جديد الثقافة في فرنسا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إعداد عبد الله كرمون: ارتأيت أن أنظر في صفحات الملاحق الثقافية المعروفة في فرنسا كي أجس نبض ما ينشر فيها من رؤى حول مواضيع ثقافية وكتاب وغير ذلك من نصوص. قمت إذن بتركيب لأهم ما يستثير فيها جديدا وترجمت وعاودت نقل روح كل مقالة وذلك من أجل رسم صورة شاملة عن الذي شغل اهتمام الصحافة الثقافية (هنا نموذج لوفيغارو ولوموند) هذه الأيام وماذا جد فيها. وكان هذا التقرير:
فرنسوا شيتغ يكتب عن بوول كلوديل.
"فرنسوا شينغ على خطى كلوديل". كان ذلك هو العنوان الذي تصدّر صفحة لوفيغارو ليتيرير لهذا الأسبوع. ولأن مقالته تندرج تحت عنون فرعي "مدينة وكاتب" فإن فرنسوا
رحلة كلوديل إلى الصين كي يتسلم ثمة مهامه الدبلوماسية كانت على ظهر باخرة إرنست سيمون، ومادام كلوديل ليس وحيدا على ظهرها فقد كانت بين كل المسافرين امرأة جميلة جدا ترافق زوجها إلى الصين هذا الذي رغب أن يجرب حظ أعماله هنالك. السيدة روزالي في الثلاثين من عمرها مثيرة للعين لا تخطئها قط. بجمال ضحكتها وخصلات شعرها المتميزة التي تلاطفها تلك الريح البحرية وتعيد للمرأة حيوية نادرة. كلوديل نفسه تساءل : "لماذا هذه المرأة؟ لماذا تتواجد فجأة هذه المرأة على ظهر الباخرة؟" أو بالأحرى فميزا، الذي يتقمص شخصية الكاتب، في مسرحية "اقتسام (أو قسمة) الزوال" هو من يصدع بذلك السؤال، ما لا يغير شيئا في صلب الموضوع. ذلك أن "القصص العاطفية الكبرى تحدث غالبا في ظروف استثنائية، مثلما كتب فرنسوا شينغ، إنه حال الحب المشبوب الذي عاشه بوول كلوديل مع روزالي فيتش، ما نجد أصداءه المثيرة في "قسمة الزوال". لقد كان إطار لقائهما أولا على ظهر باخرة في مجرى بعيد، ثم الصين، كلاهما يشكلان إذن مكانين غير واقعيين أي أسطوريين".
كأن فرنسوا شينغ أراد بالتالي أن يثير حبا مستعصيا دون أن يهتم أكثر بالمسرحية ولا حتى بأبطالها إلا بما يثير هذه الثيمة. غير أن استحالة تلك العلاقة بين بوول وروز وانسداد أفقها أساء كثيرا إلى سكينة بوول. أوَ لم يكتب في مسرحيته، ذاكرا ذلك التحذير الذي يصدر عن امرأة، ما يلي: "لا يا ميزا، لا يجب أن تحبني أبدا. (...) ابق هذا الميزا الذي أحتاج إليه وذا الرجل المكتنز الفظ الذي تحدث إلي في تلك الليلة. (...) لا يتعلق الأمر بلعبة معك."
نهر المين الذي يخترق مدينة فيزو الصينية والذي يتلوى خلف هضاب كثيرة يمنح لتلك المدينة ومرفئها مرأى أخاذا مثلما تستعير فيلا القنصلية من المنظر نفسه أبعاد أخرى أكثر حميمية في الداخل، خاصة لما أودع روز زوجُها لدى القنصلية تتخذ فيها سكنا، ما كان معتادا إذ ذاك في الصين، ريثما يفرغ من مشاغل اقتضت منه أن يشد الرحال إلى الجنوب.
ترجع روز إلى أوربا سنة 1904 كي تضع حملها ويغرق بوول كلوديل في يأس قاتل. وقد لجأ إلى الكتابة كي يفر من الانتحار. محاولا أن يعيد رصد وقائع قصتهما بإيعاز من أمل خفي عسى أن تتأثر روز بذلك الحكي وتتعلم أن تحبه من جديد.
لقد ولد لذلك كتابه من تلك المعاناة الخاصة جراء حب مستحيل. فكتابه إذن كما كتب فرنسوا شينغ :"الكتابة المعنية هنا ليست مجرد تسجيل بسيط ولكنها حركة لولبية تتيح، من طابق لطابق، للذي يكتب أن يصل إلى أماكن لم تطأ حتى الآن. (...) إذ يدرك الشاعر أن المرأة ليست فقط جسدا جنسيا و لكنها أيضا تلك التي كُتبت على جبهتها كلمة "سر".
الفيلسوف جان كلود ميشيا.
لم نره قط يظهر على الشاشة وليس يسهل أبدا الاتصال به أو محاورته. إنه الرجل الذي يرفض ملاقاتكم. يردف بوول فرنسوا باولي، الذي تمكن مع ذلك أن يقترب من عالم
لقد ناضل جان كلود ميشيا مبكرا في صفوف الحزب الشيوعي وقد اجتاز أيضا في سن مبكرة منذ 1972 التبريز في مادة الفلسفة، ليغادر بعد ذلك سنة 1976 الحزب. وإن كان قد كتب ذات مرة بأنه يجد صعوبة كبيرة في فسخ صداقة لأسباب جد ثقافية" ومن ثمة أدار سلاحه ضد يسار يجد له كثيرا من المثالب وسطر كل ذلك في أربعة كتب سجالية. "أكره أن أكتب، وعندما أتمكن من ذلك فالأمر يصير عنفا (مسدس على القفا)". لقد صرح بذلك لما أصدر كتابه حول الجهل سنة 1999.
أحد محبي جورج أورويل هذا الميشيا الذي يدرّس الفلسفة في جنوب فرنسا بمدينة مونبوليي، كتب أيضا سيرة معلمه المفضل صاحب 1984. يقول :"إذا كانت الأنتلجنسيا المعاصرة، قد قطعت في مجموعها مع الواقعية العفوية للإنسان العادي، فلأنها قد توقفت أساسا عن أن تكون أخلاقية".
تهويمات البحر، الرمل و الجسد
النص الذي كتبت أليس فيرني عن علاقتها بالبحر جميل إذ تذكر أنها كلما ألحت أن تنظر في تلافيف ذهنها تأكد لها أنها قد أحبت الذهاب إلى البحر منذ أبد. الأمر إذن ينتمي إلى
أن تحب البحر في إجازة: تحب أن تستلقي دون أن يأخذك النوم، أن تحب أن تتملى، أن تبقى في مهب الريح وألا تخشى الشمس. أن ندرك كذلك بأن الصيف لا يدوم وأن نكون ربما من أجل ذلك مجانين. يجب أن نقبل التحولات التي تمنحنا تلك الإجازة : من الإنسان الواقف إلى الحيوان المستلقي، من الكائن الذي يفكر إلى الكائن الذي يحس، من الجسد الملتحف إلى الجسد العاري. يجب أن نتقبل الآخرين من خلال عريهم لأن المكان أي الشاطئ ليس قط فارغا. تذكر الكاتبة كيف يكون الذهاب إلى البحر رفقة أمها وأخواتها مثل عرس، وتذكر لحظتها كيف تصير نفسها، إذ تتعود على عذوبة الماء، ماءً. المرأة صارت بعد سنوات أما غير أن خلجات البحر والماء بقيت نفسها هي هي.
هذا الأطلسي، شاطئ اللاند حيث تدربت أليس على تشابكات الحس ورقة الرمل والماء شديد وحاد. شاطئ أوسيكور لدى إستانيو. ثمة يجعل من الاستحمام تمرينا من أجل توازن ما. ثمة تكتب أليس فيرني بأنه حقا غريب أن نستحم ونفكر في احتمال أن نموت! كل عام يجئ هنا أناس كثيرون، ليس كي يستحموا بل كي يموتوا! مثلما حدث في فيلم "تحت الرمل" لفرنسوا أوزون.
أيضا احتفظت هذه المنطقة بكل شفافية مائها، حيث ترى، ثمة كما هي، الأجساد التي تسبح.
تقول أليس بوسعها أن ترى كذلك بياض يديها من خلل عذوبة الماء والضوء. يمكن أن يمسنا الدوار العذب والمقلق لذلك العمق الأخضر. هذا العمق الذي يخبئ بحق حيوات غير مرئية وتحركات مملكة حيوانية مذهلة. الكاتبة خلال تواجدها داخل الماء تراودها صور شتى عن الحياة والموت.
"في البحر أي في مملكة الماء خمنت مرارا ألا أستحضر أبدا أسنان البحر وإلا لن يكون قط بمقدوري أن أنزل إلى الماء، وأن أقبل أبدا مجاهل الماء تحت ساقي". تنظر الكاتبة وتتأمل كل المحيطين بها وتتأمل حيواتهم المائية بكل تشابكاتها وتعقيداتها كلها. قُبل العشاق وكل الطراز المتنوع لمايوهات النساء اللواتي يرين ويظهرن عن سبق إصرار نهودهن لكل ناس الشاطئ. يمكن كما تقول الكاتبة أن أظل هنا لساعات واقفة أتأمل المحيط حاضرا ومتحركا مثل شخص.
أليس كما تذكر في نصها تحب الشاطئ في كل فصوله، خاليا من كل المصطافين، تحت المطر وضياء الشتاء. الشاطئ الذي تكنس الريح التي لم تعد تقدر أن تجعل الرمل المبتل الثقيل يرتفع. البحر يئن ويهدر مثل قطار TGV. يمكن أن يبتلعكم. فالبحر يجرف المغفلين والأبرياء الذين يقتربون من جمال و سراب. أنا التي أدرك، تقول الكاتبة، أن الموت مبثوث في كل مكان أجد أن في قلبي يستقر حداد آسيان.
ونقرأ في ملحق لوموند:
غاليمار تعيد نشرالفيلسوف الصيني الكبير تسونغ تسو
هو ذا رومان غرازياني يترجم تسونغ تسو ويعلق عليه، ويضمنه كثيرا من نصوصه التي تتراوح بين المحاورات والحكايات والأساطير. غرازياني إذن، كما كتب فانسان غوا، منح مرة أخرى لتأملات الفيلسوف التاوي، في أهم نصوصه الأساسية، ما تستحقه من اهتمام إذ ما تزال تحتفظ بكل راهنيتها وقوتها، وذلك بعد أن سبق لجان فرنسوا بيلوتر أن قدم عن الفيلسوف تسونغ تسو سلسلة رائعة من الدروس في كوليج دوفرانس والتي صدرت بعد ذلك في كتاب. إضافة إلى الترجمة الجيدة التي أنجزها جان لوفي لفلسفة تسو.
فرادة تسونغ تسو تكمن في كونه "ينتقد بحدة كل نظام" ويحتفظ بذلك بحريته في زمن المماليك المتطاحنة فيما بينها. يعتبر في الآن نفسه كتاب سياسة وكتابا شعريا بامتياز. ذلك أن الفيلسوف فطن إلى علاقة اللغة بالمعرفة إذ تؤسس وتفكك بشكل مواز علاقتنا بالواقع. وما دام قد عرف ذلك فإنه، كما أشاد به رومان غرازياني، لا يحترز من علاقته بها :"ذلك أن عنفا من ذلك النوع هو وحده الكفيل بإحداث كوة في كثافة الأشياء التي تجثم بثقلها على الذهن".
إرث مؤلم
ركزت أليكساندرا لينيي لافاستين في قراءتها لكتاب نادين فاسور الجديد على ما ينم فيه من رغبة كبرى في كسر حاجز الصمت والتغييب الذي لف طويلا وما يزال جانبا هاما من تاريخ اليهود الأوربيين الذين تعرضوا للعنة الترحيل إلى معسكرات من قبيل أوشفيتز المعروف. "لم أقل له أني أكتب هذا الكتاب" عنوان لثلاثة عشر نصا شاءت من خلالها نادين فاسور أن تجعل أبناء أولائك اليهود، الذين عضهم الألم هناك، أن يحكوا تجارب الذين منحوا لهم الحياة بعدما عانوا كل ما عانوه، ثم أن يضعوا موضع تأمل أيضا كيف عاشوا أنفسهم جنبا لجنب مع ذلك الشبح المخيف في اليومي كلما تعلق الأمر بأبناء الذين نجوا مع ذلك من جحيم تلك المعسكرات النازية.
حتى الآن لم يكتب بعد أي كتاب يأخذ بعين الاعتبار أبناء ضحايا النازية، لذلك جاءت نادين فاسور تسد تلك الثغرة وفي ظنها أنها تقدم بذلك عملا هاما يدفع هؤلاء أن يتعايشوا بكل وعي حقيقة وضعهم وأن يتعلموا أن يحبوا الحياة أكثر دون أن يطبق النسيان على الرعب الهائل الذي شكلت مأساة كل الذين مروا من ظلمة المعسكرات النازية وجها من وجوه التاريخ المعاصر الذي يلزم دائما استحضاره. والاضطلاع بمسئولية كبرى تجاه الحاضر والمستقبل وتجاه حقيقة هؤلاء أنفسهم.
لقد آن إذن أن تكف الكلمة التي ورثها هؤلاء من أن تكون مستحيلة أو ممنوعة، طالما ليسوا لكونهم أبناء ضحايا هم أنفسهم ضحايا فإنهم ليسوا يطالبون بجبر أو تعويض وإنما أن يقولوا عن الذي ظل مسكوتا عنه لزمن طويل. إذ حان مع كتاب نادين فاسور أن ننسى قول بريمو ليفي :"ولو حكينا لما صدقنا أحد..."
صدور طبعة جديدة لكتاب "اختراع الحرية" لجان ستاروبنسكي
يبدأ مارك فيمارولي مقالته عن هذه الطبعة الجديدة لكتاب "اختراع الحرية 1700ـ1789" ويليه رموز العقل، بالقول أنه لنكاد نخشى و نحن نفتح الطبعة الأنيقة لدى غاليمار أن
لقد صادف كذلك أن صدر للشاعر إيف بونفوا المعجب بستاروبنسكي كتاب عن الموضوع نفسه الذي كرس له هذا الأخير رموز العقل حول فن غويا.
يخلص مارك فيمارولي أن هاتين الدراستين اللتان أدهشتنا أول ظهورهما قد صدق أنهما قد صمدتا ضد سلطة الزمن الذي يسيل وبقيت قوة ستاروبنسكي دائمة التجدد. لقد مزج إذن في كتابه الأول بين التاريخ وتاريخ الأفكار وقام برصد كل التموجات التي عرفها قرن الأنوار وصعد طولا حتى السنوات الأولى من الثورة الفرنسية. وطاف بكلمات ضخمة توحي بكل ما توحي به من قبيل "العالم كمسرح" وكون "الحلم الأسطوري استراحة من ثقل الواقع" والتسري كدواء للضجر وكون حب الاستطلاع سليل البحث عن الحقيقة والمتعة كدليل على استحالة السعادة.
يخلص فيمارولي في الأخير أن كتاب ستاروبنسكي الذي يحمل في عمقه بذرة حية، وقد ألهم جيلين من الباحثين والقراء، ما يزال أبعد عن أن ينضب وينطفئ تأثيره.