مدخل نقدي لتاريخ نظريات الفيلم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"علم جمال السينما" لهنري آجيل..
قيس قاسم من السويد: أعتبر منظرو ودراسو الفن السابع كتاب غويدو آريستاركو "تاريخ نظريات الفيلم" واحدا من المصادر الأساسية في معرفة تاريخ ونظريات الفن السابع. ومثل غيره من أمهات الكتب الفنية أنحصر شرحه وفهمه بقلة من المختصين، لشموليته وضخامة حجمه، وغنى محتواه، الأمر الذي دفع منظرا مثل هنري آجيل لتقديم عرضا تاريخيا ـ نقديا موجزا له،
طليعة وطليعيون
يشير آجيل في فصل كتابه الأول "ازدهار حلم" الى الاتفاق الواسع وشبه الاجماع بين المختصين الأوائل حول الطابع الشعري لوسيلة التعبير الجديدة "السينما". ويذكر.. "كانت شاعرية السينما تتطابق في الوقت نفسه مع استلهام عالم خيالي ومع سوريالية تكون أكثر واقعية من الواقع اليومي ومع تناسق الموضوعات التي يتم تناولها، تبعا لبعض أنماط تطور الطابع الموسيقي". وسنجد هذة الآراء نفسها في بعض ما طرحه كانودو، آبيل غانس، مارسيل شوب، جان أبشتاين وغيرهم. وسنتوصل الى ان بعض آرائهم في الدفاتر الجماعية، التي كانت تنشر تحت عنوان "الفن السينمائي" قد التقت على ما أطلق عليه أسم "الطليعية". وربما يكون أقرب التعاريف لها ما ورد في كتيب "معرفة السينما" لبيار جوس ".. يحدد تحت أسم الطليعة مجموعة الأبحاث والتجارب والبحوث السينمائية التي أخذت على عاتقها مهمة تحديد كل الامكانيات الجمالية للسينما حتى ضمن حدودها القصوى". وعلى الرغم من الأقرار التاريخي بظهورها في علية "شوسيه دانتن" ملتقى ابولينير وبيكاسو والموسيقار سترافنسكي وغيرهم، فأن الايطاليين يدعون شرف تكوين أول الصيغ المحددة في هذا المجال! مع تأكيد آجيل بدور فرنسا وبمساهمة مفكريها في تطوير هذا المفهوم، ليتحول عندها الى حركة فكرية أتخذت لها مراكز مثل "الفيو ـ كولومبييه" الذي أسسه جان ديسكو عام 1924. سارت هذة الحركة وسط تيارات جارفة أشدها تأثيرا الماركسية، التي دعت الى وظيفة أجتماعية سياسية الى جانب الجمالية. وقد عبر عن هذا المعنى الأجتماعي بشكل غير مباشر بيلا بالاش ".. بوصفها ناتجة عن أسباب سوسيولوجية.. وهي واحدة من الوسائل التي يسعى الضجر البرجوازي عبرها الى الهروب من الواقع". وفي نهاية المسح المكثف للطليعين والطليعة يتوصل آجيل الى أستنتاج مهم: مفهوم الطليعة هو واحد من المفاهيم الأكثر غموضا بل والأكثر تعرضا لسوء التحديد في تاريخ السينما.
الواقعية وأبهاماتها
عنوان الفصل الثاني هذا سيكون مدخلنا الى مفهوم جديد تطور موضوعيا عبر نشاط الحركة الطليعية التاريخي. وسوف يطلق آجيل صفة الواقعيين على كل المنظرين الذين رغبوا في ان يجعلوا من السينما المرآة الأصدق تعبيرا عن الواقع المعاصر. ويعتبر في هذا السياق ان حركة 1922 الكبرى هي الاتجاه الواضح لهذة التسمية عندما يقول ".. لقد أحتاج الأمر الى انتظار الروس وحركة 1922 الكبرى كي يمكن الحديث حقا عن اتجاه جدي نحو الواقعية. ورغم ان هذا الاتجاه قد تمخض عن فشل كبير مع المحاولة التي قام بها دزيغا فرتوف مؤسس تيار " السينما ـ العين.." لقد دعت هذة الحركة ضمن مادعت اليه: رفض الممثل والملابس والمكياج والأستوديو، والأستسلام أما الكاميرا، فهي الأكثر موضوعية في رأيهم من العين البشرية نفسها. الى جانب الحركة الواقعية الروسية أعلنت عن نفسها عام 1928 المدرسة الوثائقية الانكليزية وعن أنتمائها الى المنظرين الماركسين. وفي فرنسا أسبغ جورج سادول ورينيه جان وصف الواقعية على المدرسة الفرنسية. وعن هذة الأوصاف يؤكد آجيل على أرتباط ظهورها بمجمل حركة بحوث متكاملة أنجزت في القارتين (أمريكا وأروربا) حوالي العام 1930، حملها رواد مثل روثمان الألماني وفلاهرتي في أمريكا وايزنشتاين وبودوفكين في روسيا.
الى جانب الواقعية يخصص آجيل مجالا للسينما التعبيرية التي اقترنت بالألمان ويؤكد في هذا الصدد.. أقترن هذا التجاه بالسينما الألمانية، ولكنه تجاوزها الى مجمل الانتاج العالمي، مع أحتفاظ هذا المفهوم، أي التعبيرية بكل تجلياتها الأدبية، بطابع ألماني خاص يختلف عن سماته الفرنسية الصارمة والمتامسكة في أستخدامه. في المانيا يلاحظ آجيل وجود اندفاعة صوفية غامضة ونوعا من السحر يسودان بشكل خاص خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. مع أشارته الى المسرح كمصدر أتى منه هذا التيار.
كبار المنظرين
يخصص آجيل حيزا كبيرا نسبيا في كتابه الى كبار المنظرين في مجال علم الجمال السينمائي وفي مقدمتهم المجري بيلا بلاش 1894 ـ 1951. المنظر الذي ترك ثلاث مؤلفات "الرجل المرئي وحضارة الفيلم"، "روح الأفلام" و"نظرية الفيلم". تعطي كتبه الثلاث كما يشير آجيل الى مكانة أساسية لعنصري اللغة السينمائية: اللقطة الكبيرة والتوليف. فالأولى هي ما يميز السينما عن المسرح. وهي تسمح ضمن ما تسمح به باقتراح حد أقصى من الحس المأساوي بأقل الوسائل ".. حيث يصبح أقل تغضن في الوجه واحدا من السمات الأساسية للشخصية وتصبح لكل حركة عابرة، لأي عضلة، دلالة وتشير الى الأحداث الكبرى التي حدثت. ويورد آجيل تذكير بالاش المتكرر بفيلم "جان دراك" لكارل دراير بوصفه أفضل تمثيل على نظريته، فهناك تختفي كل أحالة الى المكان والزمان. "ونجد أنفسنا نتحرك ضمن بعد التعبير الإنساني معزولا عن الشاشة". أما التوليف ثاني عناصر اللغة فيقول عنه بلاش ".. التوليف هو الذي يخلق الكثافة الدرامية حيث تكون اللقطات المتفرقة مشبعة بتوتر ذي دلالة بينة تثورمثل شرارة كهرباء حين تتعقب لقطة أخرى".
أما قصة وصول المنظر الروسي بودوفكين الى عالم السينما فغريبة جدا. لقد كره بودوفكين السينما وعاداها عداءا شديدا، منطلقا من انتاجها التافه الذي كان يراه وقتها، وهو المهندس الكيمياوي المحكوم بصرامة ودقة المعادلات. لكن تحولا في نظرته حدث عندما كشف له صديقه كوليشوف الأمكانيات التعبيرية الكبيرة لهذا الفن، فأنتسب الى معهد السينما العالي في موسكو وكتب عام 1926 مع كوليشوف "المخرج السينمائي والمادة السينمائية" الذي أضيف الى جانب نصوص أخرى ليشكل مادة كتاب "الإخراج السينمائي والمخطوطة السينمائية". لقد حقق بودوفكين أضافة الى مؤلفات عديدة وأفلام كبيرة منها: "الأم" 1926، "نهاية سان بطرسبورغ" 1927، "عاصفة على آسيا" 1928، "الهارب" 1933، "الاميرال ناخيموف" 1945 و"الحصاد" 1953.
درست ماري ستون حياة وأعمال المخرج الكبير ايزنشتاين في كتابها "ايزنشتاين سيرة حياة" والذي يعتبرها آجيل الى جانب جان متري من الكتاب الذين نسقوا دراسة أفكاره وآرائه الجمالية. يجمع هذا العبقري الروسي معارف عصره جمعا مثيرا للتساؤل فهو من مؤسسي مسرح " البروليتكولث" ومن مكتشفي النهضة الايطالية وهو في مقتبل عمره، المتمعن في معرفة التحليل النفسي ومسرح الكابوكي وماركس وانجلز. ركز ايزنيشتاين على دراسة المونتاج الذي جعل منه كما يقول آجيل في فيلم "تعصب" بنية شرطية للفيلم. ويمضي في شرحه.. لقد درس ايزنشتاين مبدأ التوليف وقدرته الذهنية في أكثر من مبحث ويلخصها بقوله ". ان مقطعين في فيلم ما، مهما كانت قيمة هذا الفيلم، إذا وضعا معا، سيتآلفان بالضرورة ضمن تصور جديد وقيمة جديدة تكون وليدة هذا التآلف".
أهتم المنظر آريستاركو برودولف ارنهايم، الناقد الألماني ومؤلف كتاب " الفيلم كعمل فني" الصادر عام 1932. فهذا الناقد كما يخبرنا آجيل مهتم بكل أنواع الفنون ومشكلاتها، ويقر في ذات الوقت بدور العلوم الطبيعية في تشكيل نمط تفكيره. وفي علاقة هذا النمط وأحساسه بدور السينما يقول ".. كنت أومن بأنه لو لم توجد السينما حقا، لكان بالإمكان تجسيد إمكانياتها التعبيرية عن طريق صور فوتوغرافية متحركة ، وهو أمر حاولته بالفعل". أسس ارنهايم نظريته على السينما الصامتة. ويؤكد آجيل نظرة ارنهايم المدروسة في هذا الحقل فهو يعتبر، ما نعتبره نقصا تعبيرا في هذة الأفلام، عناصر مثيرة حين يقول ".. ان أختصار الأبعاد الثلاثة التي نتلقاها في الواقع الى بعدين على الشاشة، بدلا من ان يكون عنصرا مفرقا، بأمكانه ان يجعل نمط التعبير السينمائي مثمرا: فالشيء يصبح أكثر مباشرة ويخلق أنطباعا أبعد حيوية أنطلاقا من واقع أنه يقوم لنا بطريقة فريدة من نوعها..".
مدارس ومفاهيم
يقر المنظران آجيل وآريستاركو بأهمية المساهمة الايطالية في النظريات التي أوحت بها السينما. ويدون الأخير فضل المبادرة المزدوجة للويجي كياريني و أمبرتو بربارو في صدور العدد الأول من مجلة (أبيض وأسود) في تموز 1937، وبصدورها يقول أريستاركو "ولد في ايطاليا وعي سينمائي حقيقي"، هذا الى جانب الأهمية التاريخية التي كسبتها مؤلفات أيطالية مثل "السينما الذهبية" لأميتشي و"جماليات السينما" لبلانتشي و"السينما كفن" للوتشياني. الى جانب دراستي كارلو راكيونني المهمتين "السينما الصارمة و"السينما والمسرح".
ظهر مفهوم جديد في حقل علم جمال السينما يربط بين لغة السينما والكتابة، مما دفع هنري آجيل لوضعه عنوانا لفصل خاص سماه الكاميرا ـ القلم. ويحيلنا آجيل الى أول نص كتبه فيكتور بيرو عام 1919 أدرك فيه محمول اللغة السينمائية كتب: ".. انها كتابة، انها الكتابة القديمة التي تعبر عن الفكرة بالصورة" و".. انها كتابة عالمية، كتابة فكرية تعود الى أول عصور البشرية". ووصفها الفرنسي جورج داماس بأول لغة عالمية. والتعبير الشهير الذي أطلقة الكسندر استروك " أنني أسمي عصر السينما الجديد هذا بعصر الكاميرا ـ القلم" صار اليوم تعبيرا كلاسيكيا مؤثرا.
في نظرته الى التلاحق التاريخي لنظريات علم الجمال والاشكاليات الجديدة التي واجهتها، ومنها على سبيل المثال، مفهوم السينما سكوب، السينما التي غيرت من مقاييس الشاشة وأحدثت انقلابا في البعد الجمالي، يشير آجيل اليها مستعينا بقول أندرية بازان "أن التوليف الذي شاء كثيرون، عن خطأ، ان يروا فيه جوهر السينما، هو في واقع الأمر ذو علاقة بضيق الصورة الكلاسيكية، مما يرغم المخرج على تجزيء الواقع، ومن وجهة النظر هذة تأتي السينما سكوب لتشكل خطوة في التتابع المنطقي لتطور السينما خلال 15 عاما الأخيرة: من "قواعد اللعبة" الى "أجمل سنوات حياتنا" ومن "المواطن كين" الى "أوربا 51". وفي نهاية كتابة يمر آجيل على مشكلة جمالية ونظرية تتعلق بمفهومي الأرتجال والحساب. فبينما يرى عدد من السينمائيين بأن كل شيء ينبغي ان يحسب ويدقق بعناية قبل العمل، من أختيار اللقطات الى حركة الكاميرا، زويا التصوير وأداء الممثلين.. الخ. يرى أخرون ان النص الذي يشتغل عليه فريق العمل ينبغي ان يقتصر على بضعة أوراق تشير الى الخطوط العامة للمشهد دون تدوين التفاصيل الخاصة بكل لقطة. ولايهمل آجيل توضح العلاقة الفاصلة بين المسرح والسينما، وأيضا الموسيقى ودورها في الفيلم. والمفارقة هنا، ان ما أبتدأت به نظرية السينما، أي أسقاط الشعرية والموسيقى على طابعا البصري، أنتهت اليه ثانية. فكلمات موريس جوبير تعيدنا الى البداية "ان قوة أيحائها كلها، ستشدد وتطيل أمد أنطباع التغريب والانقطاع عن الحقيقة الفوتوغرافية، وهو الانطباع الذي يسعى المخرج الى إحداثه".
ملاحظة أخيرة: لم تتطابق صفحات الفهرس مع المواد والفصول التي تشير اليها، مما يتطلب تصحيحها في الطبعات القادمة. ملاحظة لا تقلل من أهمية الكتاب ولا من الجهد المبذول في ترجمته.
فبفضل أختيار ابراهيم العريس ل "علم جمال السينما" وترجمته، توفرت للقاريء العربي فرصة الإطلاع على جزء مهم من الدراسات السينمائية الأكاديمية، وأيضا، سيكون هذا الكتاب مصدرا مهما للمشتغلين في هذا الحقل. ومثلما أراد العريس سيشكل خطوة للوصول الى علم جمال للسينما العربية.
أسم الكتاب: علم جمال السينما
المؤلف: هنري آجيل
ترجمة: ابراهيم العريس
منشورات: وزارة الثقافة ـ المؤسسة العامة للسينما
في الجمهورية العربية السورية ـ 2005