شعراء السبعينات في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أحلام شعرية كبيرة هشمتها مطرقة الأيديولوجيا
"لقد جئتكم بنبأ من أكثر الأنباء اثارة للدهشة، لم يحدث مثله من قبل، فقد عبثوا بقوانين الشعر.."
(مالا رميه: الموسيقى والأدب/ محاضرة في أكسفورد)
1
عند الحديث عن سقوط الأحلام الشعرية لشعراء السبعينات في العراق "73 شاعراً" في فخ الأيديولوجيا بكافة مظاهرها وأشكالها. ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا شعراء الستينات الذين سبقوهم في الظهور بعقد من السنوات واهتمامهم بما هو آني وزائل على حساب الابداع الأصيل، وجعلهم الشعر وهو من أكثر النشاطات الانسانية قداسة وسرية، رسالة وانتماء وهوية لآيديولوجية معينة جعلتهم الآن باستثناء بعض المواهب القليلة جداً، يندبون حظوظهم العاثرة وخيباتهم الدائمة من رماد الأيديولوجيا وأحلامها الرومانتيكية الخلابة التي أوصلتهم إما الى حافة اليأس أو الانضمام الى خيمة السلطة الفاشية حيث التمجيد الكاذب برسالة البعث الوهمية والاشادة الدائمة بعبقرية وفكر صدام حسين "الاستراتيجي" المزعوم الذي أوصل العراق الى ما هو عليه الآن. وللتعرف بشكل واضح على الخيبة المريرة التي يشعر فيها شعراء الستينات الآن أقتطف هنا فقرات من المقدمة التي كتبها فاضل العزاوي وهو من فرسان الأيديولوجيا البارزين في هذا الجيل شأنه شأن الآخرين، لكتاب "انفرادات ـ الشعر العراقي الجديد" حيث يكتب: "جيل الستينات الذي يقدمه هذا الكتاب الكبير عاش تجربة أخرى غير تجربة جيل الشعراء الذين سبقوه، فقد شهد معظم شعرائه الجحيم وهم في العشرين من عمرهم "يقصد في العشرينات من أعمارهم" أو حتى قبل ذلك تعرضوا الى أبشع أشكال التعذيب في سراديب المعتقلات والسجون وواجهوا القتل واشتركوا في الحركات المسلحة واختلفوا مع أحزابهم وعرفوا حياة التشرد والصعلكة والبطالة والنوم في الحدائق والمقاهي والمساجد. ما من مجموعة شعرية أو فكرية في الوطن العربي كله حوربت كما حورب الجيل الذي يقدمه "انفرادات" وما من جيل تعرض الى الخيانة كما تعرض له هذا الجيل، قمع بضراوة من قبل جميع الفئات السياسية داخل السلطة وخارجها، فقد جرى أبعاد أبز ممثليه عن المراكز الثقافية وألغيت مجلاتهم ومنعوا من النشر وتعرض كثيرون منهم للاعتقال والملاحقة]. وشهادة العزاوي المرة هذه، تبين لنا بالدليل الواضح أن محاولات تدجين الشعر والشاعر للآني والزائل عبر الشعارات الايديولوجية الفضفاضة سمة من سمات واقعنا السياسي والثقافي المعاصر ابتدأت بعد انقلاب عام 1958 الذي أطاح بالعائلة المالكة بطريقة وحشية في "قصر النهاية" وتم فيه قتل الملك الشاب والوصي والنساء والأطفال وحتى الخدم الذين خرجوا لمواجهة الجنود المدججين بالبنادق والدبابات ويقودهم النقيب عبد الستار العبوسي وهم يرفعون المصاحف التي لم تفدهم بشيء، والحالة المأساوية لشعرنا المعاصر هذه، كان قد شخصها مبكراً الشاعر سعدي يوسف عبر مجلة "الأقلام" حيث كتب في العدد الرابع عام 1972: "مازلت مقتنعاً الاقتناع كله بان الأدب ـ الشعر بخاصة ـ تعرض لعملية تشويه في السنوات بين 1964 ـ 1968 وان عملية التشويه هذه كادت تقضي على حيوية الشعر العراقي وتقاليده المشرفة وان آثار العملية أصابت الشعر بفقر دم مزمن ستظل آثاره تعرقل التطور الشعري حتى السنوات العشر المقبلة" وفقر الدم المزمن الذي شخصه سعدي يوسف هنا، رأيناه مهيمنا على مجمل نتاجات شعراء السبعينات إلاّ قلة قليلة وللدليل ف "جيلهم" كما تحلو لنقادنا هذه التسمية لم يعطنا شعراء مهمين حتى الآن، ومادمنا بصدد الايديولوجيا ومطرقتها التي هشمت الأحلام الشعرية لهؤلاء الشعراء فتنبغي الاشارة الى أن شهر العسل الذي تم بين الشيوعيين والبعثيين ضمن اطار ما سمي في حينه ب "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" عام 1973 أفرز من بين ما أفرزه من قيم ومفاهيم شاذة وتزييف وتهميش لدور الثقافة الحقيقي في المجتمع، والشعر والأدب عامة، تسليطه الأضواء على شعراء وهميين ونقاد مأجورين لعبوا أدواراً قذرة في تدمير الصروح الثقافية التي رسختها أجيال من العقول العراقية الكبيرة منذ بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة عبر قلبهم للحقائق وتزييفهم لكل الانجازات الثقافية السابقة وطمسها وتشويهها بحجة بورجوازيتها ورجعيتها وما شابه من المصطلحات السياسية التي استوردتها نخبنا الأيديولوجية من الشرق والغرب وفرضتها بالقوة على واقعنا العراقي المبتلى بالدمار والطغيان، وقد تبارى الكل في كسب أكبر حشد لهم من هؤلاء الشعراء والنقاد والمنظرين المأجورين لفرض أيديولوجياتهم عبر المنابر الثقافية والصحف والمجلات حتى أصبح واقعنا الثقافي والشعري مسيساً كله وراحت ثقافتنا ترسخ النزعات الطائفية والحزبية المتعصبة في المجتمع من خلال نظرة احادية الجانب، ترى في الأدب والثقافة وسيلة آنية تكمن وظيفتها في الجانب الأيديولوجي والترويج له فقط، والحديث الذي دار من قبل عن ثقافة الداخل وثقافة الخارج ليس جديداً أبداً، فقد ترسخ منذ الاعلان عن جبهتنا الوطنية العتيدة حين انقسمت ثقافتنا الى داخل وخارج عبر الشكل التالي: صحيفتا الثورة والجمهورية ومجلات الأقلام والطليعة الأدبية وألف باء للبعثيين، وصحيفتا الفكر الجديد وطريق الشعب ومجلة الثقافة الجديدة للشيوعيين، وللتوضيح أكثر أقدم هنا فقرات من افتتاحية العدد 15 لمجلة "البديل" الصادرة عام 1990 وهي لسان حال "رابطة الكتاب والصحفيين الديمقراطيين العراقيين" التي أنشأها الحزب الشيوعي العراقي في الخارج لتكون بديلاً عن اتحاد الأدباء في العراق: "نتطلع في بحر هذا العام 1990 الى عقد المؤتمر العام الثالث لرابطتنا، محطة أخرى في مسيرتنا الثقافية، وقد عانينا جراء ذلك الكثير، المنفى بتفاصيله القاتلة وآلامه الكبيرة وترحالنا الدائم في بقاع شتى في العالم وعلاقاتنا التي أخذت تضيق في هذا المحيط من البلدان والناس، ومن أجل اغناء المؤتمر بمحتوى ثقافي فكري فاعل. نقترح أن يسهم المندوبون بمداخلات تتناول الثقافة بشقيها: في الوطن والمنفى، وما دمنا نقر بأن عدداً غير قليل من المثقفين الديمقراطيين العراقيين ما يزال خارج الرابطة، فلابد لنا من أن نبحث عما اذا كان الموقف السياسي أم الثقافي سبباً لهذا الابتعاد، وكيف يمكن اللقاء بين التيارات الثقافية العراقية ضمن الرابطة وعلى ضفافها" وللقارئ أن يتساءل: ما علاقة المثقف الديمقراطي الحر والثقافة الحرة في الانتساب الى هذه الرابطة التي تدعي تمثيل الثقافة وهي واجهة للحزب الشيوعي وفي هذه الفترة بالذات التي سقطت فيها جميع الأحزاب والنظم الشمولية التي تصنع الناس على شاكلة الدجاج ناهيك عن الثقافة والابداع؟ وبالنسبة للشعراء الذين انسلخوا عن اللجنة المركزية وانضموا الى القيادة المركزية التي كان يقودها عزيز الحاج، فقد توزعوا بعد القبض عليه وانهياره عام 1969 واعلانه ترك العمل السياسي عبر شاشة التلفزيون، ما بين الانضمام الى حزب السلطة والتنعم بمكاسبها القذرة أو ترك العمل السياسي أو الهجرة الى خارج العراق ليسقط والى الأبد حلمهم الرومانسي في ثورة مسلحة على غرار الثورة الكوبية، تحرر العراق كله من سلطة الجنرال الضعيف عبد الرحمن عارف، والأمر الأشد غرابة بعد كل هذه السنوات وتشظي الأحلام المستحيلة. نجد الآن أن هؤلاء الشعراء ما يزالون يعملون على تغليب الجانب الايديولوجي على الابداعي ولا يكاد واحد من هؤلاء الذين اصطلحنا عليهم بجيل الستينات باستثناء البعض القليل. لم ينتم الى حزب أو حركة سياسية معينة ويبشر بأفكارها وطروحاتها الدوغمائية. والسؤال الآن ـ أين تكمن وظيفة الشعر الأصلية، هل هي في الحلم الايديولوجي الذي انتهى الى الأبد، أم في التمجيد الكاذب برسالة البعث الوهمية. أم هي في ذلك الجانب السري والشخصي والحلمي والمعرفي المقدس الذي يقود الانسان الى الأبدية ويضيء له المجاهل ويخفف عنه ضغوط الواقع واغتراب العالم؟ بالتأكيد انه في الجانب الثاني وهذا الجانب يرفض دائما أولئك الذين يخونون جوهره الحقيقي.
2
ضمن هذا المناخ الشاذ على كافة الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية، أعلنت مجلة "الكلمة" حسب مفاهيمنا النقدية المشوهة عام 1973 "بعد أن فر من فر وتعهد من تعهد وخان من خان" حسب تعبير وليد جمعة في كتاب "انفرادات" عن ولادة جيل شعري جديد عبر تخصيصها "ملف" في أحد اعدادها لمجموعة من الشعراء الشباب الذين لم يستكملوا عدتهم بعد وأطلقت عليه ملف "جيل السبعينات" وراحت تكتب المراثي وتضع الزهور على قبر "جيل الستينات" من دون أن تمنحه فرصة تقديم نتاجه وصخبه وادعاءاته في التغيير والابداع وخلق عالم تسود فيه العدالة الانسانية وتضيئه قناديل الشعر الرحيمة، وعلى الرغم من خلو هذا الملف الذي نشرته "الكلمة" لجيلها المزعوم من أي ابداع حقيقي. راحت السلطة والقوى الايديولوجية الأخرى تتبارى كما سبقت الاشارة في كسب ود هذا أو ذلك الشاعر تارة بالتهديد والوعيد وتارة أخرى بالترغيب والامتيازات ليكون لسان حالها والمدافع عن أحسابها وأنسابها مثلما كان يحدث في عصور ما قبل الاسلام، وراحت بعدها الوجوه الملمعة في الأوكار الحزبية والثقافية تطل علينا عبر الصحف والمجلات وجلسات اتحاد الأدباء، لكن المصيبة الكبيرة التي لم نكن نعرفها من قبل في شعرنا المعاصر، كانت تكمن في أن أغلب موضوعات قصائد هؤلاء الشعراء كانت تدور حول "مسيرة الثورة الظافرة" و"العمل الشعبي" و"تأميم النفط" و"كل شيء من أجل المعركة" و "أمجاد الأسلاف" وابتكرت السلطة وبقية القبائل الايديولوجية الأخرى تقليداً جديداً في واقعنا الشعري المعاصر، ربما لأول مرة في العالم، يتمثل في اصدار بلاغات وأوامر الى القواعد والمنظمات الحزبية يلزمها بضرورة الحضور والتواجد في كافة الجلسات الشعرية التي تقام لهؤلاء الشعراء للتصفيق ومطالبتهم بالاعادة المرة تلو الأخرى، ليظهروا للعين بهاء شاعريتهم حسب تعبير باسترناك مع تحوير بسيط.
3
بعد أن رسخت"الكلمة"هذا الجيل، عادت في وقت لاحق ونشرت "بيان القصيدة اليومية" الذي وقعه الشعراء: خز عل الماجدي، غزاي درع الطائي، عبد الحسين صنكور، وطالبوا فيه برؤيا جديدة للكتابة والحياة تتمثل في التعامل مع أشياء الواقع اليومية بروح وبصيرة جمالية عميقة والابتعاد عن البلاغة والفذلكات التي انشغل فيها شعراء الستينات كما طالبوا أن تبتعد القصيدة عن السياسة ورموز الخمسينات الأسطورية والمناسبة العادية، وهنا ثارت الضجة حول هذه الرؤيا والأفكار التي طرحها هؤلاء الشعراء في هذا البيان، جعلتهم يتخلون عن هذه الرؤيا الجديدة نهائيا ليطلع علينا غزاي درع الطائي بمجموعته الأولى "وردة لعيون البعثية ليلى" أما خز عل الماجدي فقد تخلى نهائياً عن كل الأفكار التي طرحها هذا البيان وانشغل طوال السنوات المنصرمة باساطير وحكايات السومريين والعرب قبل الاسلام في مجموعاته:"يقظة دلمون" و"نشيد أسرا فيل" و"خزائيل" ونشر لاحقاً نصوصاً طويلة "اليواقيت" و "شمس الزايرجة" و"انك بشع وغير كوني" وفيها يتكئ على مفاهيم السحر في القرون الوسطى، وخصوصاً تلك التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته، وبالنسبة لعبد الحسين صنكور فقد ترك الشعر نهائياً ولم يكتب أية قصيدة.
4
بلغت الضجة الاعلامية لشعراء السبعينات ذروتها الكبيرة قبل سقوط وانهيار التحالف البعثي ـ الشيوعي بشهور وذلك حين أقامت وزارة الأعلام عبر مجلة "الطليعة الأدبية" الملتقى الأول لشعراء السبعينات وهو الأول والأخير في احدى قاعات المكتبة الوطنية، وتمت فيه دعوة مجموعة من هؤلاء الشعراء، أما أولئك الذين لم تتم دعوتهم فقد وجدوا لهم مكاناً في صحيفتي "طريق الشعب والفكر الجديد" ليشتركوا في هذا الزفاف الشعري الذي ترعاه الايديولوجيا بصيغ وأشكال عديدة، ومن الشعراء الذين تمت دعوتهم: خز عل الماجدي، هاشم شفيق، زاهر الجيزاني، سلام كاظم، مرشد الزبيدي، فاروق يوسف، غزاي درع الطائي، ساجدة الموسوي، خليل الأسدي، رعد عبد القادر، وقد اشترك في أعمال هذا الملتقى الكثير من النقاد الذين ينظرون الى العملية الابداعية من خلال تعاليم وتوجهات الأفكار الايديولوجية التي يحملونها، واستمرت الأفعال وردود الأفعال لمدة أكثر من شهرين في الصحافة والمجلات وبقية وسائل الأعلام الأخرى، لكن الأحلام الشعرية التي عبر عنها هؤلاء الشعراء في ملتقاهم هذا، سقطت كلها بعد شهور حين انفرط عقد التحالف الأيديولوجي الشيوعي ـ البعثي، ليدمر معه كل المظاهر الثقافية والسياسية والاجتماعية التي هي مدمرة أصلاً. بعدها صمت الجميع وأغلق اتحاد الأدباء أبوابه حتى العام 1983.
5
في سنوات الثمانينات الأولى صدرت ثلاث مجموعات مهمة لثلاثة من أبرز شعراء السبعينات هي "دخان المنزل" لسلام كاظم و"يقظة دلمون" لخز عل الماجدي و"من أجل توضيح التباس القصد" لزاهر الجيزاني. احتوت هذه المجموعات على هم معرفي وجمالي ملحوظ ومصير الانسان والعالم وتحولات الطبيعة والأحلام من خلال رموز واشارات جديدة لها دلالاتها الخاصة، عبر عنها خز عل الماجدي في مقال له ب "حضارة الشاعر الشخصية" كما عبر عنها زاهر الجيزاني في جهوده الكتابية التي دأب عليها طوال سنوات الثمانينات وخصوصا حول "الكتابة الجديدة" لكن بدء الحرب الصدامية ـ الايرانية وظهور سلسلة "ديوان المعركة" و"أدب المعركة" عن وزارة الأعلام. جعلت مشروعات وتنظيرات هؤلاء الشعراء تكاد تنزوي بفعل الكم الهائل من الاصدارات التعبوية والاعلامية وانشغال أبرز نقادنا بمفاهيم جديدة مثل"البطولة في الشعر. الشعر والفروسية. الروح المعنوية. مرآة الأسلاف. القصيدة القتالية" الخ أما خزعل الماجدي الذي انشغل في التنظير ل "ميتاجماليا الشعر" و"قصائد الصورة" و"السحر والشعر" و"حضارة الشاعر الشخصية" فقد حوربت مجموعاته التي كان يقدمها للنشر دائماً وبحكم معرفتي الشخصية به فقد اطلعت على أعمال وكتب شعرية له مازالت تنام في أدراج مكتبته، لكنه أفلح طوال سنوات الثمانينات في أن يصدر 4 مجموعات هي "يقظة دلمون، و نشيد أسرا فيل، و خزائيل، و عكاز رامبو" ويالأحلام خزعل المهووس بالحضارات القديمة ورموزها وثقافاتها أمام عنف وقسوة الواقع المهووس أيضاً بالايديولوجيا الزائلة والحروب العبثية التي لا طائل من ورائها، ولما لم يجد متنفساً لهذه الأحلام الشعرية أكمل في النصف الأول من التسعينات دراسته في جامعة بغداد وحصل على شهادة الدكتوراه في موضوع "الحضارة السومرية" أنجز وأصدر بعدها أكثر من عشرين كتاباً في هذا المجال، تناولت السحر والدين والشعر والأسطورة والطب ومازال يكتب الشعر ويقرأه في جلسة هنا وجلسة هناك، أما زاهر الجيزاني الأكثر ولعاً من الجميع في الكتابة عن "تفجير اللغة" فقد بدأ ظهوره ادونيسياً خالصاً عبر مجموعته الأولى "تعالي نذهب الى البرية" الصادرة عام 1979 وأعقبها بمجموعة أخرى عام 1981 تنتمي الى نفس المناخ الادونيسي مع تأكيدها على الغنائية حملت عنوان "من أجل توضيح التباس القصد" وراح بعدها يجاهد في ترسيخ مصطلح "تفجير اللغة" غير مكترث لقرار مجلس قيادة الثورة الشهير"بقانون حماية اللغة العربية" حيث جر على نفسه لعنات وشتائم النقاد والشعراء الأقدم منه ظهوراً، واشتدت هذه اللعنة عندما أعد وكتب مقدمة انطولوجيا"الموجة الجديدة" بالاشتراك مع سلام كاظم التي ضمت مختارات لأكثر من خمسين شاعراً من شعراء الكتابة الجديدة وصدرت عام 1986 عن "دار الشؤون الثقافية العامة" بعد هذه المجموعة بدأ الجيزاني يتخلى عن الحلم الأدونيسي في تفجير اللغة وتنظيراته في مجلة "الأقلام" عن الغنائية وعودتها بقوة مع شعراء السبعينات ليعود بعد أن أصدر عام 1989 مجموعته الرابعة "الأب في مسائه الشخصي" وهي خليط من النثر والشعر، تبقى في رأيي أبرز ما صدر له حتى الآن، الى مهاجمة ادونيس عبر مقال نشره في أحد أعداد مجلة "الأقلام" تحت عنوان "قصيدة ادونيس الجديدة، قصيدة تجاعيد" وهو عن قصيدة ادونيس "شهوة تتقدم في خرائط hellip;..} ومن هنا بدأ تخليه مرة أخرى عن مشروعه القديم ليكتب بعد خروجه من العراق كتاباً احتفالياً عن عبد الوهاب البياتي تحت عنوان "الحداثة والشعرية ـ البياتي في مرآة الشرق" ويؤكد فيه أن البياتي أهم من السياب وأدونيس شعرياً، أعقبه بكتاب آخر عن المعارضة العراقية ومشاكل العراق ليصمت بعدما تخلى عن كل الأحلام الشعرية وما صاحبها من جهد وصخب طوال سنوات الثمانينات، أما الصامت الأكبر سلام كاظم وهو من البارزين في هذا الجيل فقد رفض نشر كل ما كتبه بعد صدور مجموعته الأولى التي تنبأ فيها بما سيحدث في العراق من دخان ومذابح وطغيان، باستثناء ثلاث قصائد نشرها تحت الحاحنا الدائم هي "الملوك العزل" في مجلة الأقلام و"ربيع سماء قلقة" في مجلة الطليعة الأدبية و"الشرق" في مجلة ألف باء وذهبت سدى جميع الاغراءات والدعوات في التأثير على موقفه الرافض هذا. اترك الحديث هنا عن تجربة المرحوم رعد عبد القادر الذي ساخصص له دراسة مطولة في المستقبل.
