عالم الأدب

السينما العراقية: نشاط وثائقي والروائية لغير جمهورها

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عجل الطلب المتزايد على الصورة المسجلة في العراق في تنشيط الفيلم الوثائقي العراقي بشكل ملفت للنظر، لمسناه، في الدورتين الأخيرتين من مهرجان الفيلم العربي في روتردام. ولا أظنه تقييما مبكرا للتجربة السينمائية الناهضة. فعدد الأفلام، في تزايد بالمقارنة مع الأنتاج السينمائي العراقي في العقدين الماضيين، هذا عدا الكم الكبير من الأفلام العربية والعالمية عن العراق التي شارك فيها عراقيون أو أستفادوا من تجربة انتاجها بشكل من الأشكال. ولكن الشيء المهم الذي تزامن مع هذا التسريع الوثائقي هو أشتغال عدد قليل من السينمائيين العراقيين على الفيلم الروائي القصير والطويل، لذا فالحكم على هذا الجزء، كحصيلة وفيرة قابلة للدراسة والتحليل الأن، سيكون مبكرا ومتعجلا. أولا، لقصر المدة الزمنية التي أنتجت فيها هذة الأفلام، والتي لم تزد على ثلاث سنوات، وثانيا، لظروف انتاجها شبه الانتحارية، في بلد يعيش مواطنوه حالة رعب وخوف ومواجهة يومية مع موت محتمل كل لحظة، والذي بسبب قوته سيبرر وسيغفر نقاد ودارسون، لكثير من نواقص الشغل السينمائي، تعكزا على ظروف أنتاجه اللاطبيعية. المهرجانات السينمائية عنصر أخر في هذة المعادلة ينبغي الأنتباه لها. ففي الوقت الذي يحرم فيه الجمهور العراقي من مشاهدة أفلام عراقية على أرضه، يضطر السينمائيون عرضها في مهرجانات عالمية، تهتم الأن، على الأقل أستثنائيا، بالفيلم العراقي. فتنشأ علاقة مختلة وغير مختبرة بين السينمائي وجمهوره، علاقة لايمكن تجاهلها عند الحديث عن فن جماهيري كالسينما. فالمهرجانات، وعبر تاريخها الطويل والمثير، لم تخلق بنفسها فنا سينمائيا، هي تساعد، ترفع من مستواه، ولكنها لن تخلق فنا حقيقيا. العلاقة بين الفنان وجمهوره، تبقى مقياسا مهما، لا أحد بمستطاعه تجاهلها. وهذا العنصر، اضافة الى غيره، يؤكد الحاجة الى التريث والتركيز على المتابعة والمسايرة. ومن هذا المنطلق، أيضا، يأتي رصدنا لبعض ما قدم في روتردام، الدورة السادسة، والذي قد يساهم في تراكم معرفتنا بمستوى السينما العراقية.

بين عامين
في الدورة السابقة شاهدنا فيلم عدي رشيد "غير صالح للعرض" وهذا العام فيلم محمد الدراجي "أحلام".أراد الدراجي لفيلمه أن يكون ملحمة عراقية، يؤطر فيها رؤياه ويحكي لنا ما تعرض له شعبه من دمار وخراب. فهل نجح؟يندفع أيقاع الفيلم ومنذ المشاهد الأولى في تسارع لاهث. اندفاع متحمس يعكس رغبة الدراجي في الحكي، سرد بصري، تتصاعد وتيرته على مدار، ما يقارب ثلثيه، ثم يهدأ قليلا في الثلث الأخير. وعلى مدى وقته المنفعل، نشعر نحن بضغط العجالة والتوزع بين أكثر من حكاية، بين حكايا أبطاله الثلاثة: أحلام (أسيل عادل) الشابة التي دخلت مستشفى الأمراض العقلية بعد أعتقال رجال أمن صدام زوجها ليلة زفافها. والجندي علي (بشير الماجد) المخلص لصداقته، والذي سيتهم بالجبن والهروب من المعركة، عندما تضعه الأقدار، داخل الأراضي السورية وهو يستميت لأنقاذ حياة صديقه الجندي الجريح "حسن". والثالثة حكاية الطبيب مهدي (محمد هاشم) الذي يعيق تاريخ والده المنتمي للحركة الشيوعية من أكمال تخصصه الطبي، فيقبل راضخا، العمل كطبيب في مستشفى يجمع أحلام وعلي. حكايا هؤلاء تتوزع بين فترات حكم صدام وقمع أجهزته الأمنية ومعركة "ثعلب الصحراء" والاحتلال الأمريكي الأخير للعراق. لا يوجد قانون فني يمنع سردها في فيلم واحد، شريطة الحفاظ على سياق زمني منطقي لها، وقدرة على صهرها في وعاء بصري يفي شروط العمل السينمائي المتكامل. فالفيلم، مثله مثل أي شكل أبداعي أخر، لانستطيع تحميله كل قضايا ومشكلات العالم دفعة واحدة. ولا نستطيع ان ندون رؤيتنا الوجودية لكل ما يحيط بنا بعمل سينمائي واحد. أظن ان مشكلة الدراجي تكمن هنا، في خوفه من الاكتفاء بسرد حيز صغير، لما جرى في بلاده، وبالتالي أحتمال اتهامه بالتغاضي المتعمد عن جزء أخر منها. بعبارة أخرى أحالة أسباب الخراب الى مسببيها، كلهم، حتى يبريء نفسه من تهمة الانحيار الى هذا الموقف أو ذاك. أراد الدراجي توزيع مسؤلية الدمار على الأمريكيين وصدام. رغبة معلنة بالتوازن! رغبة بعثرت جهدا أخراحيا كان بالأمكان توظيفه في تحسين حركة الممثلين وتشذيب السيناريو من زاوئده والأقتصاد في التصوير، وبالدرجة الأولى تصوير حركة أحلام، وهي تهيم بوجهها طرق بغداد المحترقة. حركة ومشهد ذو بعد واحد تكرر كثيرا، فأفتر روح التوقع والمباغته الذي أنتظرناه طويلا، ولم يأتي إلا متأخرا، حين أغتصبها سرسريا، وشوه براءتها. تكرار أجبرنا على السؤال: وماذا بعد؟ أستدرك الدراجي وأنتبه الى هذا السؤال في الثلث الأخير من فيلمه (110 دقيقة) فحاول لم أطراف حكاياته وشدها، وللحق فقد وفق في هذا وإلا لكنا نتحدث الأن عن فيلم سيء بالكامل، لا عن فيلم فيه مثالب، ولكن فيه حسنات وأنتباهات جيدة. وللحق فالدراجي، ولا تنسوا ان "أحلام" فيلمه الأول، يملك حسا بصريا جيدا، وموهبة أخراجية ستتبلور مستقبلا، أنه ينطلق من بحث واقعي بعيدا عن الفذلكة، وربما هذا أحسن ما في شغله. قد تكون الحماسة والرغبة في مسك كل الخيوط بيديه، ما يبررها في الظروف التي أشتغل فيها محمد وفريقه، ولا أظن ان فيلمه هذا أقنعه بجدوى كتابته السيناريو وأدراته للتصوير والأهتمام بالتفاصيل الأخرى لوحده.
للدراجي، وعلى كثرة أختصاصاته في "أحلام" تحتسب حلاوة التصوير ورشاقة تحريكه للكاميرا، لكن تسجل عليه مغالاته في تصوير اللقطات العالية التي فقد قسم منها مبرراته. وجاء ولعه بجمالية اللقطة على حساب حركة الممثلين والمشهد الذي يليها في أحيان كثيرة. ربما ستفرض عليه، تجاربه القادمة،عملا جماعيا أكثر، يساعده في التركيز على الإخراج. وربما سيحكي الدراجي لنا حكاية ثانية، مكثفة، في حيز زماني وفضاء درامي محدود!

طفولة في زمن الموت
سيكولوجية العنف، التي نشأت عليها أجيال عراقية كثيرة، جديرة ببحث النفسانيين والمختصين الاجتماعين، لأن مستقبل البلد مرهون بمعالجتها. ولا أظن ان العنف الذي يشهده العراق اليوم هو وليد الفوضى التي أحدثها الاحتلال فقط، بل يعود الى وعي متراكم داخل الانسان العراقي، غذته السلطة ولعقود طويلة، بتمجيدها كل مظاهر القسوة واللارحمة. مقداد عبد الرضا يضع قدمه بحذر وبشجاعة على هذة الأرض الملغومة، ويسبق، ربما، بفهمه لوظيفة الفن الأجتماعية، المختصين، في مس هذة المصيبة، التي لاتقل خطرا عن المصائب التي تنتجها موضوعيا. خلال 9 دقائق وفي غرفة، يلعب فيها طفلان، سامر ورفيف، لعبة الدخول الى الجنة، لعبة "مجازية" لا وجود لها في مورثنا الشعبي. لعبة أبتكرها مقداد، سندرك عبرها حجم التأثير الهائل لثقافة العنف على أطفال العراق. سنعرف ان أبيهما قد أستشهد في الحرب وذهب الى الجنة التي يأكل فيها الأن ما يريد من الموز، الفاكهة التي حرموا منها، والمشتهاة في تلك اللحظة. للحصول عليها يقترح سامر على رفيف، فكرة أخراج سلاح ابيه من مخبأه، والتقاتل، لعبا، كما لو أنهما في حرب، حتى يستشهدا ويذهبا الى الجنة، حيث الموز الوفير. الموت، إذن، معادل للموز، لرغبات وتشهيات عادية، كعادية فكرة الموت بالنسبة اليهما!
شغل "زيارة الى الجنة" بسيط، حركة الكاميرا هادئة، والمناخ العام يعكس عالما طفوليا. حكاية أقرب الى الحتوتة، تنتهي بأغفائة عميقة بعد تعب. حتوتة لا تخلو من عمق، ربما هي بروفه أولية لفكرة أوسع، قد يخطط المخرج مقداد عبد الرضا لأنجازها مستقبلا.

"العراق: أغاني الغائبين"
كلفت قناة العربية المخرج العراقي ليث عبد الأمير لأخراج فيلم "العراق: أغاني الغائبين". وبالتالي فأن كل ملاحظاتنا ستنصب على فيلم يدرج ضمن خانة "أفلام الطلب". وهي أفلام تمون من ميزانيات مؤسسات أعلامية أو شركات تتفق مع المخرج على مادة تسجيلية يطلبون منه أنجازها. هذة الحقيقة ستسهل مهمة الكتابة، وتبعدها عن تحميلات وتأويلات لا يحتملها هذا النوع من الأفلام، التي تصنف ضمن نوع الأفلام التلفزيونية ،الفيديو، وغالبا مايكتب التعليق المصاحب لها بأسلوب التعليق الريبورتاجي، وفي العادة يقرأه معلقون، أصواتهم مألوفة لمتابعي هذة القنوات وبالتالي تنقلهم، بطريقة غير مباشر الى مناخ تلفزيوني وهم جالسون في قاعة السينما. مع كل هذة الحقائق هل ينبغي ان نقف عند هذا الحد؟ ربما سيكون مفيدا الاجابة بنعم لو أن فيلم ليث كان فيلما تلفزيونيا بالكامل. ثمة لمسات سينمية بين طيات العمل لايمكننا تجاهلها وهي لوحدها تعطي لليث حق أعتبارها شغلا أو محاولة أضفاء بعدا سينميا على عمل تلفزيوني. الجانب الأخر، موقف ليث الفكري من موضوعه. لم يترك فيلمه فريسة لأرادة أقسام التعليق والمونتاج التلفزيوني، في اختيار ما يريدونه من مادته الخام!. ربما سيسألنا القاريء من أين جأنا بهذا الاستنتاج؟ والجواب بسهولة: موقفه من مادته الخام، من خطة عمله، تصويره وأعداد موضوعه. لقد تسلح ليث بخليفة نظرية جيدة ، تسلح بأراء مفكريين وعلماء أجتماع درسوا طبيعة المجتمع العراقي وتنوع أثنياته. وعندما شرع بالجواب على السؤال الضمني والخطر: هل العراق بلد واحد؟ وهل الأعراق والقوميات و الديانات تنتمي الى هذة البقعة الجغرافية، ولا تنتمي لنفسها؟ كان ليث قد أعد نفسه جيدا. أجاب بموضوعية ودراية، بعد ان بذل جهدا دراسيا وتحليليا، بدونها، كنا حكمنا عليه بالسطحية، على الأقل، من الناحية النظرية الخاصة بتفسير التنوع الكبير في العراق. الفيلم أراد ان يقول: ببساطة هذا هو العراق. ليس مادة قابلة لأختيار انتقائي، أنه تنوع تشكل منذ ألاف السنين، طرأت عليه تغيرات كثيرة ولكنه هكذا كما صوره ليث بصدق وحيادية. بدء مسحه من أدنى نقطة في جنوبه الى أقصى نقطة في شماله. وحاول قدر المستطاع في ظروف تصوير خطرة ان يسجل خصوصية كل منطقة زارها. لم يكتب فيلمة بعين سياحية ولا جاهلة بتضاريس الأرض التي ثبتت عليها الكاميرا، كان يعرفها، ومرة أخرى أشدد، درسها بعناية وصبر مسؤل. وبرأي أهمية الفيلم تكمن في هذا الجلد. ولا بد من الأشارة الى الخلل الذي أحدثه، غياب المنطقة الغربية، ذات النسبة السنية العالية، في توازن مادة البحث، وان تعويضها بمنطقة الأعظمية لم يف بالغرض المطلوب. أما على المستوى الفني، فأختار منها، بكثرة، اللقطات الجميلة والمعبرة التي أضفت لمسة رقيقة على مادة بحث تأريخية وأجتماعية ثقيلة، وعكست في آن مهارة وجودة تصوير عمار سعد. ربما للمرة الأولى التي يحق لنا القول، وبشكل نسبي، ان ما نريده من الفيلم الوثائقي العراقي التحليلي، رأينا بعضه هذة المرة في "العراق: أغاني الغائبين".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف