عالم الأدب

قراءة في رواية خطوط تماس

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تمتلك الروائية غصون رحال خيالا مجنّحا مكّنها عبر روايتها "خطوط تماس" الصادرة مؤخرا عن دار الشروق في عمان بدعم من أمانة عمان الكبرى من الانتقام لبنات جنسها من معشر الرجال، فجلسوا صاغرين محتارين تحت حمّى انتظار المرأة التي لم تأت الا في الصفحات الأخيرة من الرواية، لتسجّل انتصار شهرزاد من جديد ليس على شهريار وحده بل على الذكور مثنى وثلاث. ولا أعني بالخيال المجنّح قدرة الروائية على حشد ثلاثة رجال في مقهى اسمته " مقهى السراب"، منتظرين على احرّ من الجمر امرأة واعدتهم عبر الشبكة العنكبوتية على أمل اللقاء، فرصد كلّ منهم طاقاته الجنسية، واستحال الى فحل يتربّص بالحورية المنتظرة، وشفت الروائية غليلها وغليل كل الإناث حين جعلتهم مسخرة أمام كل من دخلوا المقهى حتى الأطفال.

لم تكن علاقة المرأة المنتظرة لحظة الانتقام من الرجال هي الفكرة الرئيسية في هذه الرواية، إذ ثمة موضوعين أكثر سخونة، أحدهما سياسي يتجلى في لحظة الاحتلال الأمريكي للعراق، ولما يشهده العالم من هجمات الأقوياء على الضعفاء، والثاني تكنولوجي ويختص بما أحدثته الثورة التقنية بالانسانية عامة وبضعاف النفوس بخاصة، ولا تقل عن هذه جميعها أهمية تلك الومضات الفكرية التي صرّحت بها الروائية على لسان شخصياتها.

إن عنوان الرواية "خطوط تماس " يوحي بأن الكاتبة مهندسة تجيد تحقيق التواصل بين أشياء أو أشخاص متباعدين، ولكنه تواصل لم ولن يتم على الإطلاق، لا بين الذكور والإناث، ولا بين الأماني ومتمنيها، نقرأ في الرواية عن مشاعر متوهجة ومتأججة، وعن عواطف مكبوته، وعن أهداف دفينة، وبين لحظة وأخرى، او بين صفحة وأخرى، تشعرنا الكاتبة ان الملامسة او التماس أو اللقاء سيتحقق، ولكن القارئ في كل الحالات يصل البئر ويرجع عطشانا.

هذه الرواية السيكولوجية المملوءة بالتداعيات، وتيارات الوعي، والمونولوجات، والتي تحقق التمازج بين الشخصيات، فيظن القارئ رغم نباهته ان الشخصيات التي يقرأ عنها حقيقة هي أكثر من شخصية، ولكن في العمق هي شخصية واحدة .

تتميز غصون رحال عن كل الروائيين الذين عرفناهم، ومن يقرأ روايتها يتذكر ( ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ، و ( متاهة الاعراب في ناطحات السراب ) لمؤنس الرزاز ليس من باب تأثرها بهما، بل من باب انطلاقتها من حيث انتهيا موضوعيا وفنيا، وبنائها على ذلك من جديد .

ان اقتراب الكاتبة من نبض الشارع العربي من العاصمة الأردنية عمان، وانغراسها في أرق الجماهير، وتقديمها وجهات نظر تعددية في إطار الوحدة، جعل منها كاتبة طليعية، تمتلك مشروعها وبرنامجها، ورغم اختلافي معها باعتباري واحد ممن يسعون لتحقيق التكامل ما بين الرجل والمرأة، الا ان في المحاكم الشرعية قوافل من الرجال والنساء الذين لم يعودوا يطيقون بعضهم ويسعون للطلاق او للخلع او للهرب طلبا للسلامة ... وكان بودي لو أشارت الكاتبة لصنف العلاقات التي تتطور نحو التقارب لا التباعد، ونحو التجاذب لا الافتراق، دون ان تكون تلك العلاقات مبنية على رغبات جنسية، بقدر ما فيها من جاذبية طبيعية، فيها من العشق والحب الحقيقي والرضى والوفاق .

ان غصون رحال في روايتها "خطوط تماس" تضع أمام المعنيين بالتنمية الثقافية المستدامة، وبالخطط المطلوبة لتحقيقها برامج ومشاريع اجتماعية مصاغة بتقنية فينة عالية، فيها من الذكاء والدهاء والمفاجآت والحقائق والخيالات أيضا، مما يجعلها قابلة للعرض السينمائي او التلفزيوني بأبسط التكاليف او أقلّها.

ان من يقرأ ما كبته نقادنا حول الرواية الأردنية وخاصة الأدباء: نزيه ابو نضال، الدكتور نبيل حداد، عبدالله رضوان، الدكتور عبد الرحمن ياغي، الدكتور خالد الكركي، الدكتور ابراهيم السعافين، شكري عزيز ماضي، الدكتورة هند ابو الشعر، ومن يقرأ ما كتبته غصون رحال سيجد الأخيرة تغرّد في روايتها "خطوط تماس" خارج السرب، فهي كاتبة لها تجربتها ولها مطالعاتها، ولها حريتها وتحررها من كل القيود التقليدية في الأدب والفن، إنها كمن يكتب قصيدة اللاشكل في الشعر، وكمن يجمع بين الفانتازيا والواقع في الأدب المنثور، وقد عبّرت عن جديدها هذا بقول بطلة الرواية " انا هي اسطورة الخذلان الكبرى ولست بسمكة ولا بامرأة ، انا التي ما بين بين ... "

والمدهش ان الكاتبة التي تجيد الغوص في النفس الانسانية تجيد ايضا رسم اللوحات التشكيلية المتعلقة بعناصر الطبيعة ، فتقول عن الشمس "كل صباح تعتلي عرشها السماوي الفسيح، تنشر نورها على مساحات الكرة الأرضية الشاسعة ، تتفقد بيعنها الثاقبة الحبال والسهول ، البحار والأنهار ، الصحارى المترامية تحت غطاء اصفر شاسع، المدن الكبيرة وتلك القرى النائية والمهملة ...". وضمن أرق الكاتبة بالحياة وتجددها نجدها تقول على لسان أحد أبطالها "الحياة التي لا تميتني لا تحييني، الحياة التي لا تقتلني شوقا ، لهفة، أرقا، عشقا لا تستحق عناء العيش، الحياة التي لا تسحقني ثم تعيد تكويني ليست لي ..."

وأساءل بعد ذلك : أي إحراج سيتعرض له القارئ وهو يعلم انه يكتب عن رؤية سرابية ، يقول أحد أشخاصها لكي يعقل من لا يعقل ان ما يجري في الرواية كله دردشة او ثرثرة هوائية ، يقول عن الحركات النسائية : "كل الثورات التي عرفتها الحركات النسائية من قبل ضد التمييز ومصادرة الحريات ، انفجرت غيظا وغضبا ، فتحولت ذواتهن الورقية الجامدة الى موجات مغناطيسية ، او كهربائية ، او كهرومغناطيسية ، تسرّبن خارج الصفحات الورقية وانطلقن بثورتهن عبر الأثير حاملات يافطات خطّ فوقها شعارات نارية مثل : تسقط الأوراق ، ولا مكان للحبر بعد اليوم ، والحرية اولا ".

وتجمع الروائية بين عنصر بلاغي يعتبر من أهم عناصر البيان الا وهو التجسيد القادر على بث الحياة في الجمادات ، فتقول على سبيل المثال "نيسم نيسان الحائر ما بين الشتاء والصيف يثير الشفقة". والروائية أيضا مغرمة بإيراد الكثير من الألفاظ الأجنبية، كما هي أحيانا تذكرها بالعربية بين قوسين كالكاونتر مثلا ، وأحيانا بأحرفها الانجليزية مثل eternal , the hunter .
وخارج السياق اقول دائما ينصح الكتاب بعضهم بعدم تدقيق أعمالهم في المطبعة ، لأنهم الذين كتبوا الكلام ويقرأونه صحيحا عند التدقيق ، ويبدو ان غصون قرأت روايتها بشكلها الصحيح ، فمرّت عنها بعض الأخطاء المطبعية، إذ من يصدّق ان كاتبة هذه الرواية تضع نقطتين فوق هاء " له"؟

كاتب المقال مدير مؤسسة البابطين في الأردن

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف