عالم الأدب

بعض ذنوب عبد الفتاح شحادة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

قراءة في مجموعة الشاعر عبد الفتاح شحادة: "بعض ذنوب" والتي نشرت بدعم من الملتقى الإبداعي التابع جمعية الثقافة والفكر الحر ،المجموعة تقع في 101 صفحة ولوحة الغلاف للفنان عبد الناصر عامر.
الفلسفة والفكر من مكونات نص شحادة الأساسية إذا جاز التعبير، ومنذ البداية نجده يقول في إهدائه لمجموعته الشعرية "لكِ وحدكِ يا أمي.. يتشكل الشعر جنيناً في رحم العقل كما تشكل العقل جنيناً في رحم الجسد". ثم يلي ذلك بمقتطف من قصيدة لبورخيس، الكاتب العظيم المعروف بمزجه الرائع بين المنطقية واللامنطقية والفلسفة عموماً بالسرد الدرامي في قصصه القصيرة الشهيرة بل وفي شعره أيضاً. وبورخيس في قصيدته هذه يتحدث عن الزمن، ذلك الثيمة الفلسفية التي طالما تكررت في كتابات الفلاسفة. ونجد بورخيس مرة أخرى مذكوراً في قصيدة (أول رسائل العدم) وكذلك في قصيدة (مباغتة) تحت عنوان "مديح الليل" (إلى بورخيس). وشحادة نفسه يتحدث عن الزمن في قصيدته (ثوانٍ) ويتساءل في عبارة وجودية:
متى تشيخ؟
متى تموت أيها الزمن؟
فإذا كان الزمن عند بورخيس نهراً في قصيدته المشهورة (فن الشعر) التي اقتطف منها شحادة، فإنه عند هذا الأخير جسداً يشيخ ويفنى. كما نجد أن عنوان إحدى قصائده (نرد ومسافة على زمن). ثيمة أخرى فلسفية نجدها في قصيدة (أول رسائل العدم) هي ثيمة العدم التي تحدث عنها الفلاسفة كمقابل للوجود، لكن العدم عند شحادة ليس تجريد ذهني لكنه ينبع من واقع اجتماعي سياسي اقتصادي يحيا فيه ومن ذاتٍ شابة عانت المراهقة الفكرية، ولا يتسع المجال لنقتبس من القصيدة فهي طويلة وبإمكانكم الرجوع لها لتجدوا أيضاً أن للعدم علاقة عنده بحبيبته، فهي عنده الخلاص من العدم، فهي إذن وجوده. وهذا الاقتران بين الحب والفلسفة نجده أيضاً في قصيدة (نرد ومسافة على زمن) حين يقول "أخبئ لكَ نهداً محشواً باللذة والفلسفة التي تشتهي" وأيضاً في قصيدته (رغبة): "أخطط لمحو العالم ثم كتابته نهداً فيلسوفاً على صدركِ". وأنا شخصياً ككاتب اهتممت بهذه الظاهرة وهي اقتران الحب بالمعرفة لأنها محور هام في اهتماماتي الثقافية ورؤيتي الفكرية، ولاحظتها عند كثير من الكتـّاب على مستوى اللاوعي. وفي نفس القصيدة السابقة (رغبة) نجده يذكر باشلار الفيلسوف المعروف، كما يذكر مفردة فلسفة ومشتقاتها في مواضع أخرى مثل قصيدة (أول رسائل العدم) و(عناقيد وأسئلة). وإذا أردنا أمثلةً على فلسفته الشعرية أو شعريته الفلسفية الفكرية نذكر قوله في قصيدة (مباغتة):
آدم صعد معصيته إلى الأرض
لماذا علينا أن نصعد
معاصينا إلى الجحيم؟
وقوله في نفس القصيدة :
ماذا سوف ينقص عالمنا لو أنني لم أجئ إليه؟
ماذا سوف ينقصه؟
ماذا؟
كما يقول أيضاً في نفس القصيدة:
إذا دخلت - وهذا ما هو حادث بالفعل - فأنت محبوس داخل القفص.. إذا خرجت فأنت محبوس خارج القفص.
وكان لا بد لقارئ نهم في الفلسفة مثل شحادة أن تتبدى في نصوصه الشعرية كما كان لدراسته التكنولوجيا تأثيرها أيضاً على نصوصه، ويكفي مثالاً قصيدته (دوار الأشكال) التي تحدث فيها عن الأشكال الهندسية خاصة الدائرة، وهو يدخل الأسلوب العلمي الرياضي حتى في صياغته الشعرية حين يقول في قصيدة (مباغتة):
نصفك = قمر + بقعة ليل
نصفك الآخر = حجر + نقش
من الثيمات المعروفة منذ بداية الشعر حتى الآن شعر الجسد، لكن النقاد خاصة كمال أبو ديب جعل منها خصيصة لشعر قصيدة النثر، لأنه رأى أن تعامل شعراء -ما أسميهم- ما بعد الحداثيين العرب -الذي تلوا جيل الستينات- مع الجسد يختلف عن تعامل من قبلهم، حيث المرأة لم تعد رمزاً للوطن أو للقضايا الكبرى بل هي جسد أيروسي من لحم ودم. وبالنسبة لشعر شحادة فإن أغلب نصوصه الشعرية تحوي مقاطع جميلة من شعر الجسد وأكتفي هنا بمثال واحد حين يقول في قصيدة (رغبة):
أخطط لمحو العالم ثم كتابته نهداً فيلسوفاً على صدركِ** أحطم براعة الخالق بانزلاق مثير على ساقين مؤججتين بخلود دافئ** المحيط على البطن يجري** القارات والجزر تين مزهو بالخضار يستريح بين موجتين مشتاقتين كمثلنا** المدن قوارير عسل تنبع من ماء عينيكِ المالح ** الكائنات طيور ووحوش رغبات وغزلان مرصعة بلوحات لبيكاسو كان يرقص في السماء.
أخطط لتحطيم براعتي بقبلة عطشى وجدتها في جيب سترتي القديمة.
ووحدي آكل بقايا ليلٍ مزدحم برائحتكِ** عندما مدينتي ورائي وناقتي ترعى السحاب.
حتى عناوين قصائده تلمح للجسد وغرائزه مثل قصيدتيه (حواس جسدية) و(رغبة). لكن المرأة والحب وشعر الجسد هذا الذي نجده في أغلب قصائد المجموعة لا تحضر بمفردها لكنها دائماً مخلوطة بألم ما، هو همومه الذاتية التي تتمثل في أسئلته الوجودية ومشاكله المادية وهزائمه الشخصية التي سأتحدث عنها فيما بعد، وغير ذلك. وهذه الهموم تتبدى في التفاصيل اليومية التي يذكرها مثل النوم والدخان والفلافل وكأس العرق والبانجو وفيروز..الخ. إن شهوة الحب عند شحادة تفسدها عذاباته حتى أنه في قصيدة (كرزة) نجده يشظي كلمة قلب مرتين، مرة يقول: (ق ل ب ي) ومرة أخرى (ا ل ق ل ب).
دائماً يتهم شعراء ما بعد الحداثة العربية بأن شعرهم ذاتي في مضامينه لكن في هذا الشعر -وخاصة جيل غزة الجديد - انغماساً في الهم الجمعي لم يلغِ ذاتيته وهذا يسمى جدلية الذات والعام. فالقضية العامة حاضرة في نصوص هؤلاء الشباب، لكن ليس بالشكل الذي درج عليه شعراء المقاومة الفلسطينية مثلاً. وفي مجموعة شحادة نجد هذا الهم الجمعي يشكل عموماً خلفية سوداء تغطي لوحاته الشعرية، كما نجده يفرد له قصيدة ذاتية جمعية في الوقت نفسه وهي (صباح الخير أيها الفقر) حيث ينشد شحادة فيها للفقر الذي نعانيه في مخيماتنا خاصة فئة المثقفين المهمشة. وفي قصيدة (مباغتة) نجده في المقطع الأخير الرائع يذكر شريحة اجتماعية هامة ممثلة في شاعر مهمش يقول عنه شحادة :
شاعر مغمور
يطيب له أن يعد نجمة واحدة كل مساء
يغني في التواليت
يقرأ من مكتبة العالم
في حذائه ثقب لنفي
ثوار السبعينات جميعاً
يستدين مالاً من صديق حميم
يعلق روحه كبلورة زرقاء في العتمة
شعر الجسد الذي تحدثنا عنه سابقاً يصل بشاعرنا إلى التماهي مع المرأة، فيفعل ما فعله القليل من الشعراء في القليل من نصوصهم حين يكتبون بصوت الأنثى أو الآخر الأنثوي، وهذا كان في قصيدة (نرد ومسافة على زمن) التي تحكي على لسان حبيبة الشاعر - فيما أظن- هواجسها الأيروسية، ولكنها كالشاعر نفسه نجد نصها مخلوطاً بألم شبيه بألمه حتى أنها تقول في آخر سطر: أخبئ لك نفسي.. أجمدها، فلا معنى ليومي ولا معنى لأمسي!
الهم الذاتي الذي تحدثنا عنه يصل ذروته في الهزيمة التي يحسها الشاعر على المستوى النفسي والوجودي وربما الشعري، فالمبدع دوماً يظل يشعر بعقدة النقص، وهذا يدفعه لإبداع المزيد، ربما هذه الهزيمة هي التي جعلته يتعاطف مع شاعر مغمور، فهو ينتمي مثله لفئة ذات إحساسٍ عالٍ بالألم على المستوى الذاتي والجمعي. وقد وردت كلمة الهزيمة أكثر من مرة في المجموعة وفي قصيدته (أول رسائل العدم) يقول: "كما تريدين مني حطام شاعر". بل إن القصيدة كلها تعبيراً عن الانكسار والهزيمة.
من أنواع القصائد الشعرية وجربها شحادة في مجموعته قصيدة التنويعات التي تتناول ثيمة معينة بشكل مفصل ومن زوايا عدة، وهذه القصيدة دخلت شعرنا العربي في الخمسينات من القرن الماضي وربما كان أول من استخدمها هو الشاعر الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا في إحدى قصائده التي غاب اسمها عن بالي حالياً والتي ربما استمدها من ثقافته الموسيقية الشهيرة، لأنها في الأصل هي شكل آخر لما يسمى بالإنجليزية بلغة الموسيقى Variations on Theme، أي تنويعات على لحن واحد. وقد استخدمتها بعض الأجيال الشعرية بعد جبرا حتى في المشهد الغزي الحالي من جيل قصيدة النثر السابق. وقصيدة شحادة التي أعنيها هنا هي (أخيلة الدخان) التي تتكون من ستة عشر مقطعاً كل مقطع منها أشبه بقصيدة قصيرة (قصيدة التوقيعة) عن الدخان. وأيضا (قلائد) والتي هي قصيدة تنويعات لكن بشكل مختلف حيث كل مقطع يتناول قلادة معينة فثمة قلادة الليل، قلادة الدفء، قلادة الفعل، قلادة الخرافة، وقلادة الصليب.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف