عالم الأدب

احتراق كاتب المسرح

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

لاشيء بعد كل شيء.. سوى كتابة المذكرات وانتظار الموت.. هكذا يلجأ الكثير من الفنانين والأدباء الى كتابة مذكراتهم بعد توقف الطاقة لديهم وبنوعيها الجسدية والروحية بوصفها المنبع الأصل لمسيرة حياتهم التي توقفت، او يجب أن تتوقف يوما،ليضعوا النقطة الأخيرة في سطر منجزهم الإبداعي الأخير. تنيسي ويليامز،الكاتب المسرحي الاميركي، واحد من الذين ذهبوا لسرد مذ كراتهم وفي كتاب خاص صدر مؤخرا عن دار المدى للثقافة والنشر بعنوان "مذكرات تنيسي ويليامز" ترجمة اسامة منزلجي، لنعرف بان المسرح كان الشيء الوحيد الذي أنقذ حياة ويليامز حقا.. حياة ملؤها الجوع والتنقل وعدد لا يحصى من العلاقات الاجتماعية والفنية والصداقات المتنوعة والمتحولة فضلا عن علاقات ويليامز النسائية منها والذكورية وبشذوذية معلنه وصريحة..فعلا أن هذا النوع من الكتابة لم يكن لأسباب مادية بحسب ويليامز نفسه بل هو" ذلك البوح الذاتي السافر والذي لا يخلو من الاستمتاع المطرد ".
ويليامز في سرده لمذكراته يبدو وكأنه يتحدث مع قارئه الآن، فهو يتحدث معنا بطريقة مباشرة دونما عوارض أحيانا ودونما حياء أحيانا كثيرة، يخاطبنا وكأننا نجلس معه حول طاولة أحدى حاناته الذي يحب ويتذكر.. يتذكر أدق التفاصيل الحياتية الصغيرة كاشفا عن مكابداته إزاء ما كان يلاقيه من الم وجوع وعوز وهو يبحث عن الأعمال والمساعدة فيقول: "إلا أنني أدركت أن المرء بعد أن يمضي قرابة الثلاثة أيام في شبه جوع تام يكف عن الإحساس بالجوع. فالمعدة تتقلص والتشنجات المعدية تهمد،ويهبط عليك الله او كائن ما خفية ويرزقك بما يسكن الألم فتجد نفسك تغوص بشكل غريب وبطريقة مبهمة تماما في حالة من السكينة،وهذه الحالة مثالية لممارسة التأمل في الأحداث الماضية أو الحاصلة أو القادمة على التوالي. ".. وفعلا وعلى طول سلسلة أحداث الكتاب التذكارية يتأمل ويليامز خلالها أدق التفاصيل الصغيرة في علاقاته وتحديدا الأولى منها في فترة المراهقة، وما صاحب تلك الفترة من مغامرات شاذة من علاقات صداقة كانت قد استمرت مع ويليامز طوال سنوات حياته كلها وباعترافه نفسه وعلى طول صفحات مذكراته هذه.
بدأ ويليامز بكتابة مذكراته وهو في العقد السادس من عمره وتحديدا عام 1972م ولغاية عام 1975م بمعنى انه وفر له فسحة زمنية كافية كان من شانها أن ترصد كل هذه الأحداث والتحولات والمراحل الحياتية المتشعبة وعلى نار هادئة،لأنك تشعر وأنت تقرا الكتاب أن المؤلف ربما اصطفت أمامه مجموعة أوراق استذكارية كان قد خطها حين وقوع حوادثها، والا ما معنى أن يحدد لك كل شيء عن الحدث، مكانه وزمنه وهوامش تفصيلية جاورت الحدث نفسه هي من الصغر وأحيانا لا تبدو مهمة جدا برغم دقتها، لدرجة أن تشعر وكأنك أمام سرد روائي تخيلي ليس إلا..الى جانب اعتراف ويليامز نفسه في انه وجد مشقة كبيرة في أن يضع أحداث مذكراته هذه وفق تسلسلها ألتأريخي بسبب حجم مساحاتها الرمانية والمكانية وتعقد تداخلاتها بجانب تناقضاتها وغرابة وحساسية الأعنف منها..لذا كانت أسماء مسرحياته هي الفاصل الأبرز بين الأحداث وبها يمكن الاستدلال الى زمن وقوع الحدث الذي هو نفسه وقت تأليفه لتلك المسرحية وهي سنوات وعنوانات معروفة لدينا لشهرتها أولا وتداولها ثانيا.

"إن المسرحيات تتحدث عن نفسها.. " جملة يكررها ويليامز بصيغ مختلفة فهو لم يرد الحديث او الاستذكار هنا الكتابه عن المسرح وفن المسرح وهذا ما يميز هذه المذكرات عن مثيلاتها فعلا..فهو يقول: " اعتقد أن هذا الكتاب أشبه بتنفيس عن مشاعر تطهرية بالذنب...في الواقع لااستطيع أن أؤكد لك أن هذا الكتاب سيكون عملا فنيا ولكنه حتما سيكون عملا طائشا،بما انه يعالج حياتي الراشدة.. وطبعا كان في أمكاني أن أكرس هذا الكتاب بمجمله لنقاش فن المسرح،ولكن أما كان ذلك أمرا مضجرا ؟.. أخشى انه سيضجرني حتى الموت،وكان سيغدو كتابا قصيرا، قصيرا،لا تضم كل صفحة منه إلا على ثلاث جمل ومساحات هوامش واسعة جدا.إن المسرحيات تتحدث عن نفسها. "

إن هذه المذكرات جاءت لتؤكد حقيقة أن المبدع الحقيقي لا يجيد الحديث عن منجزه الإبداعي ذلك أن الإبداع المنجز هو الذي يتحدث عن نفسه وان حاول - أحيانا - صاحبه أن يتحدث عنه إلا أن للإبداع حديثه الأصل.. فهذه المذكرات كانت بمعزل تام عن منجز كاتبها الإبداعي إلا ما يمر ذكره عن مسرحية ما، لارتباط تلك المسرحية بحادثة استذكارية تكون لها علاقة مباشرة بموقف معين وبحدث سابق اقتضى التوقف عنده.

"إن كل العلاقات الحميمة تتحول لاحقا الى قصائد جميلة.. " يقولها ويليامز وهو يسرد الكثير من علاقاته الحميمة فعلا مع كبار الممثلين والممثلات، المخرجين والمنتجين والكتاب وغيرهم الكثير جدا ممن جمعتهم أيام صداقة عمل وإبداع وسفر وسكن في فنادق في مختلف المدن حيث تقتضي الحاجة والمعيشة وحيث يتم عرض مسرحية جديدة لويليامز او حيث البحث عن ممثلة او ممثل جديد لدور جديد.. فنشير الى بعض ممن يذكرهم وليامز في مذكراته أمثال: ( آنا مانياني، ممثلة إيطالية سينمائية ومسرحية ) و(سكوت فيتز جيرالد، روائي اميركي شهير) و ( بول باولز، روائي ومؤلف موسيقي اميركي ) و(اليانور ديوز، ممثلة إيطالية ) و(سارة برنار، ممثلة فرنسية ) و(وليم انج، كاتب مسرحي اميركي ) و ( ليونارد برنشتاين، مؤلف موسيقي وقائد اوركسترا اميركي) و(فيفيان لي، ممثلة بريطانية ) و(مارلون براندو) و ( نويل كوارد ).. هذا الى جانب لقاءات ويليامز مع اشهر الكتاب والروائيين أمثال همنغواي و سارتر وسيمون دوبو فوار.. كذلك مقابلته لفيدل كاسترو بعد انتصار ثورته وتحديدا بعد أن لاقت مسرحية (قطة على سطح من الصفيح الساخن) نجاحا عالميا.
ولقد افرد ويليامز صفحات متعددة عن علاقته بالمخرج المسرحي إيليا كازان وعن كيفية تبنيه إخراج وإنتاج أهم مسرحياته، فيخاطبنا ويليامز بالقول: "أرجو أن تتذكر أيها القاري.. إني قادر تماما على أن أكون مجحفا. إنني لست مجحفا عن عمد لكن اعتقد انه لا احد عرف قط، باستثناء ايليا كازان، كم كان عملي مهما بالنسبة إلي واني تعاملت معه على هذا الأساس - أم هل أقول مع مؤلفه - بالتعاطف الوجداني اللازم.. "وفي مكان آخر يدقق ويليامز في وصف عمله وعلاقته مع كازان فيقول: "لقد فهمني كازان فهما مذهلا بالنسبة الى رجل مثله تختلف طبيعته على طول الخط مع طبيعتي. لقد كان احد أولئك المخرجين النادرين اللذين يريدون من الكاتب أن يكون متواجدا طوال فترة التدريبات، حتى أثناء تلك التي يجمد فيها العمل. وبين حين وآخر كان يدعوني الى الصعود الى خشبة المسرح لكي أبين إحساسي بالطريقة التي يجب بها أداء جزء ما.. "
وتجدر الإشارة الى لجوء ويليامز الى الأسماء المستعارة لعدد غير قليل من أصدقائه وصديقاته تحاشيا للإحراج على حد تعبيره، ذلك لان الذكريات المسرودة فيها الكثير من الخصوصيات التي تتعلق بذات الشخص وكرامته وربما سمعته الاجتماعية والأخلاقية كذلك.
أما ذكره لمسرحياته العديدة بسنوات تأليفها فوجدنا أن هناك عدد من هذه المسرحيات لم تترجم الى العربية لحد الآن في حين أن هناك مسرحيات ترجمت أكثر من مرة، فمن هذه المسرحيات نشير الى: مجموعة الحيوانات الزجاجية / عربة اسمها الرغبة / قطة على سطح من الصفيح الساخن / النوع المتملص / شموع في الشمس / القاهرة شنغهاي بومباي / صيف ودخان / التطهر / وشم الوردة / ليلة الاغوانا / مملكة الأرض / معركة الملائكة / صرخة.
بعد كل مرحلة يتذكرها ويليامز من أولها الى اخرها يحاول أن يوجه نقده لتذكره لها فنراه يقول: " كم من أشياء تافهة يجب تدوينها في سجل الحياة، لا بد أن هناك الكثير فيما بين السطور مما هو أجدر بأن يحفظ في الذاكرة، لكنه ولسبب مبهم يبقى في حالة ضبابية في حين يعود السطح الخارجي للتاريخ بوضوح - اعني بوضوح نسبي - الى الذهن. "
لم يفكر ويليامز لحظة أن يتخلى عن كتابته للمسرح، لأنه سيصاب حتما بحزن بالغ اشد عليه من ذاك الحزن الذي يثيره الموت.. لقد وجد في المسرح وفي احتراقه للمسرح ملاذه الدائم والأوحد والابقى.. والا فماذا يعني أن تكون كاتبا ؟ يجيب ويليامز: " يعني أن تكون حرا.. وان تكون حرا.. يعني أن تنجز حياتك.. " فأنجز ويليامز حياته التي أصيب في أخريات سنينها بسرطان الثدي الذي نادرا ما يصيب الرجال.. ولاشيء بعد كل هذه الأشياء وغيرها الكثير سوى الانتظار، وحتى أثناء هذا الانتظار يصر ويليامز على متابعة العمل والبحث عن أصدقاء جدد..لننتهي معه بعد هذا السرد لأبرز أحداثه الحياتية ووصفه بأفضل ما استطاع وبدون ترجيعات قانونية شخصيات حياته الدرامية.. الى موقفه من الموت بقوله: " إن كل فنان يموت ميتتين،ليس فقط موته كمخلوق مادي وإنما أيضا موت طاقته الخلاقة، فهي تموت معه. ".
يقع الكتاب في 351 صفحة من الحجم الكبير، مسند ومدعم بالعديد من الصور الفوتوغرافية التوثيقية التي تجمع مؤلفه مع العديد من المشاهير والأصدقاء فضلا عن صور لبعض مسرحيات ويليامز التي أخذت شهرة عالمية واسعة.. فهو كتاب جديد بالقراءة.

www.mhhabeeb.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف