نفق الذاكرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
للذاكرة مفاجئاتها الأكثر غموضا في طرق الكشف عن بعض مما نحاوله من تفسيرات نوايا افعالنا المهجنة بشطحات معرفية انية. الذاكرة هنا هي ذاكرة الفنان التي كادت ان تندرس بما حملته من شضايا معارف مكتسبة كاد النسيان يطويها او يهمشها بمستجدات ازمنة متعاقبة اخرى لم تكن هينة ولم تتوفر لها البيئة الحاضنة المستقرة للتعبير عن نواياها الواضحة او الملغزة. وكانت بيئة الأغتراب المتكرر هي التي غمرت حياة هذا المبدع الذي انوي تفسير عمله.
عمل التشكيلي (عبد الأمير الخطيب -1-) الذي نفذه مباشرة في (كلري اور- 2-) يكرس هكذا ذاكره، ذلك المنحى الذاكراتي المنغمس بولع في مكتشفات مساحة الطفولة المتأخرة.
التنوع البيئي المستجد مع تلاوينه العديدة، طبيعة مغايرة اصوات متنوعة روائح مختلطة ثقافات متداخلة، شكلت بشكل من الأشكال وعيا ما لدى الفنان، ان لم يكن فائقا فهو مهيؤ للتشكل عبر مساحة مفتوحة على الاخر الانهائي. ضمن هذا الوعي الشخصي لدى الفنان (عبد الأمير الخطيب) بزغت فكرة مشروع (الثقافة الثالثة) واعتمده كمشروع جديد لرابطة الفنانين الأجانب في اوربا التي يديرها من هلسنكي. وكمحاولة للتواصل مع هذه الثيمة او التهيؤ او التجريب على مدلولها وقبل اوان العرض الشامل المقرر بداية العام القادم، جرب (كلري اور) الأشتغال عليها ضمن مساحة فضاءه المحدودة. وجاءت مساهمة (عبد الأمير) مع الفنانين (عبد الكريم سعدون) و (ياسين عزيز-5-) لأضفاء مشروعية انتماء العرض لعنوانه المعلن.
صندوق الولايات او كما يكنى ايضا في بعض الدول العربية صندوق الدنيا استوحاه (عبد الأمير) عن وعي، او هو لم يستوحه، بل جاء كما اتصوره انا هكذا. فالصندوق المصنع والثقب الذي ننظر للمشهد من خلاله مشابه له بشكل من الأشكال، رغم اختلاف الوظيفة.
صندوق طفولتنا البدائي يمارس وظيفته من خلال افتتاننا بعروض صور اسطوانته في ازقة مدننا كتعويض عن سحر الشاشة السينمائية وقبل تواجد شاشة التلفزيون. كان سحر الصورة مصاحبا لترنيمة صاحب الصندوق، تعليقا موازيا لمشاهد عرضه.
ثقب الذاكرة، او (نفقها في هذا العمل) ا تخلل معظم اعمال الخطيب مرافقا لمشهدية مسرحه المموه بتفاصيل منتقاة بحذر من سقط ذاكرته الخاصة ولم يكن بعيدا في عمله الأخير، بل كان المنفذ الأكثر فاعلية للأطلال على عوالم هي الأخرى اكثر سحرا واعمق اثرا. لقد جمع (الخطيب) في هذا العمل ايحاءات ودلالات عديدة اختلطت فيها فنتازيا الطفولة ووحشية الالة الممسوخة دمى فائقة الصغر ومعدومة الأثر.
تحولت الالة العسكرية (دمى العسكر والأسلحة) الى مشهد شفقي ساحر. و تسربلت عساكره بالألوان الفسفورية الحمراء والزرقاء والخضراء والصفراء، حالها حال الماكنة العسكرية (الأسلحة الأرضية والجوية) ودخل المشهد المحصور في مستطيل الصندوق الداخلي الى نفق اللانهاية من خلال انعكاسات المرايا الجانبية حتى اختراق جدار العرض الى عمق الفضاء بمنحنى نفقه حتىالمجهول من حيز فضاء قاعة العرض المفتوح بمكعب فضاءه المعزول (غرفة جانبية). لقد احتلت مساحته المستطيلة وسط مساحة هي الأخرىلا تتعدى كونها صندوق مطلي يالبنفسجي شكل نظيرا لمشهديته الداخلية التي طغى عليها فسفور البنفسج من خلال اختلاط اشعة الوانها التي لم تعدم نثارا من وهج اصفر.
العمل بمجمله لعبة مسلية، مشهد كوكبي مسلي وسط مساحة التسلية الكونية التي تطل علينا يوميا من خلال شاشات هوليود السينمائية او التلفزية. ما بعد الحداثة، المعاصرة، بتفكيكاتها اللانهائية وبمسحتها الشعبية، باختلاطاتها الجادة والهازلة، بمعلومتها السائلة، بصدمتها المباشرة. كل ذلك لم يكن بعيدا عن نوازع عمل (الخطيب) والذي بامكاننا ايضا احالته الى فضاء العاب الطفولة ومسراتها بما يظمره من تفكيك لالة الحرب وبعثرة عنفها او نسف فاعلية مقاصدها المدمرة بعد ما اكتوى بشضاياها حاله حال اقرانه العراقيين. لعبة رافقته عبر اكثر من اغتراب ونجح اخيرا في تجاوز لعنتها. ارث مشهد صغير ظل كامنا في نفق ذاكرة الخطيب من ايام طفولته العراقية حتى تجاوزات ازمنته العديدة، اخيرا وجد منفذه بصياغات لا تبتعد عن محمولات ثقافية بيئية مستجدة.
الفنان الاخر (عبد الكريم سعدون) لعب على محموله التشكيلي العراقي بما يوازي حنينه لوسط تشكيلي عايشه زمنا طويلا، او ربما تكريسا لمنطقة سحر لا زالت عالقة في ذاكرته مثلما هي ماسكة بتلابيب اقرانه (فناني الداخل) ولم يفلت من اغراءات سحر سطح العمل المسندي الأشاري الذي لا يبتعد عن نية اللعب على احالات بيئية تستنطق مساحة سطح الأثر نفسه (الجدار وبلاطات رصيف الشارع). جماليات باتت مشاعة لعدة عقود من زمن التاريخ العراقي الحالي. حسنة (السعدون) في هذا العرض المشترك هو محاولته اشراك المشاهد السويدي على عينة من نتاج التشكيل العراقي بصيغته المشاعة. وما يبرر الأبتعاد عن مظمون عنوان العرض (الثقافة الثالثة) في هذه الأعمال المعروضة، هو كون الفنان
حديث عهد في الاغتراب، زمن اقامته القصيرة على ما اعتقد لم يوفر لمؤثرات المحيط الجديد (الثقافة الأخرى) اختراقه للحد الذي تبرز فيه كعنصر مساعد اومحرك في نتاج
عمله التشكيلي، اظافة لضيق الوقت الممنوح له للأشتغال على هذه الثيمة. مع ذلك لو تجاوزنا كل ما نوهنا عنه، تبقى اعمال هذا الفنان في بعض من مؤثراتها اقرب الى مساحة (عبد الأمير الخطيب) في ملونتها التي حاورت النور والعتمة وفي مهارة معاملة المادة المضافة والتلاعب بقياسات الحجوم وطريقة العرض الأستعراضية. اخيرا يبقى هذا القرب في مجال الأخراج وليس المضمون الموائم المعلن.
اعمال التشكيلي المساهم الثالث في هذا العرض (ياسين عزيز) جاءت هي الأخرى بعيدة عن روح العرض لنفس الأشكالية، تصوره للعرض لا يتعدى استعراض مراحل اعماله
ليس سهلا الأشتغال على عنوان ثقافي تشكيلي كهذا ان لم تتوفر عند المنظم شروط العرض الثقافية العامة المحمولة والمكتسبة التي تفي العرض حقه بما يناسب ما نراه هنا من مشاريع عروض تشتغل على مساحة ثقافية او بيئية او ما شابه ذلك، ونحن كفنانين مهاجرين وجزأ من وسط ثقافي نتعايش ضمنه علينا الأنتباه الى حجم مساهمتنا الفعلية والعمل على ابراز قدراتنا بما يدعو الأخرين للأنتباه لجهدنا. ليس العبرة في الأشتراك بالنشاط التشكيلي بقدر مغزى المشاركة وضمن ما تخلفه من اثر ثقافي او جمالي مناسب.
..........................................................................................................
1- (يجب ان يستمر العرض)، اسم العرض.
(Show must go on)
2- العرض الأخير لكلري (اور)، في مدينة مالمو، جنوب السويد. بتاريخ -2006-06-10
3- (صندوق الولايات)، كما كان يدعى في العراق ايام زمان، وفي بعض البلاد العربية (صندوق الدنيا). صندوق باربعة قوائم محمول من قبل صاحبه الجوال في عروضه لأطفال أزقة المدينة. تمرر الصور داخله بواسطة اسطوانتين يحرك هو عتلتها مصاحبا بترنيمة مناسبة لمشهدية الصور.
4- لا تزال مدننا التي تظم رفات رموز الدين تحظر انشاء دور السينما، الى وقتنا هذا.
5- اعتمد الكلري مساهمة الفنانين العراقيين الثلاثة على اساس مدن سكناهم - هلسنكي الفنلندية - يوتوبوري و ستوكهولم السويدية.
علي النجار
مالمو- السويد