عالم الأدب

تحت البركان لمالكوم لوري

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الروح الميتة!

يخترق القنصل فرمان جيوفري، بطل "تحت البركان" كثافة التباس الصهارة الحاد أسفل بركان وجودي نشط وخامد في الآن نفسه، في اطراد غير منثن، متعطش في تصاب غير محترس إلى التهام زبد متوحش موار لقسوة حقيقة الخسارة، غير القابلة لثمة تعويض ممكن. ثمة إذن لدى فرمان مسار ما، في علائقه الحميمة مع الزجاجة وفي ارتباطه معها ودعوى تشبثه الدائم بتشرب حرقة لذتها. ليست رواية مالكوم لوري (أعتمد ترجمة ستيفان سبرييل إلى الفرنسية) مجرد سرد بسيط ومضجر، بل هي في واقع الأمر رواية بحث غير منته عن حقائق ما، وعن رغبة سامقة إلى إرواء عطش أسئلة ملتبسة. لقد مضى الحكي في هذا النص إلى أقصى أقاصيه. مر عبر قلق الحب والسياسة وتم نفث مفعول الكحول فيه، هذا الإكسير الذي مضى القنصل إلى درجة استدراجه كأداة أساسية بل أكيدة للمعرفة. معرفة ماذا إذن؟ وكيف ذلك؟ ثمة أمر آخر لابد من الذهاب بعيدا لسبر كل ممكنات تحققه.
إن تجربة مالكوم لوري الشخصية وانطباقها حد التماهي مع تجربة بطله فرمان، تثير أسئلة أكبر من مجرد الحديث البسيط عن معاقرة عادية لخمر ما. إن لوري أو فرمان اختار أن يدخل من خلال السكر إلى تجربة وجودية خاصة لها كل تمفصلات عطائها وافتراقها مع كل الوسائل الأخرى الجديرة باحتمال ورود موافقة أكيدة مع أية رؤية سليمة للوجود، بمعنى احتمال، مرة أخرى، وجود مصالحة، ذات نفع، مع الوجود الأصم الدافع بقلق الفرد إلى نوع من شفا الهاوية لما لم تكتمل لديه كل وسائل الامتناع عن الاندفاع أو التراجع عن ثأر خاص للجسد أو للروح.
فالكاتب يحذرنا منذ البدء بأن كتابه ليس سوى مجرد كوميديا سكرانة، بمعنى أن كل الارتجاجات الخاصة بتعنت الحياة ضد السيد فرمان وانفتاح الحب الوهمي له، وكذا كل التخمينات السياسية وبؤس الواقع المادي. ثم تنضاف كل تفسيراته المضببة بفعل "التيكيلا" أو "الميسكال" لواقع السياسة في العالم.
لربما يندفع البعض إلى استدراك كون بطل الرواية مجرد بورجوازي منهزم آذته قبل كل شيء ممكنات وجوده المادي في سياق خاص، إذ عزلته مثبطات لصيقة بمستواه الاجتماعي وبتربعه على مقام آخر مخالف لمن يتخبط حوله في بؤس تام.
فهل الكحول هي التي دفعت بفرمان إلى اليأس؟ أم أن الحب هو الذي دفع به إلى الكحول ومضى بعد ذلك إلى أمور أخرى أشد قسوة من كل دواعي السكر وغيرها.
إن الرواية تتموقع في الحدود الخطرة، أقصى التخوم الأكيدة بين علائق الشخوص وبين الزمن والمكان. إن ما يشكل جوهر هذا العمل هو الاستهتار الواعي بقيمة الزمن وبقيمة الوعي المشرق في تفحص مصداقية المنطوق، إذ طالما تراءت أشياء كثيرة للقنصل وتهيأ له أنه إنما يسمع أشياء دون أن ينطقها الشخوص الذين يسندها إليهم ودون حضورهم المادي آونة أخرى.

هو ذا ما يثير الفضول حقا، كلما تساءل السيد فرمان: هل حقا فلان نطق بكذا؟ أم فقط هي مجرد هستيريا منفعلة تثير قلق لحظة الوعي وغبارها الخاص.
فرمان جيوفري إذن واقع تحت ضغط لحظات قصوى، وليس الأمر في أصله راجع إلى الكحول وإنما إلى أمور أقوى وأشد إذ البحث عن الحقيقة في كل تشابكاتها لن يؤدي إلا إلى تيه ما، أشد قسوة وانحدارا إلى لجة الهوس والهيستيريا منه بالتوفيق في القبض على لمعان أخاذ قد يتيح فك كل تعقيدات الواقعة الوجودية الصرفة هنا. يبدو فرمان في البدء خلال لحظات سكره أكثر احترازا وأكثر اقتدارا وصلابة وهو يحتسي بعض الجعة مختفيا في بداياته كل مرة في صفحات كتاب.
إن الأزمنة والأعمار وكل محطات الحياة تتشابك وتفقد إسمنتية وضوح معالمها، تختلط إذن وتمحي الفروق بين الماضي ولحظة التلطخ الآنية وما يمكن أن يندفع في قدرية سوداء من فوهة الآتي، مثل الحمم البركانية التي تتأسس في النص كإطار دال على احتمال الكارثة ودنوها الفظيع في استعداد غير مشروط للانقضاض على ما تبقى من الحياة.
منذ الصفحات الأولى، أي في البدء، كانت الزجاجات وكانت الأقداح والحانات والرغبة الصارخة في الإمساك بقطرة الويسكي.
إن السيد فرمان، في الركح التي نصب له مالكوم لوري والممتد عبر ساعات قليلة لنهار محموم كعالم سردي مفتوح على كل غنى تجربة حياتية وأفكار مهولة عن الحياة والموت، قد قُرص في عز إيمانه، أي استشعر الخيانة وحدّتها لأنه قد عرف الحب واحتاج إلى كل المسار الملتوي في ألم كي يدرك أن نسبية الحب والجمال تمنح في واقع الأمر ثمة مرونة بخصوص الأرثوذوكسية المفروضة على انفتاح القيم على كل ممكنات تداولها وإن صادف أن انقلبت إلى عكسها وصارت الخيانة جميلة مثلا.
لذا شعر فرمان بنوع من الانعزالية واكتوى بما كان بشاعة سوء الظن الذي رصده عاليا وساء بذلك ارتياحه القلق. فماذا يلزمه إذن فعله بعد أن أساء إليه السيد لاغييل، هذا الفرنسي الذي أراد زحزحة العالم من خلال السينما، بعد أن ولغ هكذا في ينبوع إيفون التي طالما ظن فرمان أنها له وحده وأن حصانتها دون كل ريب.
حكومة المملكة العظمى هي أيضا أرادت سحب قنصلها من أرض المكسيك بسبب تعقيدات أخرى أقوى من كل متاعب القنصل. شيء آخر، هو أن القنصل، يرغب في إنهاء كتابه الذي ما يزال متعثرا في متاهاته، ماذا يتبقى إذن في كل هذا الخضم المؤلم لهذه الحياة المزدحمة بكوارث: القنصل معروف أنه يحب كثيرا أن يغرق في لذة الكأس، لذلك كانت الطريق أكثر من معبدة إذن لمعانقة قوة الميسكال في انسداد المأزق.
"فكيف تريد أن تهزم الشيطان في أعماقك إن لم تتحول أنت نفسك إلى أكثر من شيطان؟" مثلما كتب كازانتزاكي.
لذا يرى لوري/فرمان" أن المرأة لن تفهم أبدا عذاب وتعقيدات، بل أهمية حياة سكّير" (ص 164).
لربما كان فرمان قاسيا تجاهها، هذه المرأة، التي فرق بينهما ذلك الباب الأشد شراسة والأشبه فعلا بباب لكونه مغلقا. فلماذا إذن يقبل أن يسيء إلى الزجاجة أيضا بعدما أساء إلى المرأة؟
صحيح أنه يعلن أن "لاشيء أشد فظاعة في العالم من زجاجة فارغة" (166). لن نستشف فقط مجرد شعرية غير مقصودة في رؤيا لوري ولكن تأثيثا خاصا لعالمه الروحي وتوصيفات مطابقة لحركية أحاسيسه، من خلال الطبيعة والأشخاص والأشياء حواليه. فالقلق المندفع الذي يهجم على نفسيته وهو في غرفة إيفون شديد الضغط، ما دفعه إلى المشي والاتجاه نحو الباب كي ينفتح على فضاء فارغ فاره في أبهته إذ يسنح له منظر زجاجة ويسكي ما تزال في مكانها حيث تركها في الحديقة.
وإن كانت الثمالة تنداح دون جموح من خلال تراجيديا لوري فإنه لا يفوت أبدا أية لحظة كي يرصع بل يضيء سوداوية تعبها الثقيل بإطارات تأملية خاصة إن لم يلذ مباشرة باعتباطية لا معقولة لتأثرية الطبيعة، إذ كثيرا ما يبحث عن تطابقات دالة بين حركية الطبيعة وحيواناتها بل في جمودها عما يمنح إضاءة مشرقة لحالة ما، قد يكون بصدد تناولها في نصه، مثلما ينتقل مباشرة بعيد إثارته لمعاناة القنصل وسقوط الوحشة في مدار نفسه، إلى تملي فكرة كون فراش يرفرف ثمة في مكان ما في اتجاه علو البحر (ص 167).
لربما كان إذن ذلك الاستهتار بمواضعات حالات العقل في ثقافة راهنة لوسط اجتماعي، ما جعل من خطاب مالكوم لوري يتأسس على شعرية واضحة وعلى بناء بلاغة مخالفة، تصل إلى انخراط حديث في الإرث العبثي بعين أخرى.
لمح القنصل مباشرة منذ البدء إلى كونه في حالة تدمير متقدمة بمعنى أنه لا يعمل سوى على تدمير ذاته وإن كان في هلوساته المعتادة يذكر بأن ليس ثمة من معنى لأن يحس بأنه مدمر لذاته وبأن الأمر مجرد نكتة مرة ليس إلا. هاهو يتحسس أصابعه ويحس بانتصار هام إذ يتأكد من كون يديه أكثر اتزانا وبأنه ما يزال يشرب وأنه مع ذلك يرى في قرارة نفسه بأنه يتحسن لربما أكثر من اللازم.
الكحول أفروديتية، إذ تؤجج الشهوة وتجعل السرير أكثر آمانا من جهة تحقق فروض الجنس والكحول أيضا غذاء، فكيف تفلح فحولة ما دون غذاء؟
"إن إرادة الإنسان لا تقهر وحتى الإله نفسه لن يجرؤ على دحرها" (ص 176).
يصل القنصل إذن إلى خلاصات تتأتى على شكل هواجس مهووسة بنوع من النصح المقترح في صدق خالص من خلال أطراف طبيعة تحيط بعالمه الخاص، بواسطة عالمها المنذر بكثير من الأحاسيس التي يتخيل شبه مرآها الفيزيقي بما تهجس به تلك السحابات القليلة التي تركض في سماء صباحية خلف قمر معقوف وذابل، تقول: " اشرب طيلة الصباح، اشرب طيلة النهار، إنها الحياة!". أي تصدع إذن في حالات الشعور ذاك!
لم تتحول الطبيعة هنا إلى لوحة ميتة بل إلى اشتغال خاص وانتظام هوامش فزّاعة إلى سدرة وعي فرمان.
"كذلك في ارتفاع هائل، ثمة بعض كواسر في انتظار (...)" ص 176. ويسقط القنصل في تعب فظيع ليبتلعه نوم ما.
تأملٌ آخر، إذ يرى في احتراق لفافة تبغ انطفاء الإنسانية التي تمضي إلى نهايتها بأكبر سرعة محتملة (ص 188).
ويذكر كذلك لإيفون، مادامت الحياة مجرد دولاب نرتب فيه أشياء ماضية وأحاسيس نخشى عليها من اندلاق، يسألها عن دراجتيهما وعن كراسي مقهى روبنسون ضاحية باريسية جميلة، المنتصبة في علو الأشجار. ماذا يحدث لكل الأشياء التي لن نقدر على إيقاف تحركها الحثيث تجاه تنكرها لنا ولملامحها التي نعرف أكثر.

كذلك يصعد قرنا ماعز في لحظة شعورية مضببة من على حاجز في طرف حقل حيث يرعى عشبا، لقد صعّد فيهما نظرة ميكيافيلية، حيث تفحصهما دون أن يمضي أبعد من ذلك.
وداهمته في أزمنة أخرى رغبة قارصة في احتساء كثير من البيرة، هذه البيرة التي توحي بطعم صدئ قريب من الطين. هذه البيرة المؤذية في تدمير جميل.
"لكن لماذا يشرب؟" (ص 214)، كان ذلك السؤال الفجائي الذي رج هدوء إيفون ودخل بها في متاهات الانفصال ومغادرة اللحظات المشحونة باللاجدوى وبهدر الوقت كما تقول.
كثيرا ما تصمد مثل هذه الأسئلة دون تسرب ممكن لمعرفة بخصوصها. "قد ينقطع عن الشرب لدى عودتك" يقترح عليها "هيو" دون أن يمضي في ملابسات ذهاب فرمان جهة التشظي: "ولكن إذا كان ثمة رجل يحتمل الكحول جيدا فلما لا يشرب إذن؟"
ليس لهذا الأمر إثارة لتنفيس خاص لقلق إيفون وضجرها من التمزق الوجودي لفرمان، ولكن شيئا آخر فيها يتلافى قراءة تراجيديا الجرح.
لأنه لا يشرب الماء فهو يشرب وعود الرقة، وعود رقة الضياء. كيف يمكن شرب ذلك (ص 228). ألهذا الأمر نفسه ظل عطشه غير مشبع أبدا؟
الأكيد لديه إذن هو تيهه المختلف، لقد سقطت عيناه مباشرة على عين كلب، كلب ذي مرأى مألوف.
لقد انتبه إلى وجود زجاجة أخرى من التيكيلا، قد يرتوي الآن قليلا، شيء جميل أن ندرك المكان المناسب حيث نستطيع أن نشرب بهدوء دون أي إزعاج محتمل. كانت كل هذه الأفكار تشق أيضا فكره (ص 231).
ثمة إذن مدارات هلوسات مضجرة، والسيد فرمان يحاول أن ينفلت من حدتها، ليفكر أكثر في شيء أهم من كل ما يحيط به. أن يشرب، أن يشرب فقط، مثلما تدعوه كل المؤثرات إلى ذلك، مثلما فعلت السحابات في السابق، لكن ليس أن يشرب حيثما اتفق ولكن في مكان محدد وفي مدينة معلومة.
إن جار فرمان الذي يتقن أكثر كيف تتوغل الرفش في تربة حديقته أبعد من أن يفهم كيف يتحدث فرمان عن ألوهيته وقدرته الخارقة على التحدي والعراك، إذ يجابهه بأن الإله لا يشرب بالمرة قبل تناوله وجبة الإفطار! (ص 238).
إن نص لوري غير قابل لقراءة سهلة محكومة بتراتبية المواضعات المملاة في مجال التأويل. إن كتابته بالتالي شبيهة برؤيته المدهشة عن الزمن، إذ يتراءى له أحيانا بأن النهار مجرد صحراء عجيبة تترامى أمامه دون أطراف، حيث نمضي في دهشة جميلة ونضيع ضياعا، دون أن نعدم بالمرة إمكانية إيجاد ولو بعض ينابيع لارتواء أو بعض واحات تيكيلا مبعثرة هنا وهناك.
لربما بسبب الكحول أو غيرها لا ينتبه ثمة إلى انطمار روحه في لفيف من الصمت أول الموت، أشياء كثيرة تمور في الحديقة أوفي العالم حواليه دون أن ينتبه قط إلى ارتجاجاتها القصوى وانكسار صخبها على حائط مقدرته على متابعة أصوات الحياة ومشاكسات الحشرات في الحديقة، قليل من الحشرجات وكركرة الأشياء التي تفقد صلابتها ومتانتها وجوهر اقتدارها على الامتثال لقوى الطبيعة.
أصوات كثيرة تنبعث من باطن الأرض، لكن الأهم والأساسي في الأمر هوتلك القدرة الهائلة للمقاومة ضد كل عوامل الامحاء. الحشرات التي تمتلك سلطة الجناح وإمكانية بسيطة للانفلات من ثقل الطين، تحاول الهرب من قبضة النفي. حتى في مخلب القط، بين أنيابه وبؤس شاربه، ترتج الحشرة وتحاول بكل حبها لمخمل ريشها وجناحها أن تتملص من النهاية المحدقة بها. تترجرج مثل الروح الإنسانية التي تقاوم مخلب الموت محاولة الارتفاع أعلى فأعلى من على فوق الأشجار. (ص 252).
ماذا يحدث للسيد فرمان؟ هل ينتفض هو نفسه بين مخالب؟ وهل قدح البيرة الباردة في يده الحازمة ليست سوى مجرد قشة أخرى أو ارتكاس لجناح مهيض؟
تواجده المضطرب داخل حمام البيت في تشكيكية فلسفية مع البيرة وانحداره في أفكار خاصة عن تنكر ونكران كبيرين، يدفع بالمكان إلى الإتحاد بمعناه حسب بعض التهويم الموروث عن كريماس. إن فرمان لا يبحث البتة عن طهر ما ولكن عن ارتواء. الحمام ليس إذن مطهرا أو فضاء كاتارسيسيا حتى ولو بالمعنى العلماني للفظة غير قابلة للاسترجاع من التلطيخ الأسطوري.
إن الوحدة أو العزلة تستلزمان منطقيا عدم الفصل بين الزمن والمكان فتكون القسوة بعد ذلك أحد ملابساتهما. قد يكون ذلك ما يحدث في بعديه للسيد فرمان ويكون اختراقه لسواد أفكاره عن عطشه الموصوم بالذنب. إن ما يشكل غصة كبيرة في النفس هو أفكاره عن عالمه الذاتي وافتراقه المؤلم عن تقاطعاته الأخرى أكثر منه من شدة تأثير البيرة على أصابعه المرتعدة غالبا فوق محمل مقاومته أو تحديه لهواجسه الكثيرة وللمسافة الممكنة المتبقية بينه وبين إيفون التي يخسرها بالتأكيد في آخر الأمر. نظر إلى الحديقة، لربما قد تلاشت تأثيرات التيكيلا التي احتسى وخيل إليه كما لو أن قطعا من جفنيه قد انفصلت عنه، لتتطاير وتميس قبالته، تتحول إلى أشكال وظلال، ليست لبعض أصوات بالتأكيد، لكنها تعود، تعود صورة روحه: مثل مدينة تلوح له مرة أخرى، لكن هذه المرة مثل مدينة منهوبة، منكوبة في طريق إفراطه المظلمة (ص 259).
لقد أفرغ الآن كأس البيرة في جوفه وتأمل حائط الحمام، فكر بشكل ملحمي في بعض لعنات أفكاره: " أهتم كثيرا بالمجانين" إنها فعلا طريقة غريبة في بدء حديث مع شخص يؤدي عنا ثمن الشراب حسب سارد مالكوم لوري.
إن مكوث القنصل في الحمام ليس مجرد حدث عرضي جاء عن طريق صدفة بسيطة، ذلك أنه نفسه يمنح للأمر أبعاد كبيرة، كأن يعتقد في نفسه أن ذلك المكان هو بالحق مركز العالم وبأن بإمكانه أن يفعل من داخل الأسوار في خارج أسوار حمامه أي في العالم الشاسع بكل تعقيداته الكبيرة.
شيء آخر ولربما "بسبب غامض يقف تحت رشاشة الماء محتفظا بسرواله وينتظر صدمة الماء البارد الذي لن يأتي أبدا. (ص265).
بعد هلوسات أخرى، دائما، في فضاء الحمام، وتأملات كثيرة، مثل أن يرى بعض الحشرات المتكومة على الجدار والمشكلة في تقاطعاتها الغريبة لأشكال مختلفة، تلتمع زجاجة التيكيلا فجأة في روحه، الزجاجة التي تنام في مكان ما خفي في أقاصي الحديقة. ثم يجرجر السيد فرمان، بعد ذلك، كينونته جهة غرفته.
لقد كان صدام السيد فرمان مع إيفون مبنيا على سوء تفاهم معقد قد تفاقم، هذا الشقاق انضاف لديه إلى تمزقه الحاد وتساوت لديه بعد ذلك كل تقابلات عودتها أوذهابها، فأن تحضر أو تغيب لا يعني أكثر من تأجج مشاعر يغلب فيها التغييب النفسي على السعادة التي يثيرها حضور من نحب.
إن حضور الفرنسي لاغييل هو الوخز الأكبر لفرمان، إذ الحقيقة أفظع مما يمكن تصوره.فالآلهة، كما يقول بودلير، موجودة فهي الشيطان!
القنصل يحس دائما بالرغبة في الشرب، إذ لا ثمة دواء في الأرض، لذا طلب التيكيلا مرة أخرى مع بعض "السيترون"، وأحس فرمان بقوة التيكيلا، ومفعولها الجميل، تنحدر طول عموده الفقري مثل الصاعقة التي تهبط على شجرة، وتزهر هاته بقدرة خارقة! (ص 370).
إن القنصل، في آخر الأمر، يخوض معركة، مثلما يقول، من أجل بقاء الحساسية الإنسانية، لذلك ينوي أن يشرب بعض كؤوس تيكيلا أخرى.
إلى أية درجة إذن يمكن أن نتعاطف مع البراكين؟ (ص 432) أولم تسمع إيفون أحدا يتحدث عمن حاول أن يجعل البراكين أليفة؟! (ص 436).
غير أن إيفون تقدم على أمر آخر جدير بتأمل تلاطمات رغباتها وخسارة روحها هي أيضا في فقدان معقد وكوميديا حازمة.
تقوم: "تفتح القفص، يخرج منه العصفور ويتطاير، يقع على قدميها، مترددا ويعلو حتى سقف المكان، ثم يطير بعيدا. ليس جهة أقرب شجرة، كما يمكن أن نظن في البداية، ولكن إلى السماء. لم تغلط: لقد عرف أنه حر! (...) غير أنها أحست بتمزق وفقدان داخليين!".
ثمة إذن تماهيا آخر بين علائق فرمان وإيفون وما يحيط بهما بخصوص الارتباط والحرية ومفاهيم أخرى لربما اختلفا حولها بمناسبة فقدان وأرواح ميتة.
لم يكن القنصل نفسه يجهل أهم ما يشكل خسارة روحه لما كان يمص "السيترون" (الليمون الحامض) ويحاول أن يعد ما تناثر حواليه من كائنات أليفة، هي مجرد زجاجات كثيرة وأقداح تصعد وتعلو حتى سدّت سدرة السماء ببريقها، مع أنها هي وأشياء أخرى لا تصل إلى يديه إلا ببطء مضن وكسلان.
لقد كان قابلا للغياب عن كل الأمكنة وكان بإمكانه أن يغادر من كل الأبواب (ص 539).
ولأجل أن تتأكد إيفون من متعة فرمان ومذاقها ثم من خساراته القاتلة ارتأت وأصرت أن تتناول هي أيضا ذلك الميسكال، ما هو نادر، وقالت أنها تود أن تعرف ماذا يجد فيه جيوفري في الجوهر؟! (ص 541).
لما تنضاف الخسارة الأولية إلى الألم الوجودي يكون الإحساس بالحب والعزلة أشد وتنفتح الروح بعد حطامها على أفق مغلق.
"ما هي الروح التائهة إذن؟ إنها تلك التي تنزاح عن طريقها وتتعثر في ممرات الذكرى (ص 573).
الرسائل التي لم تقرأ في حينها والحب الذي آذته أمور أخرى أدت إلى هاوية داخلية عميقة، وكانت الروح هي من يخسر في البدء ألقها وقدرتها على اختراق قوة الألم الآخر الواقع لا محالة على كل حياة غير مرتاحة إلى أفقية العيش وراحة الوجود البليد.
وظل السيد فرمان يبتلع كل ما يسقط في يديه من كحول، ويأخذ بيد سكره جهة المنزل كما نقود أعمى أو كسيحا إلى ترميم عجز تام.
كانت الروح إذن تموت ببطء تام. الروح هنا ليست بالمعنى الثيولوجي للكلمة، ولكنها ذلك الجوهر الذي يشكل الرغبة والمتعة وتحقق الحياة في أبعادها النفسية، الاجتماعية والإنسانية. هذه الروح التي تعثرت كثيرا، وقاست بلذة الكحول ألم الكحول، ما لم يحمها من السقوط في الفراغ المهول الذي لفها بعد أن خسر فرمان أبعاد كثيرة وضيع بوصلة الوجود، إذ لفه، بدوره، دوار لانهائي وعصفت به الكارثة في عز تمتعه بهلاك آخر هو الغرق في لذة البرميل المعتقة.
سارا كلاهما إلى هاوية. لا أحد منهما رغب أن يتبع الآخر. غير أنهما، فرمان وإيفون، سقطا في ظروف ملتبسة وتوقفت عقارب تسممهما المزمن عن انتعاظ.
وكان البركان يتربع في القمة المكسيكية على شقاء دائم وفشل كبير، كلاهما سيتكرر عبر الأزل من أجل يوتوبيا السعادة الإنسانية والعدالة المطلقة، ويرسل حممه وسائله المنطو على كثير من الشر والرغبة في القرص والكي وإحراق أي انبجاس لحياة.
ليس من السهل سبر كل التفاصيل التي قادت إلى روح ميتة، وليس من الممكن، كذلك، الوقوف على حدود الثمالة إذا كان البركان هو من يستثير وينفض فيها ويكون بركانها الأوحد ووجهها غير القابل لانفصال.
زجاجات هائلة إذن تعلو وتعلو إلى سقف السماوات وحب منكسر وقلق إلى آخر إمكانياته القصوى في بؤس الخيانة. "وبعد القنصل يرمي أحد ما كلبا ميتا في الوهد"، في أسفل البركان!!
kermounfr@yahoo.fr
باريس

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف