عالم الأدب

كارفان للسينما العربية الأوربية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في هولندا

قيس قاسم: هل توجد سينما عربية أوربية؟ وهل يمكن أدراج هذة التسمية ضمن المصطلحات والإتجاهات السينمائية الجديدة؟ قد يحتاج الأمر الى دراسة مفصلة دون شك، ولكن المؤكد ان هناك ملامح تشكل هذا الاتجاه، وأظن ان السينمائيين العرب في أوربا هم أكثر هذة الملامح وضوحا ومدعاة لبروز هذة التسمية والقبول بها، وموضوعيا ستكون الثيمة العربية في السينما الأوربية نفسها ثاني هذة الملامح الحادة، وربما أكثرها مثارا للجدل في قبول فكرة سينما عربية أوربية. ومثل كل ظاهرة فنية فأن تشكلها يعود الى أسباب موضوعية وتاريخية تفرض وجودها. وللتواجد المكثف للجاليات العربية في أوربا، وأهتمام الدول الأوربية بها وبشؤن بلدانها أقوى هذة الأسباب. ودون شك الهجرة والأستعمار هما عنصرا تكوين النواة الأساسية لهذة السينما، تماما كما كانتا نواة تشكل الأدب المكتوب بالانكليزية لدول ما راء البحار والقارات وأيضا الثقافة الفرانكونية والأسبانية/اللاتين أمريكية. وفي هذا الحقل فأن هجرة العرب المعاكسة لمستعمريهم، المغرب العربي وسوريا ولبنان وأيضا الهجرة الاجبارية لملايين الفلسطينيين والعراقيين يفسر ظهور أكبر عدد من السينمائيين منهم في أوربا مقارنة مع بقية الدول العربية. ونظرة سريعة لبرنامج كارفان السينما العربية الأوربية في ثلاث مدن هولندية، والذي يأتي ضمن اطار مهرجان الفيلم العربي في روتردام والمدعوم من قبل مؤسسة "يورو ميد" وبمشاركة "سيمات" من مصر و"معهد العالم العربي في باريس" و"دوك" في بيروت ومؤسسة "بي بي أس" الأردنية تعكس ذلك بوضوح شديد: ليلى مراكشي وفيلمها "ماروك" رشيد بلحاج " الخبز الحافي" مريم ريفاي "الأيام الحلوة" و"باباعزيز" لناصر خمير ومن العراق ليث عبد الأمير وفيلمه "العراق: أغاني الغائبين" كاظم صالح "ملون في زمن الحرب" حميد حداد "بورتريت للغائب" عرفان رشيد "بازوليني" ومن سوريا هشام الزعوقي "الغسالة" روش عبد الفتاح "موزائيك" ومن فلسطين هاني أبو أسعد " الجنة الأن" ومحمود مسعاد "30 مترا من الصمت" ومن مصر سمير نصر "أضرار لاحقة " واللبناني يوسف فارس وفيلمه الأخير "زوزو". ما حمله الكارفان من أفلام لا يغطي كل مشهد السينما العربية الأوربية، ولا أظنه يدعي هذا، ولكنه دون شك يحاول أن يوصل أكبر قدر من هذا النوع الى مشاهدين أوربيين ومهاجرين، وهو بذلك يسهم في تثبيت ملامح أتجاه جديد،عبر تنقله بين أمستردام، لاهي وأولتريخت مع التنبيه الى إعادة قسم من الأفلام التي تدرح ضمن هذا الاتجاه بعد عرضها في روتردام الى أصحابها لصعوبة الأحتفاظ بها الى أمد طويل ولمشاركة بعضها في مهرجانات أخرى.
قد نحتاج في هذا الصدد لعرض بعض الأفلام التي تتطابق خاصيتها، الى حد ما، مع خاصية السينما العربية/ الأوربية، ولعل فيلم "زوزو" للبناني السويدي يوسف فارس مثلا جيدا لها.

"زوزو" بين عالمين
من يعرف قليلا المخرج يوسف فارس والنجاح الفني الذي يحظى به في السويد سيتسائل بأستغراب وهو يشاهد "زوزو" عن معنى الماضي وثقله في حياة المهاجر؟. ثقل، دفع مخرجا سينمائيا شابا، للرجوع اليه وهو ما زال في مقتبل العمر، الحياة كلها مفتوحة له، فيها يغني تجاربه ويزيد معارفه، وقت كثير أمامه يستحق أن يعاش وبعده يعود، ان شاء، ويسرد لنا حكاياته، أو ما يستحق أن يروى منها؟ هذا السؤال طرحته على نفسي بشكل أخر: ما الذي يجبر فنانا شابا للعودة الى طفولته القريبة ويسردها بصريا؟ أهي الرغبة في قصها والتخلص منها؟ التخلص من ثقلها الآني، المعوق؟ أظن، ولست جازما، أن يوسفا أراد التخلص من عبأ الماضي، لا التنكر له، بل بسرده، ليبدأ مستقبله، مستقبل مخرج سينمائي أو مستقبل صبي، مهاجر، أسمه زوزو مثلا، جاء الى مكان جديد، أسمه السويد، مثلا، يريد أن يبدأ منه وأن يعيش حاضره فيه، متخلصا من عبأ ماضيه القاسي.
ماضي الطفل زوزو، أو يوسف فارس، بدأ من بيروت، وقتها لم يكن يعرف ماذا تخبيئ له الدنيا من مفاجأت، كان يلعب في حارته مع أقرانه، محاطا برعاية أهله، مصطحبا على الدوام صوص الدجاج الذي يحمله في حقيبته المدرسية أينما حل، صديقا، يبوح له بأسراره البريئة. حدثان كانا ينضجان مع الوقت، وزوزو في غفلة عنهما: الأول أستعداد عائلته، وبأصرار غريب، للسفر الى السويد، حيث جداه لوالده يقيمان فيها. والثاني الحرب الأهلية وخرابها. في لحظة عبثية من الزمن يجتمع الحدثان وهم يهمون الخروج من بيتهم الى المطار، فتنفجر الدنيا، تنطلق القنابل و يتعالى صوت الرصاص من كل جهة، ليحترق شارع حمام بيروت. يموت أهله في القصف فيجد الصبي نفسه وحيدا في مواجهة مصير غامض وسط خراب شامل لا يدركه عقله ولا يفهم دوافعه. هذة الأحداث جرت عام 1987 وعمر زوزو لم يزيد على العشرة إلا بقليل. يعود يوسف الى هذا التاريخ لأنه يتوافق مع زمن مغادرته الحقيقي لبيروت ووصوله الى السويد. أما حكاية زوزو فلا يريد لها فارس المطابقة التامة مع واقعه، فيغيير فيها قليلا، بما يخدم عمله السينمائي. يصل وحده الى السويد ويدرس في أحدى مدارسها وهنا يصطدم ولأول مرة بسلوك التمييز والتفرقة العنصرية، وسيشار اليه بين أقرانه كطير غريب خارج السرب. بعد صراع درامي يستخدم فيه يوسف قسطا كبيرا من قدراته الأخراجية، يوصلنا خلالها الى لحظة تعايش جديدة لزوزو مع المجتمع الجديد، بعد عذاب جواني يقلق أيام حياته في السويد تذكره قساوتها ببيروت البراءة قبل أندلاع حربها. ستتم مصالحة بمعونة صديق سويدي ودعم جديه وستستمر الحياة بقوة مخلفة الماضي وراءها، وراء طفل جاء ليعيش في مكان ما من هذا العالم. بأمكاننا أعتبار فيلم "زوزو" مثالا ملموسا للسينما العربية الأوربية، فيوسف لبناني، وصل الى السويد في عمر المراهقة، درس فيها فن المسرح والسينما وأشتغل في حقله ثم عاد ليسجل بدايته الأولى. سينماه جمعت عالميين، كما هي حياته التي عاشها هو أيضا في عالمين، عربي وأوربي.

"30 مترا من الصمت"
سنوات من النضج
الى درجة قريبة منه يعود محمود مسعاد في فيلمه "30 مترا من الصمت" الى الطفولة، لكنها ليست طفولته، بل طفولة خمسة مهاجرين صورهم قبل سنوات، وقتها كانوا لا يدركون ما حولهم، كانوا منشغلين بعوالمهم البريئة في معسكرات أنتظار اقامات أهاليهم في هولندا. بعد سنوات يعود محمود ويسجل جزءا من حياتهم الحالية، كيف يفكرون الأن وكيف ينظرون الى البلد الذي لم يعد يعرفون سواه؟. بين عالمي الطفولة والشباب بون شاسع، يدخل الوعي عنصر مهم فيه، ومشاغل الحياة تنسيهم ذكريات أيام الطفولة غير المستقرة، والتي أنسحبت بشكل ما على وعيهم وسلوكهم. 30 مترا من الصمت يحكي الكثير عن معاناة المهاجرين، بينهم عرب، ويعيد بالذاكرة الى لحظة كان مصير هؤلاء يتقرر دون إرادتهم، مصير خمسة أطفال ما أختاروا أوربا بارادتهم ولكنهم عاشوا فيها! رغم فوز الفيلم بالجائزة الفضية لفئة الأفلام الوثائقية القصيرة في روتردام فأنه كان بحاجة الى جهد أخراجي أكبر، لو تحقق لجاء فيلما رائعا، سيما وأن فكرته مثيرة، وعلى ما أظن، قوتها هي التي حملت كل الشغل السينمائي، وللأسف أفترت في ذات الوقت حماس مخرجها للغوص عميقا فيها، وكان له ان يخلق تحفة بصرية لو أستبدل حواراتهم الرتيبة بتسجيل بصري لحيواتهم الآنية ومقارنتها مع طفولتهم. نواقص الصوت والإنارة نقصت قيمة الفيلم ولكنها لم تبعده أبدا عن سينما مزجت هي الأخرى بين عالمين.

"الأيام الحلوة" .. هناك!
حكاية مريم ريفاي فيها رومانسية حزينة وحنين للأيام الحلوة. أيام تعطي لحظات تذكرها حلاوة ما بعدها حلاوة عندما تلتغى حلاوة الحاضر. حلم فقراء شمال أفريقيا ب "الجنة" الفرنسية سرعان ما يزول بعد فترة من العيش هناك أو ربما ينتهي في أول الطريق حين يفقد الأنسان من يحب على الأرض الجديدة، أرض للصحبة القديمة فيها أكثر من معنى. وحكاية الأرملة التونسية شبيهة بحكايات نساء أخريات، لم يبق لهن في الدنيا سوى الذكريات، سوى الماضي. ريفاي تملك طاقة سينمائية شاعرية وظفتها لتسجل أحاسيس أمرأة كان لها يوما وطنا وأختا وعائلة. الأخت الطيبة ستبقى تذكرها كما تذكر ثوبها الذي أرتدته في أول لقاء مع الحبيب/الزوج الغائب. ستظل تجول الأرملة بذكرياتها في مدينتها الفرنسية، وستظل مسحة الحزن العميقة ملازمة لها، لن تزيلها الأفراح العابرة، فهناك في ذلك المكان الذي أسمه تونس عاشت أياما حلوة، واليوم وحدها تعيش أياما عادية، تتوزعها أحلام: بين العودة المستحيلة ورفقة دائمة لزوج أحبته. أحلام توزعت هي الأخرى بين دارين، بين عالمين حزينين.


"ماروك".. بؤس النقد
توجه للأفلام العربية المنتجة والمدعومة من دول أوربية أنتقادات وأتهامات بالخضوع لأشتراطات هذة الدول، خاصة إذا ما رصد الفيلم مظاهر وسلوكيات سلبية في عالمنا العربي، وستبقى هذة التهم قائمة، ما دامت العلاقة حسب الجهات المنتقدة غير متوازية وخاضعة، حسب رأيهم، لأعتبارات سياسية أو مواقف مسبقة ضد العرب والمسلمين. أما حين يأتي النقد من الداخل فأن هذا الحكم يتنحى جانبا ليحل محله حكما أخر. الأشد أثارة للنفور هو النقد القادم من أهل البيت المقيمين في الخارج، وحالة ليلى مراكشي المغربية المقيمة في باريس وفيلمها "ماروك" دليل على أشكالية هذة العلاقة. وعلى العموم فنحن في العالم العربي لا نرحب كثيرا بالنقد السينمائي، خاصة عندما يبدأ مساره من الخارج. فماروك لا يكشف شيئا جديدا عن واقع المغرب ولكن الحساسية التي أثارها جاءت لأن علاقة بين مسلمة وشاب يهودي كانت مركزا من مراكزه. لم يعر منتقدوه أهتماما بشغله السينمائي ولا بالفوارق الأجتماعية التي جسدها، عبر رصده لعالم الأثرياء وترفهم في بلد يعاني من مشاكل أقتصادية تدفع الكثير من أبنائه لى الهجرة. مشكلة الفيلم الرئيسية، كما تبدو لنا، هو أرتباك موضوعه، الموزع، بين تناول حالة أجتماعية كبيرة وبين حكاية حب محدودة تجمع شابا مغربيا يهوديا غنيا بفتاة مسلمة من نفس الطبقة. هذا الخلط هو الذي ساهم في تنمية الشعور بوجود تلفيق متعمد فيه، يريد أرضاء الجهات الغربية المساعدة. لو كثفت مراكشي فيلمها وبررت حكايته ضمن سياق مقنع لخففت كثيرا من النفس العدائي الذي قوبل به، مع أدراكنا أن الحكم المسبق والتعسفي لن يزول حتى لو زالت مثالبه، فالريبة من شكل العلاقة بين السينمائي المقيم في أوربا والمتحرر من ضغوط سلطة بلده وبين السلطة المتحفظة، التي تجد دائما وفي الوسط الفني من يدافع عنها ستبقى لأجل بعيد. ربما يصلح "ماروك" ليكون نموذجا يخضع لتحليل موضوعي ينشد معرفة الفاصل بين رؤيتين ومصلحتين متناقضتين في أغلب الأحاين.

" الغسالة" سخرية مريرة
يتحول أهتمام هشام الزعوقي، السوري المقيم في النرويج، من الذات وعذاباتها الوجودية التي عرضها في فيلمه القصير "الباب" الى هاجس الغربة في "غرباء دوما" ثم الى موضوع كوني، يمس جوهر التصادم بين قوى مهيمنة أقتصاديا وسياسيا وشعوبا تدفع دمها ثمنا لمصالح تلك القوى. في الغسالة يحاول الزعوقي تجنب السقوط في مباشرية، وبترديد شعارات يكررها الناس ملايين المرات يوميا، شعارات تشتم الأمبريالية الأمريكية وهمجيتها. ينطلق الزعوقي من فكرة مغايرة، فكرة ساخر،ة بعيدة عن هذا المناخ، تتمثل بغسالة ملابس تغسل العلم الأمريكي من الدماء العالقة فيه. سعى الزعوقي، عبر فيلم جيد التصوير، معتنى بتفاصيله السينمائية كثيرا، الى تجسيد فكرة "التسامح المسيحية" بشكل مبطن، فكرة تدعو الى تطهير الجاني وغسل ذنوبه، لا الأنتقام منه بنفس الفعل. قد تكون هذة النظرة المبطنة هي التي ميزت الفيلم فكريا عن غيره من الأفلام السياسية، ووضعتنا أمام عرض يبعد السياسة شكلا مع أنه يمسكها بقوة داخلية. نرى أعلاما أمريكية ترفرف وغسالة ممتلئة بالدم تدور وتدور، أعلام تغتسل ذنوبها وأخرى ترفرف، وربما ستلطخ هي الأخرى بالدم، دورة فيها من السخرية والتهكم والمرارة مما جعل فيلما قصيرا مثيرا للأعجاب، يعيد تكوين وعي سينمائي جاد، ويقدم منظورا نقديا للعالم، ولكن ببساطة متناهية.

كارفانات في الانتظار..
حمل كارفان السينما العربية الأوربية أفلاما عراقية، وفي روتردام عرضت أفلام غيرها، نجد من المفيد تكريس مادة نقدية عنها في وقت لاحق، وعذرنا ان كارفانا طليعيا انطلق في هولندا ولكن من أجل أستكمال فهم أتجاه جديد نحتاج الى كرفانات أكثر تجول مدن أوربية أخرى، تحمل نتاجا سينمائيا يجسد هذا الإتجاه ويتيح مجالا أوسع لنقاش مفتوح يحتمل التنظير والتحليلفالأمر يتعلق بسينما تعيش بين عالمين كبيرين.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف