العالم بأصوات متعددة لغويتيسولو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نصوص لم يسبق نشرها
صرخة ضد تزييف الحقائق في الحروب
محمد المودن من مدريد: نصوص أدبية ساخرة ولاذعة ، تسترفد من تجربة صاحبها الذاتية تفاصيل رؤية نقدية، لفضح مفارقات "عالم غائص حتى الحضيض في مستنقع الاستهلاك وصخب الدعاية والبروباغندا". والمقطع الآتي من كلام غويتيسولو، في لقاء له الأسبوع المنصرم بقصر مغدلينا بسانتاندير الإسبانية، تناول فيه موضوع "الحرب بين
في وجه "آلة الدعاية "الصاخبة يظهر غويتيسولو، الذي نشأ ببرشلونة عام 1931، حساسية مفرطة في معاداتها، قال إنها "تبث الرعب اللاعقلي، وتطبع الخطاب العنيف، وتروج للزيف والمناورة".
نصوص غويتيسولو هاته التي لم يسبق نشرها وكشف عنها أول مرة في المناسبة ذاتها بالجامعة الدولية منديث بيلايو بسانتاندير الإسبانية، جعلت بؤرتها كشف الزيف التي تفرخه آلة الدعاية، التي تجد في فضاء الحرب وزمانه رحما خصبا للانتعاش والتفريخ . لذلك فهو يحرض على "تقويض سلطتها ونسف كيانها".
يحكي غويتيسولو على هامش قراءته لتلك النصوص التي قال إنه صاغها "بأصوات متعددة"، لإبطال زيف البروباغاندا وتقليص مجال مناورتها، عن صورة من صور الدعاية المغالطة التي تعتقل الناس في حقائق مزيفة. يقول:" في شريط فيديو حول حرب الخليج الذي عرضه التلفزيون الأمريكي سي إن إن، حيث كانت المعلومات شحيحة، وهذا التلفزيون كان يهيمن على كل الصور القادمة من فضاء الحرب، اكتشف بعد انتهاء تلك الحرب، أن تلك الصور التي باعها إيانا تلفزيون السي إن إن على أنها أحداث حقيقية وواقعية حول حرب الخليج، إنما كانت صورا أعدت داخل أستوديو تلفزيوني"، بمعنى أنه ، يضيف غويتيسولو" كان هناك خداع ومناورة، وهو ما فتح عيني أكثر".
غويتيسولو لم يتوقف عند صور أو مضمون الخطاب الدعائي الذي تتبناه المؤسسات الإعلامية، في ترويجها للمعلومات التي يراد نقلها للآخرين، بل عمد إلى صد أسلوب الاستنجاد الفاضح بعبارات ملغومة ومفارقة طالما استعملت بتواطئ أو عن غفلة في تقارير لمراسلين كلفوا بتغطية الحرب، من قبيل" القنابل الذكية، والخسائر الهامشية، والعمليات المحدودة الخفيفة"، ودعا إلى تجنبها في التقارير الصحفية لأنها على حد تعبيره، تروم "إلغاء واقع طافح بالموت والدم والتستر عليه".
وبموجب ذلك، والتزاما بسلطة الوعي المترتب عن تلك الوقائع تملكت غويتيسولو الذي ألف أولى رواياته عام 1954، "ألعاب اليد"، وأخرى عام 1955 بعنوان "ألم الجنة"، ورواية" الأربعينية" عام 1990، ومن قبلها روايات أخرى في سنوات الستينات والسبعينات ، مثل "خوان من دون أرض"، عام 1975. و" مناظر بعد المعركة" عام 1982وغيرها...، تملكته رغبة في أن يكون شاهدا قريبا على تلك النزاعات ويكون صوتا آخرمختلفا لها. ويقول في هذا الصدد :" وكان من وراء رغبتي في الانتقال إلى مواطن متعددة للنزاع ، هو معرفة الحقيقة" ويضيف، " أنا مثل كثير من الناس شعرت شعورا عميقا بالخداع في حرب عاصفة الصحراء، فكبرت عندي رغبة عارمة لمعرفة واقع الحروب".
النصوص الأدبية غير المنشورة التي جاءت عكسا لتجربته في تغطية نزاعات دولية ، كانت تدعو في طياتها إلى مثل هذه المحصلات الأخلاقية التي كثيرا ما يجري التنازل عنها امتثالا لسلطة ما، أو تواطئا مع رغبة غير محايدة، وهي نصوص كتبت بحس أدبي أثناء تغطيته للعديد من النزاعات الدولية إبان العقود الثلاثة الأخيرة، في عدد من المواقع مثل حرب الخليج وحرب البلقان والحرب الجزائرية، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وغيرها. هذه النصوص "كانت شاهدة على تفاصيل تلك الحروب انطلاقا من الخطوط الأمامية"، كما يؤكد غويتيسولو الذي كان قد ألف رواية عام 1995، عن حرب يوغوسلافيا السابقة، وتدعى "مكان الأمكنة" .
وبين تلاوته لنص من تلك النصوص وآخر، كان صاحب النصوص يسترسل في التنبيه إلى أنه "لن يعود إلى تغطية أي نزاع حربي، لأنه أمر لايحتمل"، ثم يشير إلى "أن ثمة من يريد فعل ذلك "بحثا عن المغامرة"، وهذه الروح " لم تكن في يوم من الأيام قد انتابته". ويؤكد في نهاية الأمر "على أنه ذهب فقط لتسجيل شهادات حية عن تلك الحروب"، التي تترك أثرا ما على من عايشها، فيؤكد أن " لا أحد ممن عايش فداحة الحرب وعنفها عن قرب يمكن أن يعود دون أن يكون قد شهد تحولا" بفعل ذلك التأثير التي تخلفه مأساة الحروب.
ولم يفت هذا الكاتب الإسباني الذي يعيش بين باريس الفرنسية ومراكش المغربية، الإشارة إلى طبيعة التمايز والاختلاف بين التغطية الأدبية والصحفية للحرب، إذ يرى أن "الصحفي يكون مرغما على كشف المغالطات، وواجبه فضح المناورات التي يراد الترويج لها خلال أو بعد تلك الحرب، لكن الكاتب فرهانه الأول فيكون هو الأدب، إذ يراهن على المطالب الجمالية بالإظافة إلى الدفاع عن القضايا العادلة".
روايته "مكان الأمكنة" التي دارت عن حرب سراييوفوا، كانت إحدى متونه التي اختار منها إحدى نصوصه وتلاها في المناسبة ذاتها، ليكشف صيغة من صيغ المعالجة الأدبية لتلك الحرب كما عكسها الحكي في "مكان الأمكنة".
وبخصوص تجربته في سراييفوا ، قال غويتيسولو،" إن الكاتبة الأمريكية سوزان سونتانج هي التي أقنعته بضرورة التوجه إلى سراييفوا ". فقصدها بعد أن تزود بوثائق تتضمن معلومات دقيقة عن الوضع العام والخاص للمنطقة. وقال غويتيصلو " لقد قضيت بعضا من الوقت أحلل من خلال ترجمات للخطاب الوطني الصربي والكرواتي المتطرفين، الذي كان خطابا نظيرا لايمت للواقع بصلة ، لكن حينما اتصلت بالواقع ، كان ذلك الأمر صادما، وكان عنيفا وقاسيا، وهناك انبثقت عندي أسئلة حول الكيفية التي يجب أن يعالج بها الأدب والصحافة موضوعا مثل موضوع الحرب".
وفي سياق تنبيه الكاتب، الذي يعد من أبرز المثقفين الأوربيين الذين يدافعون عن القضية الفلسطينة وقضايا عربية أخرى، على ترسانة الصيغ والتعابير والتصورات الجاهزة التي تستعملها عادة المؤسسات الإعلامية الغربية حينما تتناول قضايا مرتبطة بالعرب والمسلمين. وأورد مثالا متداولا في الخطاب الإعلامي الإسباني حتي يكون أثره البلاغي نافذ ا في جعل أولئك المتلقين الذي كانوا في غالبيتهم صحفيين، يقفون على الخلل التركيبي والقيمي والأخلاقي والمهني لتلك الصيغ والتعابير، فقال:" كلهم يقيمون اختلافات بين أن تكون باسكيا، وأن تكون وطنيا باسكيا، وأن تكون إرهابيا باسكيا، وهو الأمر الذي يجب أن يتبع كذلك عند التمييز بين أن تكون مسلما و تكون إسلاميا، وتكون إرهابيا".
هكذا كانت تلك النصوص التي أشار غويتيسولو إلى أنها ستنشر بصحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية مستقبلا، متونا أدبية تكشف الوجوه المقنعة للحروب، وتشير إلى صورها القبيحة، وتحث في المقابل على التزود بالإحساس المتحرر من قيود الدعاية ومن سطوتها، والتحلي بقيم التحقق والنزاهة حتى تتجلى الوقائع "بأصوات متعددة". فالحقيقة تكمن دائما في التعدد.