6
نشرت مجلة "الوطن العربي" التي تصدر من باريس في منتصف الثمانينات حوارات مطولة وقصائد لمجموعة من شعراء السبعينات منهم خز عل الماجدي وزاهر الجيزاني وسلام كاظم وفاروق يوسف، تحدثوا فيها عن فهمهم للابداع في الشعر والكتابة والحساسية الجديدة وأبدوا آراء في ما يخص راهن الثقافة العراقية والعربية ومشروع قصيدة النثر التي كانت حلماً يداعب مخيلا تهم قبل أن يرسخها الشعراء الذين ظهروا من بعدهم من خلال جهود دؤوبة ومخلصة وصامتة في التجريب الذي استمر من عام 1980 وحتى عام1990 من دون أن يفلحوا في نشر نتاجهم الذي بدا غريباً آنذاك، حتى تنبه لهم الناقد حاتم الصكر عام 1990 وكتب عنهم مقالاته "شعراء الظل" التي بين فيها مدى اخلاصهم لقضية الشعر بعيداً عن التنظير اللامجدي والادعاء بتفجير اللغة وما شابه من مصطلحات. بعد حوار"الوطن العربي" هذا أخرج نقادنا جميع أسلحتهم الصدئة وراحوا يشحذونها بوجوه هؤلاء الشعراء وراحوا يكيلون لهم التهم ويشككون في مشروعاتهم الكتابية الجديدة، وبلغت المهزلة ذروتها عندما تطوع الناقد يوسف نمر ذياب بكتابة ونشر مقال طويل في مجلة"ألف باء" أسماه "البيان الختامي للشعر السبعيني" جامعاً فيه خلاصة آراء الكثير من نقادنا المشوهة ضد شعراء السبعينات بعدما كانوا قد مهدوا الأرض لهم في البداية وفرشوها بالأعشاب والزهور، وهكذا حاول هذا الناقد الهمام أن يلغي بجرة قلم جيلاً شعرياً بأكمله من الذاكرة الثقافية لعرا قنا المبتلى بسمومه وسموم من هم على شاكلته، لمجرد أن هؤلاء الشعراء حاولوا الاعلان عن آرائهم في مجلة تصدر خارج العراق، وبالنسبة لهؤلاء الشعراء فقد قاموا من جانبهم بالرد عليه رداً قاسياً وقد عددوا 50 نقطة وردت في البيان الموجه ضدهم، اعتبروها لا تمت الى الابداع بصلة ونشروا معاً في نفس المجلة دفاعهم الشهير"خمسون بيضة فاسدة في سلة النقد" لكن العداء ظل مستمراً بين النقاد وبين المشروع السبعيني بعدما أحرقت الايديولوجيا وهشمت كل الأحلام التي نادى بها هؤلاء الشعراء، حتى جاء عدي صدام حسين في عام 1993 ليرأس "التجمع الثقافي في العراق" ويطرد الجميع شعراء ونقاداً وينصب بدلاً عنهم مجموعة من الأدباء الجدد الذين راحوا يدبجون مقالات تطالب بضرورة طرد واسكات جميع "الديناصورات" من الحياة الثقافية في العراق، والمقصود بهم تلك القلة الباقية من أدباء ومثقفي العراق ليتربع المدعو رعد بندر وهو شاعر عمودي عادي على كرسي محمد مهدي الجواهري، رئيساً لاتحاد الأدباء في العراق بأمر من عدي، بعدما حصل على لقب "شاعر أم المعارك" بمرسوم جمهوري نشر في الصحف العراقية، من دون أن تصدر له مجموعة شعرية واحدة.
شاعر من العراق يقيم في السويد
Nasif_nasiry@hotmail.com