جمال الموتى!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في النيكروفيل لـغابرييل فيتكوب
هذا الصباح، ثمة زبونة أفصحت
عن عبارة جميلة بخصوص صندوق(...)
"كم هو جميل! لكأنه تابوت"
و قد اشترته مع ذلك. ص 28.
ليس فقط مجرد قسوة مفتعلة أن يتعاطى "النيكروفيل" لذة مع موتى، ولكن الأمر يتعدى كل تحقق مكتمل لأفظع تقنيات الرعب و الاشمئزاز، ليؤسس لعلاقة سوية في انحرافها الظاهر مع أشخاص توقفت لديهم تجربة الحياة ليمطط فيها هو بالرغم منها. لم يكن كتاب غابرييل فيتكوب عن "النيكروفيل" سوى بعض يوميات شخص يدعى لوسيان، صدرت
لكن كيف نتحدث عن موت جدير بالموتى الذين يحب و يأسف بكثير من الألم بإلزامية افتراقه معهم. يسعى إذن لذلك كمقايضة، بعد أن منحوه، بارتخاء وبقابلية مرنة جدا كل أجسادهم، و ينقل موتهم من انطواء باهت في سواد توابيت المقابر إلى حياة الموت في الماء أو إلى الموت الذي يتحول إلى جزيئات حية تدخل في تكوين القواقع و الأسماك ؛ موت لائق و سام في طحالب السين.
هل ثمة إذن من لوثة مرضية في اجتراح متعة جهة الموت؟
هل ثمة فقط مجرد فعل كريه في مضاجعة جسد بارد و ذابل و في إيلاج جثة؟
لوسيان إذن كتب تلك اليوميات، دون أن ندرك متى كان يخلو إليها و دون أن ندرك كيف أفضى بها الأمر إلينا، قد يكن من الممكن أن يعترف من خلالها بعد تسرّيه الأهم و يكسر بها بالتالي جدار عزلته و حتمية إبقائه على سرّ ما يضطلع به من اشتباه مضن لدى الآخر. كتابة من أجل ذات تحتاج إلى اقتسام و تخشى في الآن نفسه من الفضيحة، لذلك تحقق الكاتبة هذين الحدين الصعبين لأنها، نوعا، تنوجد خارج المأزق الظاهر لتلك الوضعية النفسية و الوجودية العسيرة.
فعندما نتمكن إذن كقراء من الوصول إلى نواة النص، فقط نستطيع ثمة أن نقرأه بهدوء و بكل ارتياح المشائيين في درس الفلسفة.
كثيرة هي كتب الإباحة في الغرب ومتراكمة كتب التطبيقات الجنسية الآتية من الشرق أو الشرق الأدنى، غير أن كتاب "النيكروفيل" فريد كأدب خاص يثير "النيكروفيلياِِِ" الكامنة في الواقع و المتخفية في مناطق التباس بين الخوف و اللذة و الموت، في لقطة سريعة تحسب كثيرا للتفشي وتسرق من الموت بل تفرغها من أدنى ما قد تجره جهة ظلمة التراب من بقايا حياة.
لا ندرك تحديدا كيف أفضى الأمر بلوسيان كي يختار لذته ضمن تبعات الموت و انشغاله، وما الذي حبب له أو ما الذي، ربما قد، صير له كل الطرق الأخرى لشهوات مسدودة أو كريهة أو غير ذات معنى؟
ثمة نوفمبر لأعوامه الثمانية، كان الوقت عيدا للأموات في فرنسا وكان عليه أن يظل وحيدا في البيت و في سواد دامس دون أن يفكر في إنارة ما. استغناء عن فرويد، نذكر أن ثمة مضت يده خلف التبان تتفقد كائنا صغيرا، لطيفا و دافئا. و دون أن يدري، كما يقول، كيف تمكن من إتيان الحركات اللازمة ما أفضى به إلى لذته الحميمة في استمناء بلا نظير، عاوده و عاوده بقوة و استغرب كيف أنه استطاع أن يحصل على لذته القصوى في عز ذاته.
مقبرة مونبارناس تحت المطر، و رغبة لوسيان في الممثلة التي تم دفنها ثمة، كانت زبونته في محل الأشياء العتيقة. لم تكن جميلة و لا قبيحة في الآن نفسه، بل كانت امرأة بدون تعابير خاصة. كان لابد للمطر أن يدوم أسبوعا كاملا و أكثر، لذلك ارتأى أن يباشر عمله في المقبرة، بتقنياته المعهودة وبسرعته بل ببراعته التامة في الحفر و إخراج الموتى، و إن كان أمر رفع الجثث من فوق السور العالي هو ما يشكل دوما لحظته الحرجة، و إن كان يستعمل ثمة حبلا في ذلك. اسشعر حس شخص ما في المكان و انفلت خوفا من كل الاحتمالات السيئة التي دارت بخلده، تاركا الجثة.
في الصباح قرأ في الجريدة بأن ثمة جثة وُجدت في العراء عارية و قد مثّل بها. لقد استغل شخص ما، بلا شك، ثمار عنائه!
أي انتشاء! أي توغل في رغبات نيئة لذات ممكنة!
ثمة أسماء كثيرة لفتيات وصبيان وصبايا ونساء وكثير من مجاهل. ما يهم هو جسد الموت ووصوله من خلال مخاطر جدية من المقبرة إلى سرير لوسيان. أكيد أن المخاطر آتية من العرف ومن القانون، من عيون أخرى تقف دائما في الجهة المقابلة لوعي اختيار "النيكروفيل" ؛ البوليس أو الفضيحة أو ثمة انكشاف. لم يكد ينفصل عن جسد هنري ذي السنوات الست سوى بعد عناء كبير، لم يتح له أن ينغمر في بدنه الداخلي سوى بعد قرب موعد انفصاله عنه، حيث بدأ بطنه يخضرّ إيحاء بربيع الموت العفن. تمكن إذن من أن يلج مناطقه بعد أن نكّب عن ذلك خشية أن يؤذي ليونته ويُؤذى نفسه في ضيق مفاصل. خلو تمارين لوسيان من عقدة الذنب منح لليوميات قوة خاصة، مما أبعد أكثر من ذلك كل إحساس بتقزز أو ضعف أو اشمئزاز. ذلك أن ثمة لذة في القراءة و في الانفراد بايجابية نوعية قبالة كل الهول البالغ الذي يعالج به لوسيان الجسد الذي جاوز عتبة الموت.
هنري هذا مات جراء الحمى القرمزية، كما مات آخرون بأمراض أخرى، ما لم يؤذ قط لوسيان أبدا. فهو يدرك ثمة لدى الدفن بعض معطيات خاصة بالميت.
إن عدم القدرة على مقاومة أو ترطيب رائحة الموت/العفن تأذن بإلحاح قصيّ إلى بين مفجوع. جسد هنري الذي طالما أحبه لوسيان مرهون بطحالب السين، عليه أن يرميه جهة ميزون-لافييت. و بعد أن جاوز جسر سان_كلو، و عاود أدراجه في خط مرور تشغله كثير من شاحنات نقل الخضروات، ثمة في الهواء رائحة عشب مداس، و يرى لوسيان وجهه منعكسا في المرآة الخلفية و قد غمرته الدموع.
تقول غابرييل أن علاقة النيكروفييل بالموت هي أشبه بعلاقة الشارب بالقنينة و علاقة المقامر بالورق. هي إذن وصل قوة و ارتباط، لا يأنف بعدها لوسيان أو غيره من تجاوز كل الخطوط التي رسمتها ترسانة الأخلاق و الأعراف و الأذواق و قوانين الدول، إنه يحب الموتى فيحيا معهم و قد يدمر ذاته في سبيل حبهم كما يقول.
إنه يدرك في قرارته أن ثمة من يتجسس في سرية على أغلى ممتلكاته : "نيكروفيليته"! الخادمات و تجار الحي و أفظع من كل هؤلاء البوليس، البوليس! يرى بأن ثمة في التاريخ قد جوز الناس أنواع كثيرة من الحب، غير أن مضاجعة الموتى هي وحدها منفرة لديهم و مشبوهة. أو ليس الذي يتعامل مع الأشياء التي خلفها الموتى أيام كانوا في عز حياتهم نوعا من النيكروفيل؟
لم تنس غابرييل حتى المؤرخ العريق هيرودوت و مرّغته في تأريخ مواز لنيكروفيلية محتملة، إذ قالت بأنه جاء في ما ذكر وهو يتحدث عن ممالك ما، أن النساء الراقيات، الجميلات والرائعات لم يكن من الممكن أن تقدم لحظة تموت إلى من يجهزها و يعطرها إلا بعد أكثر من ثلاثة أيام خوفا من أن يراودوها! وإن كان لوسيان يشهد أن فكرة مدة الإحجام تلك غير ذات بال و بأن الأمر لازم لا مفر منه و لو بعد حين!
لم تكن جولة لوسيان ذلك الصباح في مقبرة إيفري خالية من أي اعتداد حكمي، بل كانت دالة و المقبرة مكسوة بكل ذلك الثلج و ثمة تلك الأرملة المسربلة بسواد، لم يرد أن يسجل سوى أن الفقد لم يعد يؤخذ بعد أكثر بما كان، إذ قليلات كما يرى تلك اللواتي يرتدين سوادا قاتما في حداد. هذه الغبرييل فيتكوب، و بغض النظر عن كتاباتها الأخرى، قد وضعت في هذا الكتيب عصارة تفكير عال، فكيف ثمة نرضخ لخوف غيبي في ارتعاد دون أن نعترف بالقيمة الأدبية و الفلسفية لعمل رصين و جميل كهذا.
كل شيء جميل لدى لوسيان متخندق في ركن الموت القصي و الشاحب، في تألق لدى تناوله بيد أخرى، يد البعث و المحب. هذا الرجل يرغب أن يشهد موت من يحب، موت من يطلع نفسه على جمالهم و تألقهم، نساء أو فتيانا ذو وسامة ما.
إن ما يفاجئنا به لوسيان هو حديثه العادي والسهل والمسترسل عن موتاه. لن يخطر على بال أحد في البدء أنه إنما يتحدث عن موتى. فهو يتحدث عن سوزان و كيف التقاها، لم يقل كيف انتشلها من القبر، لذلك يخلق جوا خاصا يعني الكثير بالنسبة لنواياه أو لفهمه لتحقق رغباته على يديه وانقياد الواقع له حسبما يريد مادام الآخر ميتا و جامدا غير متحرك و دون إرادة أو أدنى وعي، لهذا الأمر نفسه يجعلنا ننصت له و هو يحدد ماذا سيفعل و كيف و متى؟ غير أن الموتى مثلما يقول لهم لحظات خاصة و رغبات بل مفاجآت، فأحيانا يفتحون عينا أو يشهقون ( ثمة واقعة استيقاظ فتاة من الموت الكلينيكي في أحد مستودعات الموتى في السنوات الماضية بضاحية باريسية تحت وقع إيلاج نيكروفيلي، ما أثار آنذاك ضجة كبرى في فرنسا، وقد أسقط والديها فكرة إدانة الرجل إذ هو من أنقذها من موت سابق لأوانه!) أو لربما تكون ثمة رغبات أقل إيلاما أو غدرا من أن يملكوا أجساد خاصة ذات إشعاع ما، سوزان مثلا التي أدهشته بنهديها و بوابة حي فوجيغاغ التي نضّت نهودا عليا مثل صبية بالغة. أو تلك الفتاة التي رمى تحت جسر السيفر، تلك التي خدعته و فتحت عينا لما كان ينكحها و انهمرت من فمها و فرجها بعد ذلك سوائل كريهة ملأت غرفته برعب خاص.
لقد كان متعودا على حالات أكثر ارتياحا مع موتى آخرين، لذلك كره تلك الفتاة و رغب أن يتخلص منها سريعا، لم يكن بوسعه أن يفعل ذلك، إذ أحبها و شق عليه أن يفارقها.
كان يدرك أن الموتى أكثر الخلق نقاء، إذ يتخلصون من كل نفاياتهم بعد أن يفارقوا الحياة، كما يقول، كمن يتخلص من عبء ثقيل.
لم يكن لوسيان يرعى بعد عشب يومياته لما التقى بسوزان، كان الوقت نوفمبر من العام، هذا الشهر الذي يمنحه دائما وعودا باهظة، كل مرة يقود إليه أمرا غير هين. كان الخريف يؤثث الإسفلت بتأشيراته الذابلة و كانت وجهة لوسيان مقبرة مونبارناس، كان يدرك أن سوزان جاوزت الثلاثين و أنها متزوجة و بلا عمل، جسد مرن و خفيف، حملها إلى خارج السور و لما أخطأ الوجهة وقع في متاهة تشتم منها الفجيعة و يخشى منها الوقوع في القبضة. ثمة دورية تطوف و يوقف الرجل سوزان قبالته كأنه يقبلها و قد ارتدت لحسن حظه ملابس لائقة بحي، عاشق إذن و عشق ليلي ذي نحس ظاهر!
ارتباطه بسوزان قد هيأته في حيثياته البدئية تلك العوارض السالفة و اشتد ارتباطه بها و صار حبا قويا و شرسا حتى النهاية. لم يكد يصل بها إلى المنزل حتى نض عنها "كيلوتها" الصغير و سوتيانها و غطس في جنسها بكل ما كمن فيه من عنف حاد.
سوزان تملك لمسة جاذبية خاصة، و قد يكون الموت قد باغتها و هي منشغلة بأمر ما و لم يكن لديها أدنى إحساس مسبق بأنها كانت على سالف إيذان بما عصف بها.
جسد بورجوازي خارج من تدفق رعاية دائمة، لم تكن حياتها كلها سوى تعهد خاص و عناية بكل تفاصيل أعضائها، كانت تحترم دوما جسدها، حتى أن إبطيها قد حلقتهما بحذر بالغ.
بعد ثلاثة أيام فتحت فمها، كأنها أرادت أن تبوح بشيء، كانت أسنانها مرصوفة بدقة رائعة. "أو لم أقل من قبل أن للموتى دوما مفاجآت ؟ كم هم طيبون هؤلاء الموتى..."
تجربته إذن مع سوزان هذه تتضمن عناصر شديدة الحساسية بجوهر توغله في حب الموتى. لم يكن يدرك بعد أعليه أن يتلاشى مع تلاشيها، لأنه اندغم فيها بكل روحه، فهو لم يدع جسدها و جنسها يهدآن لحظة، لمسا و عضا. حتى أنه استعمل فعلا فريدا مثلbrouter son sexe ) ) في عبارة تصعب ترجمتها، فهي تحيل على انهماك خاص و دقيق بخصوص فلسفة المتعة.
لابد إذن أن ينفصل عنها رغم أنه لا يريد ذلك، و إن كان يجند ركامات من أكياس الثلج، غير أن صلابة عظام سوزان لابد أن تتفتت في المياه العميقة و تنضم بعد حين إلى حيوات أخرى.
لابد إذن مما لابد منه، و إن كان يطمح أن يحتفظ بها إلى الأبد. ظل حينا غير معتصم غير بطلاقته الفصيحة مع صيحات رغباته وحبه المشبوب في أزلية لسوزان. لم يعد يحلق لحيته و لم يعد يغتسل. لمح فجأة نفسه في المرآة، ثمة صورة منعكسة لرجل تعب و مستسلم بالمرة لسلطة الزمن عليه. و كان أبعد ما يكون عن فتيان أبي نواس الذين "دان الزمان لهم فما يصيبهم إلا بما شاءوا"! عاد إلى المنزل بعد أن قبلت مياه السين الوديعة التي تسلمت تحت اسم سوزان و نام بعمق خاص بعد كل تمارينه الصعبة.
إن مدارات لوسيان حول الشمس مع الموت و الحياة لم تكن دائرية بل منبطحة في فضاء يطول و يظل يصطاد في مياه ليست بلا شك ضحلة أبدا.
إن مروره الصدفوي بملون (ضواحي باريس) و صعوده إلى كنيسة سان توماس دوفيلنوف، مقتادا بحدس ما، و هو الذي يسمع نداء الموت و يأتيه من بعيد البعيد، و دون أن نحذف من تداعياته الداخلية رغبته الدفينة في أن يلم بحميمية راهبات. رأى ثمة داخل الكنيسة رجلا ينفلت من مكان و يتجه إلى النعش الذي يرقد فيه جسد راهبة، انفضت عنه لربما لوقت قصير الراهبات اللواتي قد لزم أن يحرسنها. رفع عنها الراهب غطاءها و أخرج عضوا رفيعا و أوغله في عذريتها.
لم يكن ذلك الرجل في اعتقاد لوسيان شبيهه النيكروفيلي و لكنه سيكون من الذين لا يجدون ثمة إبطاء شائنا في اللحظة التي قد ينتهز فيها أمر "الباه" على ما يرام. صرّ صرير عضوها مثل فأرة و عدل الراهب بعد ذلك حزامه و مضى و لكأنه فرغ للتو من نكاح عنزة!
لم ينس لوسيان و لم تنس غابرييل أن تجعله يسجل في يومياته الخيط الرفيع الذي يجمع و يفصل في الآن نفسه بينه و بين من ينكّب عن تحقيق طبيعي لغرائز أو من يأتيها من مفاصل أخرى، يسهل أن يدان أخلاقيا و إن كان فهم العمق الفلسفي الكامن في تيهان عنصر التمتع الجوهري، مثال حالة لوسيان المهووس بمضاجعة الموتى.
إن مهنة لوسيان كمشتغل ببيع الأشياء العتيقة و الثمينة تذكرني بنوع من اللطخة المصاحبة لهذا النوع من المهن، كمن يشتغل بجمع الأشياء العتيقة و الفريدة، مثل بطل جان فولس في "المهووس"، و بعض شخصيات من هذا النوع لدى دي لاسيرنا بخصوص النهد.
تحيل تلك الكتابات على انقطاع أولائك في تلقيهم لعالم الآخر و في الصعوبة التي يعانون منها في ربط علائق سليمة معهم، لذا يفضي بهم عجزهم ذاك إلى تأجج رغباتهم و تنفتح لديهم قنوات غير سوية لتصريفها. كأن تسجن ميريندا و تموت بعد ذلك في منزل معزول بضاحية لندنية. لا أجزم بأن جنح هؤلاء مرتبط منطقيا بتلك التجارة أو بذلك الفن، لكني قد أرى بأن أغلب من تكمن لديهم لوثة مشابهة يتشبثون بانشغالات حياتية من ذلك النوع، كارتباط مُصرّ بما قد ينفلت أو يضيع في عدم. لم يرد لوسيان قط أن يفهم الزبون الشاب الذي راوده ذات يوم، وهما جالسان على أريكة رفيعة، أدنى شيء من طباعه. كانت يدا الآخر تتنزهان على فخذي لوسيان، ما جعله يصرفهما و يردهما ثمة كما لو نرفض زوجا من الطير يمنحا إلينا في بلاغة جيدة. كان الزبون يعتقد أن لوسيان مثليّ، غير أنه لم يفهم قط شيئا ذا علاقة بنيكروفيليته لما صرح له بأنه يحب كلا الجنسين على حد سواء، و لم يتحدث عن الموت و اعتذر الآخر بأخلاق عالية.
يتناسل الأموات إذن و تتناسل المقابر في يوميات لوسيان و تتداخل كل طرائقه المختلفة والغريبة في اختراق هشاشة أو متانة الجثث و دفعها إلى رشح كل عناصر لذته.
تلك الجونيفييف مثلا التي أخرج من صندوقها و ياما كانت دهشته هائلة لما اكتشف و ليدها لصقها. لم يرق له قط ذلك التداخل العائلي، غير أنه لم يأنف أن يرى جمال تلك المرأة و يثير روعة ردفيها، و إن كان قد سجل فظاعة عضوها و كيف أنه يتجنب أن ينظر إليه.
إن لوسيان الذي سجل لدى ترستان كوربيير (ولد بمورلي 1845 و توفي بها سنة 1875، و قد ضمنه فرلين ضمن الشعراء الملاعين سنة 1883 و قد عرف كثيرا بقصائده عن مارسيل.) عبارته الجميلة : " jouir comme un pendu ". قد أكد ذهابه النهائي إلى استحالة انتشاء كامل دون اختبار ألم الفقد و الموت. و نحن ندرك أن المشنوق ينتصب عضوه انتصابا كأن في الأمر تهديدا أو انتقاما ما للحياة التي تمضي إلى الأبد. و إن كانت للبيولوجيا تفسيراتها في هذا الشأن. شيء جميل في يوميات لوسيان جدير بقوة الرؤية الشعرية لدى غابرييل فيتكوب هو ثمة كون لوسيان لا يجرم سلوكه و إن كان دائما على استعداد لتلقي ضغوطات الخوف ؛ الخوف من انفضاح انشغالاته.
إضافة إلى قوة كتابتها و إصرارها على قول الشيء و ليس ظله الباهت. تعاود شق المسافة بين سرير لوسيان وبين المجيء من مقابر و الذهاب جهة السين، حيث مشهد غطس "القارب الثمل" بأسى.
لم يكن كتاب غابرييل فيتكوب حكاية رعب و لا اسفنجة مرضى و مهووسين و إنما قراءة ذكية في واجهة أخرى للحياة و لقلق الإنسان على الأرض. كان السفر إلى نابولي هربا من الخوف و اللاأمان بعد حادثة لوفالوا ضاحية باريس، لما اشتم قرب انفضاح أمره، لذلك مضى إلى نابولي المدينة التي نلعب فيها بالموتى مثلما نلعب بالدمى. ثمة عاود إذن كل تلافيف تعاليمه، و مضى إلى المتاحف و رأى لوحات فنية عن الموت و الحياة، و سجل بهدوء و إعجاب قراءته للوحة عن موت مثالي لتيتوس بترونيس أربير الشاعر العظيم، بين راقصات عرايا و متعة باهرة على حافة الرحيل، و عيون الشاعر التي تهوي في ظلال و يبتعد في ماء البانيو كأنه في سائل الحجاب الأمومي، و تنفض عنه الحياة مثلما تسربت إليه في الأول. هكذا يلزم أن تعاش لحظة الموت!
يلزم إذن بخصوص النيكروفيل تخطي البشاعة الظاهرة التي قد تعنيها مضاجعة ميت، و النفاذ لذلك خلفها. و إن كان لوسيان قد أكد أنه أراد أن يحيا فلم يستطع و أراد أن يموت فلم يستطع، أي مأزق وجودي أكثر من هذا!
غابرييل فيتكوب أرادت هي نفسها أن تحيا حرة! غير أنها و فقط في عامها الثاني بعد الثمانين انتحرت في فرانكفورت في اليوم الثاني بعد العشرين من دبسمبر العام الثاني بعد الألفين. وبقي لنا نحن أن نتأمل إذن كل هذا الموت مثل فن قاس بدون أسى!
باريس.
kermounfr@yahoo.fr