استعادة سريالية لشخص ذائب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بطاقات مكابدة لوديع سعادة ( 2 )
الإحتراز الذي أبداه فالاس فاولي لتأطير علاقة الكتابة بالألم له ما يبرره من الوجهة الشعورية، فأعظم التجارب الإنسانية، برأيه، تصاب بالذبول والوهن، كما تفقد سحرها عندما تهاجر من الدم الى الحبر، وهو الأمر الذي حاولت تفاديه يا وديع لحظة تصديك لمهمة "استعادة شخص ذائب" من خلال نص سريالي أصيل، متولد عن مناخ خاص، يتكلم لغة
بسادية الذات التي تحاصر نفسها بالمستحيل، والتي لا تخلو من مازوخية لتقريع الجانب المتطبع منك مع الحدث، صممت مرثيتك يا وديع، مأخوذاً بأوجاع فكرة الجمع والإستعادة، ومنوعاً على فجيعة الحب والذوبان " أحاول جمع شخص كنت أحبه " حيث عبارات الهلوسة التي تنم عن حمى مزمنة، أو تعب أنهك الروح، فأحال كل كلماتك إلى عويل وانتحاب، أي على طريقة نيتشة في تأسيس النص الجارح، وإثارة المشاعر بشكل تصعيدي، لاقتيادها إلى كثافة على درجة من الحدة " كلُّ هذا مجرَّد خيال. عتمةٌ تستجدي عتمة. ولن أرى ولن أصل ولن أستعيد شخصًا ولن أعيده " لأنك على يقين بأن مأساتك فيزيقية وليست ضرباً من التجريد الميتا-فيزيقي، وتعلم أنك لا تمتلك قبالتها إلا " كلمات " تتنصص فيما يشبه الاستغاثة.
هكذا تنفرط تصويراتك في الهلوسة " يجب أن تكون هناك طريقة ما لجمع الناس عن الضفاف. طريقة لإعادة الأوراق والأغصان الطافية على البحيرات، بشراً ". وبموجب تلك المرثية الرمادية، تتواتر عباراتك اللاهثة على شكل فوران لغوي، مرده غوصات متكررة وعميقة في اللاوعي، فيما يبدو اعتراكاً نفسياً وجمالياً مع كائن خنيق رغبته لاستعادة شخص ذائب، ربما لأن صوتك الذي ينبث كشعور بلا ذات، يأتي مما وراء الموت.
فقدانه يعني العمى، والتوقف عن المشي، أعني ذلك الذي أحدث غيابه فراغاً مركزياً هائلاً، بل كاشفا لحدة العلاقة بين كلماتك ووجعك، فيما يعني توحد لغتك بحرقة التجربة، وامتزاج نصك بسطوة الحياة، فقد كان هو القدمين، وكان هو النزهة " مع ذلك لا بدَّ من أن أعيد شخصًا كنت أحبّه. على الأحبَّاء أن يعودوا إذا ناديتهم. عليهم أن يعودوا ولو كانوا ماء. لو كانوا أمواتًا. لو كانوا طحلبًاhellip; على الطحلب أن يصير إنسانًا حين تستدعيه. ويأتي لو مبلَّلاً، لو مترهّلاً، لو عفنًا. عليه أن يعود صديقًا ولو مات منذ ألف عام ".
الإستعادة إذاً، كما تعيد تدويرها يا وديع، ليست مجرد مفردة تمارس التنويع عليها، ولكنها اللغة حين تبلغ حدها الأقصى، فتعلن تعبها عن إمتصاص الوجع، ولا يبقى عندها إلا الهلوسة، ودوخة ترجيع الألم في نوبات لغوية أشبه بالأنين غايتها لديك تخفيف وطأة انهدام المعنى، والتقليل من فائض الإحساس باللاجدوى الشخصية، من خلال عبارات متلازمة بنيويا مع حدة الشعور بالعبثية، وتوازي عادية الكلام، كمحاولتك قياس " المسافة بين مفصلين " أو " بين ضلع وضلع " مثلا، وهو ما يعني عودتك باللغة إلى محطات الكلام، أي التداعي الكفيل بمطابقة الخيالي بالواقعي، أو ترصيع الأشياء بمعانٍ خيالية، تحيل النص إلى لعبة فلسفية، فكل كلام غير مخيّلٍ، بتعبير ابن سينا، ليس شعراً.
منذ أول عبارة في هذا النص الفارط في التخييل صممت يا وديع روحه الهاذية " هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصًا تحدثتُ إليه طويلاً، ثم ذاب! " هكذا جاء استهلالك المباغت بشطحة تعبيرية خاطفة، وطاقة تصويرية ترفض الإفصاح عن كنهها، وأظنها تقوم على حزمة من التماثلات ذات الطابع الاستيهامي التي تمارس بكثافة حضورها الغرائبي شيئا من النفي الموضوعي، لتقوية فكرة الإستعادة عندما يتم اختبارها بصدمة الحواس، فيما يشبه جمالية " الجثة الشهية " عند السرياليين القائمة على تشيئة البشري، ومقابلته بالذابل والمتفسخ من الطبيعة " على سطح البحيرة ورقة، كانت عينًا. على الضفَّة غصن، كان ضلعًا بشريًا. أحاول الآن جَمْعَ الأوراق والغصون. أحاول جمع شخص كنت أحبُّه ".
ذاتيٌ جدا أنت يا وديع في هذا النص، ممسوس بحرقة الحدث. وكعادتك، لا تبدو متفرجا على الإطلاق، بل على درجة من التماس الحاد بشرط الحياة، ولا تهاب الألم الإنساني، فأنت أبعد ما تكون عن أكذوبة تأمل الأشياء عن بعد، وأقرب ما يمكن من الطبيعة المطاطية للألم. ولأنك لا تريد أن يكون منسوب المعاناة في النص أقل من هول ما حدث، كنت أقرب إلى جرأة " التسمية " فاستزرعت نصك ببطل ميت، كما فسرت ذلك بعويل ودمع ابتل به نصك " محاولة وصل ضفتين بصوت " الذي يحمل عنوان المجموعة " أنتَ بطل هذا النصّ، وإنك بطل ميّت. لكن حين أريدك حيًّا يجب أن تحيا. الكتَّاب يحرّكون شخوصهم كما يريدون، وعليك أن تتحرَّك كما أريد حتى لو كنت ميتًا. لا تقلْ إن النعش ضيّق وصرتَ ترابًا. على الكتَّاب أن يحرّكوا التراب ويوسعوا النعوش. وعليهم أن يعيدوا الأموات إلى الحياة أيضًا ".
كأنك يا وديع تكتب ذات النص بمقاسات وعبارات ومزاجات مختلفة، وتحاول - عبثا - استعادة طقس الفقد، واستثارة جماله الهاجع، وإكساب كل ما يحدث تماسه به طابعاً شعرياً، للعثور على الطمأنينة، من خلال التقاط علائق أخرى خارج الواقع، وتلبيسها بكائن يعيش احتضاره على حافة غياب الآخر، أو ربما هو العيش على إيقاع ذوبانين، فالتماس بكائن لا يكف عن الطرق على عظامك يؤسس لانمحاء ذاتك وتماهيها " المرعب بين الماء والبخار والشخص " أو هكذا ذبت بذوبان الغائب " ربما كنت في الماضي شخصاً يبحث عن شخص ذاب أو ربما كنت أنا الذائب ... كيف إذن سأُعيد شخصًا ذاب؟ أليس عليَّ بالأحرى أن أعيد أولاً نفسي؟ أن أعود على الأقل قطرةَ ماء كاملة، تنزل على ورقة، على عين، على ضلعٍ على ضفَّة؟ " وأليس هذا ما يسمونه " الغرائز الغيرانية " أو فن الحفاظ على الذات، بما تعنيه من إجراءات حمائية لتوطيد العلاقة بالذات من خلال الذوذ عن الآخر!؟
وديع، بحاجة أنت أيضاً لمن يخرجك من لحظة الإحتضار الدائمة تلك، ويقول لك برفق: أن ذلك حدث بالفعل، وأنك فقدت حبيباً بالفعل. وبحاجة أنت كذلك لمن يصيب وعيك ولا وعيك بيقين ما حدث. لأنك مريض بذلك الغائب. الشعر كفيل بهذا، ولكن بعيداً عن إدانات فرويد المرضية. وربما لهذا السبب بالذات تمثلت رؤية أندريه بروتون للشعر كمحاولة لتمثيل أو استعادة جمال الغائب بغموض اللغة، عبر الاستغاثة والدموع المنبجسة من لهفة الحنين، أو هكذا تبدو فوراتك العباراتية لصد الخوف والتقليل من حدة الإحساس بالانهيار.
لقد كان في ظنك " أن الأصوات تولد للغناء لا للصراخ. للنشيد لا للحشرجة " كما توهمتها في " نص الغياب ". لكن خيبة المعنى أودت بنصك إلى هذا العنف الشعوري ازاء الذات، لأنك خالفت بوعي وإرادة مكمن انبعاث الصوت، ففاض ما بداخلك من كلام خارج نظام اللغة، كأنك يا وديع، تكتب ذاتك، وتتوقف عن الوجود، برأي موريس بلانشو، لكي تستسلم لضيف آخر، قارئ، لا مهمة له ولا حياة إلا انعدام حياتك.