جديد شبانة: الطفل اذ يمضي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
استباق النقد وحساب العمر بعين الكهولة
بيروت من جورج جحا(رويترز): في مجموعة "الطفل اذ يمضي" يصوغ الشاعر والكاتب والصحافي عمر شبانة مفهومه الشعري "شعريا" بطريقة معينة ويجعل كلامه مقدمة يقطع بها الطريق على من يريد توجيه النقد "شكليا" الى نتاجه وتصنيفه بطريقة الية. مجموعة شبانة الاردني "الفلسطيني" -على اتساع معاني هذه الكلمة- تأتي سجلا للعمر وللزمن الهارب من خلال عيني كهولة تقف لتنظر الى الماضي امالا وخيبات وفواجع عامة وخاصة وكأن عمر يقوم بجردة حساب للعمر الراكض والايام الافلة. كلماته حديث عن الطفل والوطن وقد ابتعد الاثنان في الزمان والمكان.. فالوطن "ابتعد" جغرافيا او ابعدنا عنه.. والطفل غاب فينا وكاد يصبح في عالم النسيان مع احلامه بعد ان ارتدته كهولة مفجوعة فارتسمت عليه تقاطيع مرة مقطبة وشيبا يتحدث عن نهايات طرق اخذة بالاقتراب.
شبانة لا يحصر الشعر في اطار او طريقة تعبير محددة.. فنجده يتنقل بين طرق مختلفة من التقليدي "المعدّل" الى شعر التفعيلة تعددا في الاوزان والقوافي.. وينتقل -حتى في القصيدة الواحدة احيانا- بين هذا وذاك كله كما يستعمل السائق جهاز نقل السرعة في السيارة متجاوزا عن عمد كما يبدو واضحا بعض تقاليد الوزن التقليدية الصارمة.
الكتاب الذي صدر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" جاء في 139 صفحة متوسطة القطع. يبدأ الشاعر بمقدمة شعرية كأنه يقول للقارىء الناقد.. "اعرف ما ستقول" وكأنه يوجه الكلام الى بعضهم ممن يعتبرهم محدودي النظر ويتميزون بالضحالة قائلا "انكم لا تعرفون ما هو الشعر." يقول في المقدمة "يقول عليه نقاد../ قصيدته غنائية/ ونقاد حداثيون../ رثائية/ ونقاد اشد حداثة سيؤكدون../ حديثة.. لكن.. مباشرة/ ونقاد.. معلّقة تصور ذاته/ وتقول سيرته/ ../ وفي المقهى يقول شويعر/ هذي القصيدة جد تافهة../ عمودية."
قصيدة "الشاعر" او "الطابق العاشر" يبدو فيها المكان اقرب الى وطن اخر بديل او منفى يتراءى للقارىء اشبه بمحطة اخيرة او ببرج مراقبة يطل على العمر الماضي وايام الاحلام ومسقط الراس وملاعب الطفولة والصبا.. وهو الان مهجع لكهولة والام وخيبات تملا كأس الشاعر وتسكن لقمة طعامه الجافة. يقول "هنا../ في الطابق العاشر/ يقول لروحه الشاعر../ بدايات هي الدنيا/ نكون هنا/ (واين هنا .." ونرحل في ال..هناك) وفي هناك/ كأنما ننسى/ وننشغل".
ويمضي الى ان يصل الى القول "هنا الشاعر/ يطل من الخليج/ على نهايات الخليقة/ او/ يطل على خرائب عمره/ وعلى جبال النحل في اغواره/ ويطل من عليائه/ فيرى/ هنا صندوقه الاسود/ يرى اسراره/ وفضائح العتمات/ تتبعه/ وتسرق ظله/ ويرى../ هنا احلامه/ ورقا على ريح بلا طائر.../ هنا/ في ليله/ في الطابق العاشر/ ينام الذئب منفيا/ ينام الكهل ذئبيا/ ينادم ليل غربته/ ويشرب كأس منفاه/ ويرسم من مدينته/ شظايا ذكريات/ او ظلاما ساطعا يكتظ بالشهداء."
وينتقل الى القول "كهل/ يحاول ان يعيد طفولة/ ويعيد اشجارا/ وحقلا كان يلسعه بشمس الغور/ كهل يستعيد بيادر انتهكت/ على ايقاع بحر ميت/ وصدى فدائيين عند النهر/ كهل ناهز الخمسين/ كهل لا يحس كهولة في الروح/ بل في الذكريات/ كهولة تنمو كما الشجر..."
وهذا الطابق هو مكان عمله في غربة ليست بعيدة و"غريبة" جدا. يقول عنه "هنا/ في الطابق العاشر/ هنا طفل يخبىء في حقيبته/ دفاتر من رصاص الفدائيين/ فتى حمل الرسائل/ من مخيمه الى منفى المكاتب/ حالما بهواء قريته وراء النهر/ يتبع نهر افكار/ ويسبح في مياه العزلة السوداء/ هنا رجل/ تشرد في العواصم/ حاملا وهما جميلا/ في حقائبه اسمه.. الثورة."
حامل الثورة الوهم هذا الضارب في بلدان الارض حكم عليه بألا يستقر "وضلّ وضاع/ ضاع وضلّ/ حتى ضاقت الدنيا بقامته/ وصار فضاؤه حفرة/ هنا في الطابق العاشر/ هنا تتجمع السنوات يوميا/ هنا كهل/ يجمّع ذكريات العمر/ جدات واحفادا/ يرى ما لا يرى الناس..." ويصف نفسه فاذا بنا نجد في شخصه كل معذبي الارض وشعرائها وفنانيها ومناضليها وكل من حمل الالام والامال الكبيرة. والى مكانه الحالي "اتى الشعب الفلسطيني.../ اتى ابن مخيم الوحدات/ وابن مخيم البقعة/ هنا اجتمعوا/ هنا/ في الطابق العاشر/ جلست انا/ انا الشاعر."
ويصل في القسم الاخير الى القول "ارى شبحا نحيلا غائر العينين مثلي/ يشرب الفودكا/ وتأمرني اصابعه/ فاجلس حيث يجلس/ اشرب الفودكا/ ونهبط لست ادري اين/ ولكني اراني في مرايا روحه/ وأراه في روحي/ .../ انادي.. انت نوح العصر/ يصرخ.. انت نوح العصر/ اصرخ..انت ميلادي/ فيصرخ.. انت موتي/ ثم نصرخ../ انت ميلادي وموتي/ يا اخي في الطابق العاشر."
اما قصيدة "الكهل وحيدا" فتشكل ذروة الالام والخيبات. تصويرية مؤثرة تنقل من خلال يوميات الحياة واشيائها المادية البسيطة مرارة المفجع في حياة الانسان او في حياة "هذا الانسان". يقول "يصحو في الرابعة صباحا/ يتأمل كهلا في كرسي.. يتأمل في نصف الكاس الباقي من ليلته/ في الخبز اليابس وبقايا بيض مسلوق.. في نصف السيجارة مهروسا/ يتأمل في العينين الذابلتين لكهل الكرسي/ ويقرأ في العينين الذاهلتين/ اسفار الموت القادم."
انه يقرأ في ذلك حكمة الشرق وفكره في الهند والصين كما "يقرأ اهرامات/ وحدائق في بابل/ جلجامش في البرية يبحث عن عشبته السوداء/ حصانا خشبيا في طروادة/ اسفار الموت التتري/ وانهار الحبر الاسود في دجلة/ يقرأ.. عري الانسان."
في قصيدة "من اول الدنيا" الامور والاشياء حتى تلك التي بدت متناقضة تصبح متساوية. "في نقطة ما/ يلتقي/ متهور وجبان/ او يلتقي اقصى اليمين/ على شواطىء/ في نهايات اليسار..."
اما الخلاص فهو في المرأة والحب. في قصيدة "انا وهي" المهداة الى "ناديا" يقول شبانة "لنا/ يا حبيبي../ مساء جميل لنا/ ولنا في غد/ غده الاجمل/ لنا شجر السيسبان/ على حافة الغور يغفو/ هو الشجر الاول/ ولي من يديك/ ورود/ اقبلها/ منذ عشرين عاما/ ولا.. تذبل."
ويتحدث عن بعد وغياب مفجعين سيطرا على عالمه "عشرين عاما/ نحاول ان نرسم الكون/ من حولنا/ في حقول الجنازات/ في سهر الورد/ .../ لم يكن ليل عمان نهرا/ وما كان في مائها شجر/ او نوارس/ عمان قاحلة/ وبلادي تبتعد/ وانا/ قمر افسدته الكحول..."