بطاقات مكابدة لوديع سعادة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1-أطلال مقعد راكب غادر الباص
الأعمال الفنية كلها تقريبا مصنوعة من لمعة المحاكاة، أو هكذا يرجعها أميل سيوران إلى ارتعاشات محفوظة ونشوات مسروقة، والشعر الجدير بهذه التسمية تحديدا، يبدأ بتجربة الاصطدام بالقدر. ومن هذا المكمن الجدلي يمكنني التماس بمنجزك يا وديع، فمجموعتك "مقعد راكب غادر الباص" مثلا ليست مجرد نصوص شعرية تستمد جذوتها من تجريد الحياة، إنما هي الحياة كما حدثت منصّصة، إذ يبدو أن ما استقر في وعيك ولا وعيك من منظر والدك هيكلاً عظمياً محروقاً في الباص، بقدر ما سكن نصك، لم يغادر ذاكرتك، فمنذها وأنت تلوح بيد مملوءة بملح قليل "وداعًا، إني أشيخ".
للنصوص كما للأماكن تاريخانيتها أيضا، فمنذ تلك اللقطة المفزعة، تولدت روحك الشاعرة كإبن مفجوع، لتحاكي ما زلزل روحك، أو لتعادله باللغة، حيث انبثق سؤال العلاقة بين الموت والكتابة، على اعتبار أن الموت هو تجربة الكائن العمودية، وهكذا صارت مفردة "الغياب" واحدة من تعويذاتك الشعرية، بل أظنها "الخلية المفسرة" بالمعنى النقدي لجانب عريض من نصوصك، بالإضافة إلى سلسلة طويلة من المفردات المنبجسة من تداعيات الحدث.
على ايقاع الابتهال الشهير "كارمينا بورانا" لكارل أورف، وثّقت يا وديع رعب ذلك المشهد في مجموعتك " مقعد راكب غادر الباص "بعبارة نعي حزينة" شبطين، كانون الثاني 1962... أبي هيكل عظمي محروق يسند ركبتيه بيديه .. وكنبة يخرج منها الدخان " مع احتفاظك بمسافة متوهمة، كما تنم نصوصك، بين ما تيقنّته كرؤية، وما يمكن أن يكون قد خلّفه ذعر اللحظة من خداع بصري، كأنك تعيد تمثيل الطقس بعبارات عبثية لا تخلو من حس قدري، لتحتوي الحدث، من خلال ربطه بالفاعل بنزق لوترياموني " وداعًا أيها الله، إني أمشي ناظرًا إلى قدمي، ذاهبًا إلى المقهى للقاء الأصدقاء ". أو هكذا يميت الانسان الارتكاسي الإله، وربما لهذا السبب بقيت مضطرا لتعلم النسيان، ومقاومة حس التلاشي، تنتزعك حركة دائرية إذ لا تفر من ذلك المشهد إلا بالعودة النصية والشعورية إليه.
حدث بهذه الفظاعة يتجاوز ما التقطه بصرك إلى أبعد نقطة في الروح، حتى أنت يا وديع، لا تدري إلى أي مدى انغرس فيك، ولا أعتقد أنك تعرف إن كنت تستعيده لتمكيثه في ذاكرتك الجريحة أو لطرده منها، فمنذ تلك الرّضة الوجودية الباترة وأنت تساكن شخصاً التصق بالحجر. تترنح في تجوالك الهاذي داخل نص تعتقده حياة بديلة. مبهوتاً بهول الحدث أنت. تتلمس أطلال " مقعد راكب غادر الباص " وأظنك تحاول الإقامة خارج النظرة، بعيدا عن " اللحم المحروق ". تنادم الكائن الذي " شعر أن حياته أيضًا كانت رقيقة معه ذاك المساء. مشى معها إلى أقرب حجر، وقعد " وهكذا صرت رهين الكتابة عنه، ففي " رتق الهواء " استدعيته مرة أخرى بما يشبه الإستجداء " بودّي أن أكتب عن حجر، لا يتحرَّك أبداً من مكانه .. وعن شخص يجلس مطمئنّاً على ذاك الحجر " كأنك تتماثل بالشواهد الخرساء، وتتمثل عيّها عن النطق، إذ لا تقوى تلك النّصب على قول شيء ذي بال.
هكذا أقمت يا وديع في " الشعر " مدفوعاً بارتعاشات ذلك الفقد المبكر. وكما تفجعت برثاء والدك في ذات المجموعة حيث " كان يقعد على الدرجة السفلى، ينظر إلى الثلج ينزل أمام رواقه " عدت في آخر مجموعاتك الشعرية " رتق الهواء " لتبكي مرة أخرى على أطلال " الدرجة السفلى التي قعد عليها ". وكأنك لا تريد مغادرة تلك المصطبة، بل ازددت إمعاناً في شخصنة ذلك الحدث، لئلا تبتعد عن مناخك الشعري، أو ربما لتؤكد على طقس كتابي يمكن أن يكون فيه الشعر وبه جسراً للتصالح مع الحياة أو ما تسميه الكتابة عن " موت التخيُّلات، عن الصرخة التي لا تعود إلى صاحبها، والصوت الذي لا يبحث صاحبُه عنه ".
دخان المقعد المحترق ذاك هو الذي ولّد عندك رغبة يائسة لمحاورة الحياة من جانب واحد. أجل، محاورة فلسفية تشبه هاوية باسكال الأفقية للتعاطي مع ميراث الألم واليأس ومحاولات التسامح المتكررة مع طابة كبيرة ومحيرة اسمها " الأرض " وقد استطالت أكثر مما ينبغي، وافترضت أن بمقدورك العودة بها إلى ميلودية استدارتها، إذ لا تمتلك في ذلك التحاور مع العدم إلا لعبة " كلمات " كاملة، تبرأت من أوهامها في " نص الغياب ".
بالكلمات، ومنذ أول شطحة شعرية، وأنت تحاول " الخروج من المعنى " والدخول في اللاجدوى، أو الإقامة المجازية في " غبار " أو " هواء مستعمل " أو " غيمة " أو " بين ضفتين ". أوليست هذه هي معادلاتك اللفظية ومجازاتك اللاواقعية يا وديع؟ أوليست هي حيلتك أو ملاذاتك اللغوية!؟ أوليست هي عناوينك!؟ اغتراباتك!؟ سيرتك حتى!؟ وفي المقابل، أليس هذا هو الشعر الذي يمكن أن يكون هامشا بديلا عن الحياة، أو ربما وسيلتك للتحكم بمصيرك!؟
المهم أنك بعد فاصل مرير من محاولاتك الفاتنة لتنصيص الحياة، ومراودة ذاتك المتعبة بوصل ضفتين بصوت، أو تعليل نفسك بلحم أحرف، أو إكمال كلمة، عدت لتعترف بعطالة " الكلمات " كبديل عن الحياة، وكتبت إقراراً مجازياً فيه من الخيال اللاذع ما يستفز الحواس " أعترف الآن بأنّي اخترعت أكاذيب كثيرة من الكلمات. ما قلتُه وما كتبته لم يكن سوى كذب. ابنٌ لقيطٌ لمخيَّلةٍ مجنونة. ما قلته وكتبته كان خيانة لبراءة الكلمات، هذه التي أطالبها بالبراءة وأمارس العهر معها. لقد ظلمتُ الغيم. وظلمتُ ريش الطيور ونشارة الخشب. ظلمتُ الشجر حين قلتُ يثمر من النظرات، والجبالَ إذ ألبستُها أقداماً. وظلمتُ الموتى حين أعدتُ عظامهم إلى الحياة، والحياةَ حين أعدتُها إلى الموتى " لكأنك تتوب عن جمالية فعل الإستعادة.
ولكن أحقاً تنازلت يا وديع عن كلمات يكون مجرد استعارتها خيانة للحياة الحقيقية!؟ لا يبدو الأمر كذلك. فكل ما في الأمر أنك لم تعد تؤمن بمفردات لا يمكن بموجبها " استعادة الجمال الذائب ". عبارة واحدة من عباراتك الفطنة أعادتك لنص الحياة " الأشياء ضحايا النظرات " قلتها ايماناً وحباً بالكلمات التي قد تهب حياة " أحببتُ هذه الجملة ولذلك أكرّر كتابتها. على الكلمات التي نحبّها أن تبقى دائماً في أفواهنا وأن نعيد كتابتها مراراً على الورق. علينا أن نردّدها دائماً لأنّها تمنحنا شعوراً بأنَّ الحياة لا تزال فيها كلماتٌ حبيبة وبأنّنا لا نزال نستطيع قول شيء نحبُّه. الكلمات التي نحبُّها تجعلنا نشعر بالكرامة وبعزّة القول. الكلمات التي نحبُّها تجعلنا نشعر بأنّنا حقّاً موجودون ".
هكذا هي عباراتك يا وديع، مشحونة بتفاؤل حزين، أو مشوبة بجذل داخل المأساة، كما يصف نيتشة ذلك الإحساس للذات المفجوعة بمعنى الحياة. الذات المستنقعة في عمى الرؤية ولا تريد التسليم بفكرة أن الحياة بمجملها "نتاج نظرات" نرسلها للقبض على اللاشيء. الذات التي تكذب حينما تزعم أنها تتسلى، فيما هي تتألم أشد الألم. الذات التي يتساوى صمتها وكلامها ولا تريد المغادرة دون أن تقول شيئا. ذاتك التي ترهقها يا وديع في محاولات سيزيفية لـ "استعادة شخص ذائب".
www.m-alabbas.com
m_alabbas@hotmail.com