... ص 134).
هل نجرأ على القول بأن هاملت كان قلقا دينيا؟
كان كمن يعالج خطاياه الخبيثة بخطاياه الطيبة!
أن الجريمة خطيئة آثمة، فيما العدل خطيئة طيبة، اللطف هو الفضيلة التي تعلو على كل فضيلة، والحس الديني يتفوق على الحس المدني بتأصيل اللطف، وتغييب العدل لحساب اللطف، هذه الحاسة الأخلاقية الرفيعة.

هل كان هاملت قلقا دينيا؟
سؤال في مكانه الطبيعي،خاصة وأن هناك اتجاهاً يصف المسرحية بأنها تراجيديا دينية، وفي الحقيقة ليس من السهولة تحديد القلق الديني، فإن الشك بحكمة الكون، والشك بوجود الذات الغائية ليس شكا دينيا، بل هو شك فكري، الشك الديني يأتي بعد الدخول في عالم الدين، بعد تكريس الدين كحقيقة في الضمير، على اختلاف التصورات حول وظيفة هذه الحقيقة ، بعد الإيمان، وليس قبل الإيمان، وفي تصوري أننا إذا تصالحنا مع هذا الرأي، فإن هاملت لم يكن يقلق (من) الإيمان، لم يكن (يقلق) من الدين، بل كان يقلق على الإيمان... إيمانه... دينه... روحه... كان يقلق من أن يضيع الله في داخله، كان يخاف أن يجرح قلب الله...
يستند بعضهم على نصوص تفيد أو توحي بأن تردد هاملت لا يرجع إلى هذه النرجسية الدينية المتمركزة في عمق روحه، بل السبب في هذا التردد هو الطبيعة التأملية التي طبع بها، فإن بعض النصوص تكشف عن قدره هائلة كان يمتاز بها على تـأمل تفاصيل الطبيعة، ومسيرة الحياة، وخفايا السياسة، بل كان ذا قدرة فريدة على تعليل الكون بلغة أخلاقية جميلة ــ وأتمنى أن يسعفني الصبر على الألم لاستكمال هذه النقطة لا حقا ــ والإغراق في التأمل يعيق عن العمل، ويتمخض عن روح مترددة! أليس هو القائل (هكذا يحولنا التأمل إلى جبناء)! فمن الواضح هنا أن العقل هو المأساة، هناك تكمن العلة اللعينة، الفكر يعوق عن العمل، يقف عائقا عن اتخاذ المواقف الصارمة الفاصلة، ألم يقل يوما البيركامي (المثقف أكثر جبنا من غيره لأنه أخصب من غيره خيالا)؟
ليس من شك أن مثل هذا الرأي يقوم على مصادرة مُتبناة مسبقا، ترى من يقول أن الفكر يسمم العضلات، ويصدِّع الإرادة ، ويفتت نية الإنجاز؟
لماذا لا نقول العكس تماما؟
كان هاملت يستحث عقله على العمل بعنف (إلى العمل يا فكري...) ص 137، وذلك ليواجه جبنه، وليحسم الأمر، وأن لا يتهاون في تحقيق التطابق مع منطق الحياة والتاريخ كما كان عصره يقرر ذلك، ويمضيه على جبين القدر،ويكتبه في صحائف الخلود التي لا تبلى!
بين هذا وذاك يطل علينا تفسير جديد، فهاملت كان ذا طبيعة تشاؤمية، لا يعدم خيرا في الكون، ولكن هذا الخير كمية قابلة للنقص، بل هي في تضاؤل حتما، وبالتالي، لا يوجد أي مبرر منطقي للتفاؤل، فليس هناك نمو إيجابي لهذه الكمية التي هي سبب رضاه بحياته، وسبب اطمئنانه إلى الوجود، لم يرتح إلى نظيره من البشر (دُلَّني على رجل ليس عبدا لهواه فأُحِلَّه في الصميم من قلبي)... ص 153،هناك موقف مسبق من الكينونة الإنسانية يتسم بالريبة والخوف، ومثل هذه النموذج البشري عاجز عن اتخاذ أي موقف صارم إزاء العالم، هناك تعثر في داخل الذات، ارتباك، مما ينعكس على حركة الحواس برمتها.
هذا التردد يفقد حضوره مع ذلك التخطيط الذي وضع أسسه هاملت في كيفية دفع الصديقين إلى تلك النهاية المعروفة، كان ذا تصميم واضح، في أكثر من قضية، وكان صاحب نظرية الموقف المسبق، كي يفوت الفرصة على العدو.
ولكن ربما كان ذلك التردد بسبب حسابات تمتد إلى ما بعد الإنجاز بالذات، فقد يجلب عليه العار الاجتماعي، ويزجه في معركة خاسرة مع نفسه ومع ضميره، أي هناك خوف من المستقبل، وليس هناك دواعي داخلية تتصل باختلال تركيبه الداخلي، بل العكس هو الصحيح، هناك بصيرة تستشرف المخبوء في مثل هذا التصرف ا لطائش، أي الانتقام من عمه!
والآن...
أين الصواب؟
أين الخطأ؟
سوف يبقى السر كامنا في طي ذاته ، وليس من الدقة أن نقول أن النقد الأدبي يكشف سر النص، بل يحوم حول هذا السر،يناجيه عن قرب، يلامس أشعته وظلاله وأنفاسه، ليس هناك سر قابل للكشف في النص الأدبي الراقي،هناك اضطراب حول النص،هناك رعشة روحية حول النص، هناك دموع وآهات وصرخات وآلام، هناك مناجاة، هناك حوار، هناك رهبة، هناك طوفان روحي، وجداني، جنوني...
ولذا سيبقى السر كامنا طي ذاته...
والى اللقاء مرة أخرى عن هاملت.
Ketab_1@hotmail.com


ملاحظة، أشكر الأخ الدكتور صلاح نيازي على تكرمه بتقييم مقالتي عن هاملت في ايلاف، وهي مصدر اعتزاز بالنسبة إلي، بل هي شهادة، شكرا له، وأتمنى له حياة بلا ألم
المخلص غالب الشابندر

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف