عالم الأدب

بيروت بين عليوان والماغوط.. ورومانسيات سعدي يوسف

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


بيروت بين سوزان عليوان ومحمد الماغوط .. كراكيب مدينة في ضوء القمر


القاهرة من سعد القرش(رويترز) - في الحروب ينزع لبنان ثوبه المخملي وبعد انتهاء المعارك ينهض من الرماد ككائن أسطوري قادر على إثارة الدهشة مرتديا ثوبا آخر. ودائما يكون الشعر أسبق الى استشعار الخطر على بيروت كمدينة للاحلام في نظر الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان أو كيان أشبه بجبال من النهود والاظافر كما يراها الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط. هكذا تبدو لبنان-بيروت في ديوانين أحدهما كتب وصدر في الآونة الأخيرة بعنوان (كراكيب الكلام) لسوزان عليوان والثاني (حزن في ضوء القمر) الذي كتب قصائده قبل نحو نصف قرن محمد الماغوط. وأعيد طبع ديوان الماغوط هذا الشهر في سلسلة (آفاق عربية) عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة.
وصدر ديوان الماغوط اصلا عام 1959 ويضم قصائد منها (جنازة النسر) التي يقول في بعض سطورها "ضمني بقوة يا لبنان-أحبك أكثر من التبغ والحدائق-أكثر من جندي عاري القدمين يشعل بين لفافته بين الانقاض. ان ملايين السنين الدموية-تقف ذليلة أمام الحانات-كجيوش حزينة تجلس القرفصاء." يرى الماغوط الذي توفي في ابريل نيسان الماضي بلاده "تسير كالريح نحو الوراء" ولعل هذا التأويل يفسر كيف يبدو في شعره مسكونا بالحزن اذ يقول انه من قديم الزمان وهو يرضع التبغ والعار. وتبدأ قصيدته (حريق الكلمات) بما يشبه ابراء الذمة حيث يقول.. "سئمتك أيها أيها الجيفة الخالدة. لبنان يحترق-يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء... أيها العرب-يا جبالا من الطحين واللذة-يا حقول الرصاص الاعمى. تريدون قصيدة عن فلسطين-عن الفتح والدماء.."
في القصيدة نفسها وفي مشهد احتجاجي نفذه فيما بعد الشاعر اللبناني خليل حاوي (1919 - 1982) يقول الماغوط "هنا.. في منتصف الجبين-حيث مئات الكلمات تحتضر- أريد رصاصة الخلاص-يا اخوتي-لقد نسيت حتى ملامحكم-أيتها العيون المثيرة للشهوة-أيها الله.. أربع قارات جريحة بين نهدي-كنت أفكر بأنني سأكتسح العالم-بعيني الزرقاوين ونظراتي الشاعرة.
"لبنان.. يا امرأة بيضاء تحت المياه-يا جبالا من النهود والاظافر-اصرخ أيها الابكم-وارفع ذراعك عاليا-حتى ينفجر الابط واتبعني-أنا السفينة الفارغة-والريح المسقوفة بالاجراس... لا أشعار بعد اليوم-اذا صرعوك يا لبنان-وانتهت ليالي الشعر والتسكع-سأطلق الرصاص على حنجرتي."
وكان حاوي قد شعر بالعار وهو يرى الاجتياح الاسرائيلي لبلاده ولم يجد أمامه وسيلة للاعتراض سوى الانتحار فصوب بندقية صيد الى عنقه في الخامس من يونيو حزيران 1982.
وتقع الطبعة الجديدة في 150 صفحة متوسطة القطع وتتضمن مقدمتين احداهما لزوجته الشاعرة السورية الراحلة سنية صالح التي قالت ان مأساة الماغوط "أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الاوسط... وذروة هذه المأساة هي في اصراره على تغيير هذا الواقع وحيدا لا يملك من أسلحة التغيير الا الشعر" كما وصف الناقد المصري جابر عصفور في المقدمة الثانية الماغوط بالشاعر الفريد الذي أصبح "بحق معمدان قصيدة النثر في تأسيسها الذي فرض نفسه على الدوائر الادبية."
أما ديوان (كراكيب الكلام) لسوزان عليوان الذي صدر قبل نحو شهرين فهو قصيدة واحدة طويلة تبدو كأنها سيرة للروح.. روح الشاعرة وروح المدينة وأهلها حيث لا تقوى الايدي المنهكة على اسدال الغروب كما تعجز عن التعجيل بنور الصباح.
في هذه المسافة بين غروب وشروق فرصة لان يعيد الشعر ترتيب العالم الخاص جدا ويتنبأ بالمطر والحروب.
في الديوان-القصيدة التي تبلغ 45 صفحة متوسطة القطع علاقة ملتبسة بين الشاعرة ومدينتها اذ تقول "وفقط حين انكسرتُ-أدركت حجم المأساة-لان هذه المدينة تذكرني بصوت امرأة أعجزُ عن نسيان انكسارها-لان الله واحد والموت لا يحصى."
تحلم الشاعرة بطفولة من نوع مختلف هي طفولة مدينة تخصها وحدها وترحل عنها واثقة أن كل شيء سيبقى رغم المأساة والتهجير "لن تصحبني في الرحيل سحابة. الغرفة الصفراء بين جدرانها ستبقى-المقهى في زاويته-الاشجار حيث جذورها-العصافير على الاسلاك-والقمر الذي من قمر-لن يكون بوسعي أن أضعه رسالة في جيبي. لانها لم تكن يوما أشيائي. لانها أشياء هذه المدينة." وتقول.. "يا قلبي العاطل عن العالم-أيها المعطوب بعشق مدينة كانت عبثا حلمنا وحاولنا وأحببناها."
ولدت سوزان عليوان في بيروت عام 1974 من أب لبناني وأم عراقية وبسبب الحرب الاهلية اللبنانية (1975 - 1990) عاشت بين اسبانيا وباريس ومصر حيث تخرجت في الجامعة الامريكية بالقاهرة وهي الان تعيش في بيروت "خرافة الوطن". ونشرت الشاعرة التي تعيش الحياة كقصيدة ثمانية دواوين أخرى بين القاهرة وبيروت منذ عام 1994 في طبعات محدودة ترسلها الى أصدقاء باتساع العالم وترفض المشاركة في مهرجانات الشعر وتكتفي بموقعها على الانترنت حيث تكتب وترسم وتحلم أحيانا.
وزارت الشاعرة القاهرة هذا الشهر قبل نشوب الحرب وقالت ان انتماءها الى لبنان يبلغ نسبة مئة في المئة مفسرة بذلك قسوتها في انتقاد البلد الذي يخصها وتحرص عليه "أكثر من أي أحد اخر". ما يجمع سوزان والماغوط هو عين الطائر الذي يرسم من بعيد مشهدا ولا يتورط في علاقات تؤثر على نقاء الشعر. فالشاعرة اختارت موقفا على تخوم الشعر والوطن والحلم في حين وصف الماغوط نفسه بالانكفاء على الذات.
كما قال زوجته انه مع الايام لم يخرج من عزلته ولم يتخلص منها "بل غير موقعها من عزلة الغريب الى عزلة الرافض."

الحيوية والشيخوخة سعدي يوسف وأطلال الديار.. وان نموت فنعذرا

بيروت من جورج جحا(رويترز) - قراءة مجموعة الشاعر العراقي سعدي يوسف الأخيرة (حفيد امريء القيس) حتى اذا اقتصرت على عنوانها وحده جديرة بأن تخلق الآن في نفس القارىء العربي.. خاصة الفلسطيني واللبناني والعراقي مشاعر وتداعيات مؤلمة وشعورا بليل طويل لا ينجلي.. فحياة امريء القيس الجد وشعره يحفلان بالمفجع والمحزن من الناحيتين التقليدية العامة والفردية الخاصة.. تقليديا قد لا يكون الوقوف على الأطلال والبكاء على المنازل والحنين الى الأماكن التي ابتعد الانسان فيها عن الأحبة أو أُبعد عنهم اكثر بروزا في ذلك الزمن منه في هذه الحقائق الواقعية الحديثة. المنازل الان في ايام "الحفيد" اطلال درست فعلا اذ "درّستها" قنابل وصواريخ ونيران من دبابات وطائرات "الحداثة" او "مابعد الحداثة" كما يقول البعض. واذا كان امرؤ القيس مغامرا و"دون جوانا" كما يعكس بعض شعره.. واذا كان ايضا قد أُعطي لقب "الملك الضليل" ففي حفيده أو أحفاده من المشابه ما يجعل خط النسب الذي أشار اليه سعدي يوسف أكثر من مجرد عملية خيال شعري. ففي هذه الآونة تبتعد الديار وتنأى بل تتهاوى وتُطاح ويكاد الانسان يحرم حتى من متعة تمتع بها الجد وهي الوقوف عليه ليبكي ويستبكي. وليل الحفيد والأحفاد أشبه بليل الجد الذي وصفه بان نجومه بدت كانها شدت "بأمراس كتان الى صم جندل" لكن في ليل الجد الكثير من الرومانسية على رغم ما كان على عاتقه من هم "سياسي." وكأن سعدي يريد ان يضمن بين الاشياء الكثيرة التي يضمنها في عنوانه وشعره حقائق والاما مشتركة صارت تبدو لنا كأنها جزء من تراث الالام العربية. فالشاعر الجاهلي في سعيه الى استعادة ملك ابيه يترجم ذلك الى.. "بلاده.. بلغة ايامنا.." وقوله "بكى صاحبي لما رأي الدرب دونه.. وأيقن انا لاحقان بقيصرا.. فقلت له لا تبك عينك انما.. نحاول ملكا او نموت فنعذرا." وموته من خلال سعيه هذا.. يحملنا الى حال الاحفاد الذين يموتون في سعي يبدو مثل مساعي "سيزيف" يرفع بالالام الصخرة الكبيرة فلا تلبث ان تعود لتسقط عليه ليعيد الكرة من جديد. الا ان الشاعر الحديث سعدي يوسف في هربه الى بلدان قيصر الحديثة.. بريطانيا وايرلندا وفرنسا وبلدان اسكندنافية وغيرها.. يواجه وحدة ووحشة وليلا طويلا كليل جده.. ويحاول ان يخفف من وقع ذلك بمغامرات مع نساء وعلاقات تنسيه الغربة والبرد القارس.
اشتملت المجموعة على 99 قصيدة توزعت على 216 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن (دار المدى) في دمشق. حمل الغلاف صورة سعدي وحولها من الشمال واليمين أبيات صارخة من قصيدة في المجموعة وقد تصرف مخرج الغلاف فنيا بتوزيع كلماتها. في القصيدة الأصلية التي كُتبت في لندن سنة 2005 وعنوانها هو عنوان المجموعة أي (حفيد امريء القيس) يقول سعدي يوسف "اهو ذنبك انك يوما ولدت بتلك البلاد.... ثلاثة ارباع قرن.. وما زلت تدفع من دمك النزر تلك الضريبة.. انك يوما ولدت بتلك البلاد.. تواريخها الكذب.. المدن الفاقدات المدينة.. تلك القرى حيث لا شيء.. ذاك الظلام العميم.. وتعرف ان البلاد التي ولدت بها لم تكن تتنفس معنى البلاد.. السؤال.. وما دخلك الآن حين تطالب بالمستحيل.... المصيبة انك تحمل أوزارها في انتفاء البلاد."
قصيدة (تجربة ناقصة) تصور ليل غربة ووحشة. يتذكر البصرة وهو في لندن ويطول ليله ويقسو بأشد مما طال على جده ويقول "انا منتظر ما يمحوه الليل .. اختفت الزرقة منذ الان.. ولست أرى إلا طيرا مسكنه سقفي القرميد.. ستمسي كل سقوف القرميد رمادا.. وستلبس حتى سيارات الحي حدادا.. تلبس حتى الاشجار سوادا ملتبسا.. من ستغني .... هل ارهف سمعي للرعد بأرض أخرى...."
ويعود الى الليل الذي هبط بكلكله كجمل على صدر جده فيقول عن ليله هو "اختفت الزرقة.. ها هوذا الليل الماحي كل الافواه.. المغلق كل الافواه.. الهابط كالرمل البركاني على الامواه.. الليل المعلن هذا الليل.. المعلن والملعون.. القاتل.. والمجنون.. الليل السيد هذا الليل.. الليل الابيض هذا الليل.. الليل النصل.. الصل.. الصافر.. ليل قطارات القتلى المشحونين الى قمر الكثبان..."
في قصيدة (تنويع ثالث) يكمل جو القصيدة السابقة وفيها يقول "انا منتظر ما يمحوه الليل.. اجسر في حمدان يعيد مياها كانت تجري تحت الماء... ام ان الصيف الساخن في المراة.. ام الرعد.... الطيران الحربي يقطر في الدم رائحة البارود." ويقارن ما يدور في بلده بما يجري في القرية البريطانية الهادئة التي هو فيها فيقول "ولكن.. في هذي القرية يربط ملاحون قواربهم عند سياج الحانة.. حتى صيادو السمك ابتدأوا يطوون خيوطا وشباكا.."
وينتقل الى القسم الثاني فيحملنا الى أجواء بعض قصائد الشاعر العراقي المشرد الاخر الراحل بلند الحيدري متحدثا عن اجواء الرعب البوليسي في بلده وخاصة تلك القصيدة التي تحدثت عن بغداد وحصان طروادة.
يقول "من دق على الشباك ثلاثا.. متتابعتين.. وثالثة بعد ثوان.. ان العمال يجيئون الى منزلنا بالبصرة سيرا في الليل ويرتحلون الفجر.. سافتح.. ارجوك تمهل.. لا ترحل.. سنكون معا مثل رفيقين على طرقات الفجر.. سنحمل بيرقنا.. وندق الصنج الهائل .. لا ترحل.. ارجوك تمهل.."

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف