عالم الأدب

لا ديموقراطية حقيقية بدون أمازيغية رسمية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حوار مع الشاعرة الأمازيغية مليكة مزان

أجرى الحوار رشيد عدناني: مليكة ميزان شاعرة أمازيغية ناطقة بالعربية. أستاذة مادة الفلسفة بالرباط، عضو بـ"حركة شعراء العالم" من دواوينها صدر لها عدة دواوين، التقينا بها فكان لنا هذا الحوار الصريح:

* كيف تعيشين تجربة الكتابة الإبداعية باللغة العربية دون التنازل عن هويتك الأمازيغية؟
- في منشوراتي الورقية السابقة لم أكن لأشير إلى أصلي الأمازيغي إلا بشكل خجول إذ لم يكن لدي وقتها هذا القدر من الإحساس القوي بالانتماء. حصل ذلك مرة من خلال إحدى قصائد ديواني الأول "جنيف.. التيه الآخر"، ومرة ذات حوار أجرته معي جريدة الصباح المغربية، ومرة أخرى وأنا أنشر صورة لي على غلاف ديواني الثالث مرتدية فيها لباسا كتب عليه حرف الزاي الأمازيغي. والديوان عبارة عن قصائد / رسائل مفتوحة إلى مناضل أمازيغي. فعلت ذلك انسجاما مع محور الديوان وهو الدفاع عن عدالة القضية الأمازيغية. وقد مرت التجربة في هذه المرحلة دون رد فعل من طرف النقاد والقراء على حد سواء، هذا على الأقل في حدود علمي الشخصي.
أما فيما يتعلق بالنشر الرقمي فقد تعمدت، ومنذ البدء وفي كل المواقع الثقافية العربية، أن أوقع كل نصوصي بانتمائي الأمازيغي ؛ وكان لجمهور القراء العرب وحتى بعض الأمازيغ ردود فعل قوية كلها رفض واستنكار. فعلت ذلك رغبة مني ملحة في رفض ظاهرة سادت وما تزال المجتمع الأمازيغي، وهي ظاهرة مثيرة للاشمئزاز تتلخص في تخلي أغلب مثقفينا عن هويتهم الأمازيغية، مع ما رافق ذلك التخلي من تقديم لمختلف أشكال الولاء لأسيادهم ومن خدمات مجانية جليلة للثقافة الأصلية لهؤلاء، مسيئين بذلك أيما إساءة للهوية الأمازيغية وحقها في العلنية والاختلاف والكرامة والحياة.
لقد كانت التجربة اختبار صعبا، ظهرت صعوبته بالنسبة لي في مدى قدرتي على مواصلة الاعتزاز بانتمائي العرقي والثقافي، ومدى تشبثي بهما والدفاع عنهما، مع ما كان يجره علي ذلك من غضب العرب العنصريين والأمازيغ المستلبين وتهميش الجميع لي. وهو وضع محرج كان علي فيه إما الإصرار على التشبت بهويتي الأمازيغية والصمود عليها رغم كل هذا التهميش والرفض الذي كنت أواجه به وإما التنازل عن تلك الهوية والقبول بأن يخضعني العربي لإرادته وهيمنته، ويحسبني على منظومته الثقافية الخاصة به. مع ما يعنيه لي هذا الخيار الأخير من تراجع عن أداء رسالتي الإبداعية والنضالية، بل من خيانة للجماهير الأمازيغية التي تنتظر من المثقف أن يكون صوتها الأمين والمدافع المستميت عن حقوقها ومصالحها.
في حين ظهرت صعوبة هذه التجربة / الاختبار بالنسبة إلى الآخر العربي والأمازيغي في مدى قدرة الأول على الانفتاح على الثقافات الأخرى وتسامحه معها وإيمانه بضرورة الاعتراف بالآخرين المختلفين، وفي مدى وعي الثاني بخطورة ما يحاك ضد بقائه وثقافته من مؤامرات الإبادة والمحو تحت ذرائع مختلفة.
أما في ما يتعلق بنتيجة ذلك الاختبار فبالنسبة إلي شخصيا لا يمكن لي إلا أن أعتز بموقفي، فقد أبديت وما أزال تشبثا صارما بانتمائي الأمازيغي وإيمانا قويا بعدالة القضية الأمازيغية، بل وبالصفة الاستعجالية لضرورة الاستجابة للمطالب الأمازيغية أكثر من أي وقت مضى، تشبثا طردت بسببه من ثلاثة مواقع ثقافية، كما اضطررت معه إلى الانسحاب تلقائيا من موقع اتحاد كتاب الأنترنت العرب.
أما بالنسبة إلى العربي فإن نتيجة هذا الاختبار الثقافي كانت على العموم غير مشرفة. إذ سقطت عنه كل الأقنعة، وبدا فظيعا برفضه لكل ما هو غير عربي، وباستنكاره لكل دعوة لتصحيح ما ارتكبه العرب من أخطاء في حق الآخرين. إن الآخر العربي لم يجد في إصراري على توقيعي نصوصي بانتمائي الأمازيغي سوى استفزاز له، واعتداء سافر عليه، وصفعة لم يكن ينتظرها، ورآني أوجهها له، مؤمنة بأنه قد حان الوقت لأن يستفيق لفظاعة مواقفه، ولعنفه وعدم تسامحه، هو المعتد كثيرا بعروبته، هو الذي يأبى الاعتراف للآخرين بأي وجود خارج عروبته ودينه، ولكنه لا يتردد في رفع صوته محتجا على كل انتهاك لحقوقه، أو مصادرة لأراضيه، أو هجوم على مقدساته، أو تهديد لثقافته وتميزه. بل كان من المثقفين العرب من سمحت له نفسه أن يتجاوز كل ذلك إلى الشتم والسب في حقي، وفي حق الثقافة والشعب الأمازيغيين، وكذلك في حق الشعب الكردي نظرا لعلمهم بعلاقة النضال التي صارت تربطني ببعض الشعراء الأكراد، هادفا بذلك إلى إهانتي وثنيي عن مواصلة نضالي وأداء رسالتي.
إذا كان ذاك هو موقف الآخر العربي فإن بعض المحسوبين على الانتماء الأمازيغي أبدوا كثيرا من الجبن والتنكر للهوية الأمازيغية متملقين بذلك لأصحاب المواقع الثقافية، ومدافعين عن موقفهم بضرورة التسامح وعدم التعصب، وهما عنصران أراهما دائما يتحققان من طرف واحد هو الطرف الأمازيغي. أما الطرف العربي فكل محاولة لاسترداد الذات الأمازيغية لنفسها من كل اغتراب وإقصاء، وكل محاولة منها لحماية هويتها وثقافتها، وبالتالي وجودها، كانت ـ وماتزال ـ تعد في نظر العربي عامة مجرد رغبة في إشعال فتيل الحرب الأهلية ليس إلا. وما إلى ذلك من الاتهامات التي يرمى بها الأمازيغ الغيورون، والتي تعودوا عليها كما تعودوا الاستخفاف بها لأن ما هدفها سوى ثنيهم عن التمادي في كل مطالبة مشروعة بكل حق لهم طبيعي.

*ما هي بعض الصعوبات "العنصرية" التي اعترضت طريقك لإثبات مكانتك كشاعرة أمازيغية تكتب باللغة العربية؟
ـ عند ظهور أولى نصوصي والتي تحمل على عاتقها مسؤولية الدفاع عن كرامة الإنسان الأمازيغي ظهر إقبال على كتاباتي من طرف المتلقي المغربي، وذلك على الأقل بالجهات التي يتواجد فيها الأمازيغ بكثرة والتي مازالوا يتمتعون فيها بروح غيورة على كل ما هو أمازيغي من أرض وتاريخ وثقافة. لكن وموازاة مع ذلك الإقبال تمت عرقلة كل ما من شأنه أن يشجع كاتبة أمازيغية على التمادي في خطابها الشعري الأمازيغي الروح، العربي اللسان، الشجاع المواقف.
لقد بدا واضحا في ما بعد أن ما لمسته من تسامح من طرف بعض الجرائد التي نشرت نصوصي، وكذلك من بعض المثقفين والمسئولين المغاربة الذين شجعوني، عربا كانوا أو أمازيغا، لم يكن بريئا بل لغرض تجاري صرف أو لمصلحة شخصية أو لمجاملة عابرة ليس بإمكانها أن تقدم الشيء الكثير لتجربتي، بل كان تشجيعي بالنسبة إلى البعض منهم خطأ لا بد من تصحيحه سواء بتجاهل لاحق، أو بإقصاء لازم، أو بنصائح صادمة انبعثت منها رائحة الخيانة قوية واضحة. ذلك أنهم لم يكونوا ليجدوا في أشعاري واجبا وطنيا، ولا موقفا إنسانيا شجاعا، بل مجرد كتابة ذات نزعة حالمة أو نعرة عرقية عنصرية أو حتى مجرد مراهقة متأخرة يجب أن تغتفر لي في انتظار نضجي الآتي !
هذا على مستوى النشر الورقي واللقاءات الثقافية، أما على مستوى النشر الرقمي فالممارسات العنصرية كانت جد مؤلمة، خاصة وأنها صدرت عمن يعتبرون أنفسهم من كبار المثقفين العرب. فما أن انتبه هؤلاء إلى الحمولة الأمازيغية لكل نص أنشره، موقعا باسم شاعرة أمازيغية ومن المغرب الأمازيغي الكبير، حتى انهالت علي استفسارات لم يمض عليها بعض وقت حتى تطورت إلى اعتراضات قوية، فاتهامات خطيرة، فشتم وتجريح بهدف لا النيل فقط من تجربتي الشعرية ومن قناعاتي الراسخة، بل ومن عرضي كامرأة أمازيغية تبدو لهم ساقطة، لا غاية لها، في نظرهم، غير إفساد الأخلاق والدين والمجتمع. كما تجاوزوا شخصي إلى الإساءة إلى كل الأمازيغ وللثقافة الأمازيغية. بل كان منهم من بعث إلي برسائل إلكترونية يضمنها رفضا واستنكارا، أو شتما وتهديدا أو تحرشا جنسيا أو دعوة إلى الاهتمام بالقضايا العربية. رسائل اضطررت معها إلى التخفيف من نزعة التمرد والرفض في بعض النصوص أو حتى حذف نصوص بكاملها، فقط مخافة أن أتسبب للهوية الأمازيغية في عكس ما كنت أنوي إنجازه من أجلها، وذلك جراء ما قد يبديه كل قارئ متسرع من سوء فهم، أو ما قد يصدره من حكم لا يتعدى ظاهر النص إلى ما تحمله روحه من قيم إنسانية أخلاقية.
أضف إلى ذلك، كمظهر من مظاهر التعامل العنصري مع تجربتي، ما ألاحظه من غياب النقد النزيه البعيد عن كل التأويلات الإيديولوجية الظالمة. فبالرغم من أصالة كتاباتي، وحسب أقوال وتعاليق المناوئين أنفسهم، سواء من حيث الموضوعات المتطرقة إليها أو درجة الصدق والعمق التي تناولت بها تلك الموضوعات، فإن هذه الكتابات لا ينتبه لها النقد الجاد النزيه وبالشكل اللائق بها. كما أن الذين يراسلونني وأمدهم بما يجب من نصوص أو كتب لإنجاز ما يقترحونه من دراسات لا يفون بما يعدون به، أو لا يتمكنون من نشر ما يكتبون سواء كان دراسة نقدية جادة أو قصائد تضامن معي أو حوارات أدبية أو مجرد تعاليق حول ما أنشر هنا وهناك وذلك بسبب الرقابة التي تجد في كتاباتي وفي كل تضامن معي أو تشجيع لي خطرا على الوجود العربي في شمال إفريقيا.
ولعل ما قامت به بعض المواقع من إغلاق لأبوابها في وجهي، أو حذف لكل نصوصي المنشورة بها حين فطنت لروحها الأمازيغية القوية ليعتبر في نظري من أقوى مظاهر العنصرية الناتجة عن الخوف من الانبعاث الأمازيغي ومن سوء الفهم لعدالة المطالب الأمازيغية.

*هل وجدت / تجدين نقاط تشابه مع كتاب أمازيغيين آخرين كتبوا / يكتبون بلغات غير الأمازيغية مثل محمد خير الدين، محمد شكري، مولود معمري، كاتب ياسين، مثلا؟
ـ أعتز أيما اعتزاز بالمرحومين محمد خير الدين ومحمد شكري، وما تذكيري القارئ العربي بأصلهما الأمازيغي في كل مناسبة يذكر فيها اسمهما سوى شكل من أشكال ذلك الاعتزاز، أما الكاتبان الآخران فلأسف لم أسمع بهما، ربما لقلة اطلاعي أو لتقصير الإعلام والنقد في التعريف بكتابنا الأمازيغ الذين إما يطالهم التجاهل والنسيان، أو يحسبون على ثقافات أخرى حسب اللغة التي يكتبون بها لصالح تلك الثقافات، وتفقيرا لثقافتنا الأم، وبالتالي الحكم عليها بالاندثار التدريجي.
أما سؤالك عما يمكن أن يوجد من تشابه بيني وبين هؤلاء فأقول بأن التشابه حاصل فعلا. لا أبغي بذلك أن أرفع من قدري بالشكل الذي يجعلني من وزن هؤلاء الكتاب الأمازيغ الكبار، بل لأسجل فقط تشابه الظروف الاجتماعية والنفسية التي خلقت منا جميعا هؤلاء الكتاب الأمازيغ ذوي الاتجاه المتميز والذين لم يكتبوا بلغتهم الأم ومضوا، الأحياء منهم والأموات، وفي صدرهم ما يشبه حسرة مفادها لو أنهم أخلصوا لهذه اللغة بجعلها الوعاء المشرف لتجربتهم الحياتية والشعرية، واتخاذها الوسيط الأمين الوحيد بينهم وبين الذاكرة والشعب الأمازيغيين.
نعم أشبه هذين الكاتبين بما أحسا به وكباقي الأمازيغ من غبن وعنصرية معالمها الإقصاء والتفقير وكل أشكال إهانة الأمازيغ وهم على أرض أجدادهم. فمنذ طفولتي المبكرة وحتى مرحلة الدراسة الثانوية كنت أتعرض للشتم بسبب أصلي الأمازيغي، مما كان له الأثر السيء على نفسيتي. وهو سلوك عنصري ما زال، للأسف، ساريا في المجتمع المغربي، ولم تسن لحد الآن أية قوانين لردعه ومعاقبته، تمعنا من السلطات في استخفافها بمشاعر وكرامة الإنسان الأمازيغي. إنه سلوك يقوي الإحساس بالاختلاف وبالظلم، بل الإحساس بضرورة التمرد والاحتجاج دفاعا عن كرامة الوجود الأمازيغي خاصة وأن ذلك السلوك يمارس على هذا الوجود وهو على أرضه وفي عقر داره.
وكم يصير التمرد حقا مشروعا حين نلاحظ أن تلك الشتائم والإهانات تصدر من أولئك المنحدرين من أسر عربية غنية، أسر تستغل خيرات البلاد وتذيق السكان الأصليين الكثير من البؤس بسبب سياسة التهميش المتبعة ضدهم، وهي شتائم كانت وستظل مصدر إحساس بالغبن ودافعا لكثير من التمرد والرفض.
على أن شتم الآخر لي شخصيا بسبب اختلافي العرقي والثقافي، وفي كل المدن التي كانت تسكن بها أسرتي، وكذلك انحداري من أسرة أمازيغية فقيرة بجبال الأطلس المتوسط حيث الفقر المدقع، لم يكونا ليدفعاني إلى الإحساس بالخجل من ذاك الانتماء بل كانا دافعين قويين إلى الرغبة في رد الاعتبار له، سواء بالتغني به والدفاع عنه، أو بإظهار ما يكفي من النضج الحضاري في التعامل مع الآخرين، بل إن حرصي على احتلالي دائما المرتبة الأولى داخل الفصل الدراسي في ما مضى من حياتي الدراسية وكتاباتي الآن وإصراري على توقيعي لها بأصلي الأمازيغي ليسا سوى شكل من أشكال احترام هذا الانتماء والانتصار له ضدا على كل احتقار وإلغاء وإذلال شأني في ذلك شأن كل الأمازيغ الأحرار داخل المغرب أو خارجه.
لقد كان ممكنا لهذا الانتصار أن يأتي كاملا لو كنت أبدعت نصوصي بلغتي الأم لغتي الأمازيغية، ولكني لم أجد غير اللغة العربية وسيلة أتقنها نتيجة حتمية لسياسة التعريب المتبعة لدينا، فوجدتني أستعملها وسيلة للرفض والصمود والتحدي، ودفاعا عما تبقى من ملامحي الأمازيغية ومن شخصيتي المغربية أمام سياسة التعريب وجرائم الإلغاء والمحو. إن اللغة العربية ليس لها أي حضور مقدس لدي. لقد كانت في نظري وما تزال مجرد وسيلة لا أكثر، وسيلة أستغلها لإبلاغ رسالتي الإبداعية والإنسانية لأصحاب هذه اللغة أعداء هويتنا الأمازيغية وحقوقنا المشروعة. لذا أعتبرني كاتبة أمازيغية حتى النخاع ناطقة فقط بالعربية.
في كل ما ذكرت من إحساس بالقهر مع الرفض له، ومن اعتزاز بالانتماء والتشبث به والغيرة عليه والرغبة في تشريفه أجدني أشبه إلى حد التماهي كل من المرحومين محمد شكري ومحمد خيري الدين اللذين كانا يصران على ضرورة إنصاف ذاتهما بإرجاعها إلى الثقافة الأمازيغية رغم استعمال الأول للغة العربية، والثاني للغة الفرنسية.

*إلى أي حد تعتبرين الكتابة بلغة أخرى غير اللغة الأم " منفى" لغويا أو ثقافيا؟
ـ اللغة كتجل من تجليات الثقافة لا تحدد فقط هوية جماعة بشرية ما وتميزها، بل هي الضامن الأساسي لاستمراريتها وبقائها، لذلك تعتمد استراتيجية كل غزو لتسهيل السيطرة على شعب ما ثم القضاء عليه على ما هو ثقافي بالأساس، وما لغة أي شعب سوى جزء من ثقافته الكل.
إن النخبة العربية الحاكمة عندنا تسلك نفي الإستراتيجية الجهنمية التي يسلكها أي غزو للقضاء على الشعب الأصلي لكل أرض. فأن تفرض علينا هذه النخبة لغتها فرضا، وتحاصر، في المقابل، لغتنا الأم حتى لتظل مجرد رموز في اللوحات الفنية والزرابي التقليدية ورسومات الحناء ـ إن ذكرتنا بشيء فلتذكرنا بأننا مجرد تحف فنية من مجد ولى وزمن مضى ـ وأن تستمر في سياسة الحصار تلك حتى لا نجد من وسيلة للكتابة وللتعبير عن ذاتنا سوى لغتها هي ليعتبر إبعادا ثقافيا بل نفيا أخطر من كل نفي لأنه بكل بساطة جريمة قتل.
وهكذا إذا كان من حق محمود درويش العربي أن يحن في منفاه إلى خبز أمه وقهوة أمه لأنهما من رموز الأرض التي شرد منها وبها وجوده وبقاؤه فأنا أجدني في منفاي الثقافي هذا ( أي حرماني من لغتي الأم من قبل هذه النخبة وعلى أرض أجدادي ) لا أقل حقا منه في الحنين إلى كل ما أفتقده من مقومات وجودي الكامل وداخل وطني وهو حنين مزدوج : حنين، مثل محمود درويش لا فرق، لخبز أمي وقهوة أمي على اعتبار أن أغلب الفقراء والمهاجرين المحرومين من خيرات المغرب وكل بلاد تمازغا من أصل أمازيغي بعد أن سلبهم العرب أراضيهم بوسائل مختلفة وتحت ذرائع شتى. وهو حنين أيضا إلى لغة أمي وغناء أمي وحكايا أمي ورقص أمي وكل أشكال تعبير أمي، وباقي الأمهات الأمازيغيات، عن وجودنا الجماعي واختلافنا الثقافي، أشكال إن استطعن الحفاظ بها على هويتنا الأمازيغية، على مدى قرون من الغزو الثقافي العربي، فإنها تواجه معنا الآن، نحن الأجيال المعربة، خطر الانقراض خاصة إن لم نسرع إلى تداركها، ومعها وجودنا، تداركا ليس له أن يكتفي بالاحتجاج والمطالبة بالإنصاف، بل عليه المرور إلى تفعيل وجودنا وثقافتنا وكرامتنا بكل وسائل الضغط الممكنة، لا بمجرد انتظار العفو والرحمة من النخبة العربية الحاكمة .
هنا اسمح لي أن أضيف بأنه كان من الممكن لي ـ تبعا لهذه القناعات وانسجاما معها ـ أن أتفهم سلوك أمازيغ المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إزائي حين لم يلتفتوا إلى كتاباتي النضالية بأي شكل من أشكال التشجيع والاهتمام، لو كان السبب الحقيقي في استخفافهم بتجربتي يكمن فقط في عدم كتابتي باللغة الأمازيغية. نعم كنت سأتفهم موقفهم وأحترم غيرتهم على لغتنا الأمازيغية لو لم يدعموا، قبلي وبعدي، شعراء آخرين يكتبون باللغة العربية أو بالدارجة المغربية أو حتى بالإسبانية، شعراء لا يربطهم بالأمازيغية سوى التنكر لها وإهمالها. كنت سأتفهم موقفهم أيضا لو لم أعلم في ما بعد أن موقفهم مني كان لأسباب سياسية صرفة وأخرى لأسباب شخصية خاصة ببعض الباحثين. نعم كنت سأتفهم موقفهم تماما كما تفهمت وجهة نظر السيد محمد بودهان، مدير جريدة تاويزا وأحد المنسحبين الشجعان من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، حين رفض نشر أشعاري المكتوبة باللغة العربية، ولكن شتان ما بين محمد بودهان الغيور الصادق على اللغة الأمازيغية والمصر على الإبداع بها حفاظا عليها ونهوضا بها، وبين أمازيغ ذاك المعهد الذي لا تستغل صفته الرسمية ولا إمكانياته الضخمة من أجل النهوض الفعلي والحقيقي بأمازيغية المغرب أرضا وشعبا وثقافة، وبما كان منتظرا من المساواة بين مختلف لهجات وفئات ومناطق الشعب الأمازيغي. ذاك أنه معهد تغلب على اختياراته النزعة الجهوية العنصرية، نزعة تعمق الجراح القديمة وتضيف جراحا أخرى لم نكن في حاجة إليها لنحس بمزيد من الغبن وفي عقر ديارنا وهذه المرة من طرف أهلنا الأمازيغ وذوينا !

* هل هناك فوائد ثقافية أو فلسفية في هذا الإبتعاد اللغوي/ الثقافي؟
ـ لا أعتقد أن الاقتصار الآن على الكتابة بلغة غير متداولةٍ وبحروفها الأصلية كاللغة الأمازيغية سيحقق للأمازيغ ما هم في حاجة إليه من التواصل مع الآخر بهدف تعريفه بوجودهم وبثقافتهم وبعدالة قضيتهم. وذلك راجع للوضعية المزرية التي تعيشها هذه اللغة بسبب الحصار المفروض عليها. فكم صدمت، أنا التي أكتب باللغة العربية، بأسئلة غريبة طرحها علي كثيرون من مناطق مختلفة من العالم بل ومن داخل المغرب نفسه أيضا، أسئلة مثل : من هم هؤلاء الأمازيغ؟ من أين أتوا؟ أين يسكنون؟ هل هم أقلية أم أغلبية؟ هل بلدهم هو الجزائر؟ هل انقرضوا أم مازالوا على قيد الوجود؟! لذلك أرى أن هذا الابتعاد اللغوي / الثقافي على الرغم مما فيه من خيانة للغة والثقافة الأم مفيد جدا خاصة في تعريف الآخر بالذات والثقافة الأمازيغيتين كنوع من الترجمة المباشرة عن هذه الذات. وأعتقد أن ذاك ما نجح فيه المرحومان محمد خير الدين ومحمد شكري في مجال الإبداع الأدبي. فقد عرفا من خلال كتابتهما بالذات الأمازيغية وظروف عيشها وآلامها وطموحاتها وكل ذلك من خلال اللغة الفرنسية أو اللغة العربية. فلو أن محمد شكري واصل الكتابة بالأمازيغية بعد تلك الجمل الأمازيغية التي استهل بها مثلا روايته الخبز الحافي لما حقق نفس النجاح الذي عرفته كتاباته عامة داخل المغرب وخارجه. بل إن الفضل في ذلك النجاح يعود إلى ترجمة روايته تلك وباقي كتاباته إلى اللغات العالمية الحية، فحتى اللغة العربية التي كتب بها والتي يصر أبناؤها على إلحاقه بثقافتهم لم تكن لتسدي له وللثقافة الأمازيغية ما أسدته له تلك اللغات العالمية من انتشار.
إن هذا الابتعاد الثقافي يساعد الكاتب الأمازيغي على إيصال خطابه الإبداعي والإنساني الحضاري وبالدقة التي يريدها ودرجة الأمانة التي يتوخاها، مختصرا بذلك كثيرا من الوقت والمجهود، ومجتنبا كثيرا من الأخطاء الناجمة عن عدم قدرة الترجمة على نقل روح النصوص الأصلية وغاياتها النبيلة خاصة حين تكون تلك النصوص نصوصا شعرية، وهو ما أستفيده شخصيا وثقافتي الأمازيغية من الكتابة باللغة العربية التي حاولت، وما أزال، أن أوصل بها معاناة شعبنا الأمازيغي إلى الأوساط الثقافية العربية وأتمنى أن أكون بهذا الصدد حققت بعض نجاح.

*كيف ترين مستقبل الكتابة باللغة الأمازيغية؟
ـ لاشك أن مستقبلها مرتبط بشكل وثيق بضرورة فرض تعلم اللغة الأمازيغية على كل طفل طفل مغربي، وفي كل مستويات الدراسة، وكذلك بتفعيلها في كل مرافق الحياة. وهنا لا بد من أن يقوم المسئولون، كل في مجال اختصاصه، بكل ما من شأنه أن يساعد على تحقق هذا الشرط إيمانا منهم جميعا بأن ما يقومون به واجب لا يقل عن باقي الواجبات الوطنية إلزامية، وبأن كل تهاون في أدائه هو تهاون وتواطؤ ضد تحقيق الديموقراطية المرجوة. على أن مهمة تحقيق مشروع وطني كهذا تتطلب دسترة اللغة الأمازيغية وترسميها، بهذا فقط يمكن لها أن تصير لغة الدولة والشعب والبيت والشارع، والخلق والإبداع والتواصل اليومي داخل كل مؤسسات المجتمع. فلا
إمكانية للكتابة باللغة الأمازيغية إن لم تصر هذه اللغة هي الحياة عينها، تعاش في كل لحظة، وفي كل مجال، وفي وضح النهار تحت الحماية القانونية اللازمة أي دون أدنى حصار أو رقابة، أو استخفاف وسخرية.
إن اللغة الأمازيغية من غير تلك الحماية القانونية اللازمة ستظل منحصرة، كلغة خلق وإبداع، في نخبة صغيرة جدا من المثقفين المغاربة، وكلهجات تواصل شعبي في أسر ومناطق أمازيغية مازالت النخبة العربية الحاكمة تخطط بكل وقاحة لتعريب ما تبقى من وجدانها وشخصيتها وتلح على ذلك أي ما إلحاح. وهي وضعية لا شك أنها غاية كل المناوئين للهوية الأمازيغية للمغرب ولكل شمال إفريقيا أرضا وشعبا. وهنا دعني أنتهز الفرصة لأوضح نقطة جد مهمة وهي أن هؤلاء المناوئين العرب ينسون أنهم، ومهما كان أصلهم، مواطنون أمازيغ وبالتالي فإن اللغة الأمازيغية التي يعادونها هي لغتهم أيضا. فكل فرد من أفراد الشعب المغربي حامل للجنسية الأمازيغية بالضرورة بحكم عيشه على الأرض المغربية وأقدمية تواجده عليها. فالأرض هي التي تمنح صفتها للإنسان لا الإنسان ؛ فنحن من حولنا نرى الدول الغربية المستقبلة للمهاجرين وللأجانب هي ما يمنح هؤلاء جنسيتها إما بحكم الولادة فيها أو العيش الطويل الأمد على أراضيها لا العكس، لذلك لا أفهم منطق عرب المغرب وباقي شمال إفريقيا المقيمين على أراضينا حين يريدون أن تكون هذه الأراضي استثناء على هذه القاعدة، أي أن تصير عربية بدل أن يصيروا هم أمازيغيين بحكم عيشهم عليها واستفادتهم من خيراتها. هنا يحضرني تصريح تاريخي للرئيس الجزائري الحالي في إحدى خطبه مؤخرا في الشعب الجزائري يقول فيه : " نحن كلنا أمازيغ عربنا بالإسلام ". وهو تصريح يسجل له لأنه يحمل تباشير تحول شجاع في الذهنية العربية مفاده ضرورة الاعتراف بأمازيغية شمال إفريقيا وكل شعوبها، هذه الشعوب التي لم ولن تكون في النهاية سوى شعب واحد هو الشعب الأمازيغي الصامد.
وبهدف أن يقتنع عرب المغرب وشمال إفريقيا بعدالة القضية الأمازيغية أستشهد هنا بما يستشهد به أستاذ الأدب المقارن الدكتور أحمد درويش في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان : إنقاذ اللغة rlm;..rlm; إنقاذ الهوية ( واللغة عنده هنا هي اللغة العربية كما أن الهوية ليست سوى الهوية العربية، وفي رأيي ورأي كل إنسان عاقل عادل أن ما يحق للغة والثقافة العربيتين في أوطانهما يحق أيضا وبنفس القدر للغة والهوية الأمازيغيتين على أراضيهما ) أقول أستشهد بنفس المقاطع ومن نفس القصيدة، قصيدة الشاعر الصقلي إجنازيا بوتينا وعنوانها : لغة وحوار، تقول ترجمتها rlm;:rlm;
ضع شعبا في السلاسل / جردهم من ملابسهم / سد أفواههمrlm;.. / لكنهم مازالوا أحراراrlm; !rlm; / خذ منهم أعمالهم / وجوازات سفرهم / والموائد التي يأكلون عليها / والأسرة التي ينامون عليها / لكنهم مازالوا أغنياء ! rlm;/ إن الشعب يفتقر ويستعبد/عندما يسلب اللسان / الذي تركه له الأجداد / وعندها يضيع للأبد rlm;!rlm;

أعمال مليكة مزان:

ـ جنيف.. التيه الآخر ـ 2004
ـ لولا أني أسامح هذا العالم ـ 2005
ـ لو يكتمل فيكَ منفاي ـ 2005 ( قصائد / رسائل مفتوحة إلى مناضل أمازيغي 2005)
ـ حين وعدنا الموتى بزهرنا المستحيل ـ 2006
ـ متمرداً يمر نهدكِ من هنا ـ 2006

رشيد عدناني مواطن أمازيغي مقيم بالولايات الأمريكية المتحدة، يعمل أستاذا لمادة اللغة العربية بكلية ويلزلي التابعة لجامعة بوسطن الأمريكية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف