عالم الأدب

مدرسة تبريز وأسس التحديث في ايران

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كتاب "مدرسة تبريز وأسس التحدبث في ايران" الصادر مؤخراً بطهران هو الجزء الثاني من كتاب "تأملات حول الشأن الايراني" للمفكر الدكتور جواد طباطبائي. وقد لاقى الجزء الأول اهتمام الأوساط الثقافية والاكاديمية خارج ايران، خصوصا في المانيا، وقد صدر عن دار نشر "نكاه معاصر" عام 2000 تحت عنوان "مقدمة لانحطاط ايران"بدعم من مركز الأبحاث العليا ببرلين )Wissenschaftskolleg Zu Berlin)ومعهد العلوم السياسية التابع لجامعة سيراكيوز الأميركية.
يرى المفكر الأميركي ويليام بارت أحد تلامذة الفيلسوف الألماني مارتين هايدجر، في اربعينيات القرن الماضي، إن على المؤرخ أن يمتلك رؤية فلسفية للتاريخ، وضرورة أن يطلع الفلاسفة ومن اجل فهم جيد للأفكار على ظرفها التاريخي. فتاريخ الفكر هو تاريخ الأمم، وأن الأفكار هي الحاضنة الأساسية للحدث التاريخي. وربما من منطلق مقارب لهذه الرؤية يقدم طباطبائي قراءته للتاريخ الايراني، فان كانت المواضيع المهملة تؤلف المحور الأساس في أبحاث ودراسات الفيلسوف الاجتماعي، فإن المؤلف لم يغفل القضايا المستبعدة في كتابه هذا فحسب، إنما منحها أهمية فائقة على غرار مؤلفاته السابقة ومنها كتابه الهام " جدل القديم والحديث"وهو بحث في نشوء الأفكار الحداثية من صميم الفلسفة القروسطية.
إن فهم جدل القديم والحديث يتطلب في واحد من شروطه، استيعاب المخاض الأول للافكار الحديثة وانبثاقها من داخل المنظومة الفكرية التقليدية، ولا بد من اجل التعرف الى منظومة المفاهيم والمضامين الفكرية للكاتب من اضاءة افادة طباطبائي من الرافد الهيغلي وتنظيراته المهمة بشأن الجدل بين القديم والحديث، خصوصا وان اطروحته التي نال عليها شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون حملت عنوان"الفكر السياسي لهيغل الشاب".

يعتمد الكاتب معركة جالدران بين ايران و الامبراطورية العثمانية نقطة انطلاق لبحثه في بدايات صراع القديم والحديث في الفكر الايراني، اذ مع هذه المعركة وقف الايرانيون على تخلفهم في مواكبة العصر والأمم الأُخَر،خصوصا وان سبب الخسارة هو استعمال العثمانيين لأسلحة متطورة، فيما خاض الايرانيون المعركة باسلحة تقليدية، ومع هذه المعركة أيضا، دخلت ايران الى الساحة الدولية، ابان العصر الصفوي تحديدا،وشهدت تأسيس الدولة الوطنية الحديثة، فيما شهد العالم النهضة الاوروبية. ويلاحظ الكاتب ان بالتزامن مع عصر الحداثة في الغرب وانبثاقها على خلفية الجدل الدائر في التراث الفكري، ترسخ التراث في ايران وقد حافظ على عنصر واحد من عناصره المكونة الثلاثة،أي التراث الفقهي الاسلامي واغفل التراث الفلسفي اليوناني والتراث الايراني قبل الاسلام.
إن النقطة المضيئة في العصر الذهبي الاسلامي حسب طباطبائي تتمثل بالتسامح والحوار بين الأديان والمذاهب، وهي سمة زالت من الحياة الفكرية مع هيمنة الاتراك على مركز الحضارة الاسلامية، واخلت مكانتها للتعصب والقسوة والعنف وهو ما تسبب حسب الكاتب بالجمود الفكري.

يؤيد الباحث في جزء من أطروحته آراء المفكر الايراني أحمد فرديد الذي راى أن انطلاقة الحضارة الغربية تزامنت مع بداية التخلف الفكري في ايران، ولكنه على خلاف أبرز المفكرين الايرانيين مثل داوري اردكاني وحسن نصر وداريوش شايغان،الذين أشاروا الى التراث دون أن يقدموا تعريفا له، يقدم رؤيته وتعريفه للتراث، ومن المعروف أن هولاء المفكرين تأثروا بأفكار الفيلسوف الدانماركي الوجودي كيركيغور في نقده لاراء هيغل الفلسفية المرتبطة باللاهوت، فاعتراض كيركيغور على هيغل ان ما يطرحه لم يعد دينا. فالدين هو قناعة تامة يصفها الشاعر الايراني الشهير حافظ الشيرازي بشجرة سرو تهتز فوق رأس المؤمن، وهو مما لا يمكن البرهنة عليه بواسطة العقل الحديث. في مقال عنوانه" صادق هدايت والسقوط في الحفرة اليباب للأدب الفرنسي" ينظر أحمد فرديد للتحدار الثقافي "والودائع والامانات الثقافية" باعتبارها عناصر تؤكد حيوية الحقل الثقافي من منظور لغوي :"ان الامانة التاريخية الايرانية فقدت ومنذ أمد طويل عنصر التفكير وبذلك تحول التراث الى مجموعة من الآداب والعادات والتقاليد المتحجرة"لكن فرديد يتحاشى هو الآخر تقديم تعريف لمعنى التراث الايراني او "مأثرة المأثورات"على حد تعبيره، أما طباطبائي فيؤكد أن التراث الفكري الايراني يتكون من العناصر الثلاثة الآنفة الذكر، وهو بذلك يتمايز عن مفهوم التراث حسب البرفسور حسن نصر ذي الطابع الفقهي والشرعي، وعن وجهة نظر الدكتور داريوش شايغان الذي يعتمد مقولة المستشرق الفرنسي هانري كوربان في كتابه آفاق الفكر المعنوي في الاسلام الايراني "اذ يعتقد ان الفكر الاشراقي هو مصدر الفكر الايراني.
يكتب شايغان في كتابه تحت سماوات العالم عن الشيزوفرينبا او الانفصام الايراني ويرى ان هذه الظاهرة هي نتيجة احتكاك الثقافة الايرانية بالثقافة الغربية، وهو استنتاج نابع من عدم الوقوف على محطات مهمة في المنحى العقلي للثقافة الايرانية، فقد أغفل شايغان دور فلاسفة عقلانيين كبار أمثال ابن مسكويه، واذا كان شايغان قد صرح في كتابه "تحت سماوات العالم"ان كانط هو الأنسب للايرانيين بالمقارنة مع هايدجر، لكن كتابه اللاحق والذي حمل عنوان "ازاحة السحر" خلا تماما من اي تأثير لكانط، وفي هذه المجال يرى مؤلف كتاب مدرسة تبريز، أن الفكر العقلاني اليوناني ليس غريبا على التراث الفكري الايراني، ويلاحظ ان الفكر الايراني في العصر الاسلامي جامع شتات ووحدة في تنوع عناصر الثلاثة،أي الحكمة الايرانية السابقة للاسلام التي أسست للمدنية والفلسفة اليونانية والشريعة الاسلامية،وبذا يوجه طباطبائي نقده للكتاب الذين أكدوا انتفاء التفكير في التراث الديني، وشددوا على هامشية التفكير عند الايرانيين بسبب نزعتهم الدينية ونظرا للفروق الجوهرية بين الثقافة الدينية والمعرفة الفلسفية، اذ تتصف الاولى بارتكازها على الشريعة التي تفرض بدورها منظومة كاملة من العادات والتقاليد والممارسات على الشعوب المعتنقة للدين، ان فن اللاتفكير هو سمة الشعوب المتدينة، فيرده على القائلين بحتمية فشل المشروع التنويري الايراني بسبب هيمنة الخطاب الديني، يتخذ طباطبائي من مشروع النهضة الاوروبية الذي انبثق من فكر القرون الوسطى مثالا ودليلا، ويرى أن ثمة معياراً للتواصل في الفكر الايراني مع الفكر العقلاني وأن الشعور بالهزيمة الذي هيمن على المفكرين الايرانيين دفعهم لتقديم اسباب غير واقعية، فبأي معيار عقلي يمكن القول بولادة الفكر الفلسفي الحديث من صلب الفلسفة القروسطية وبحتمية توقف الفكر الديني الاسلامي وفشله في التواصل مع الارث العقلاني، ويلاحظ المؤلف ان السبب الرئيس الذي عاق النهضة الايرانية يكمن في الشعور بالهزيمة التي صعقت نخبة المثقفين، بسبب هزيمة ايران في حروبها مع روسيا القيصرية، وهو سبب لم يحل دون دخول ايران الى العالم الجديد.
وعلى خلاف عدد من المفكرين الذين عرّفوا الفكر بصفته حركة من الباطل الى الحقيقة، وهو تفسير عرفاني ذائع في الثقافة الايرانية بدءاً من الترجمة الفارسية لكليلة ودمنة ومروراً بمقدمة قيصري لفصوص الحكم، يقدم طباطبائي تعريفا آخر يرى فيه الى الفكر باعتباره حركة من "المبادي الى المرادي"وفي هذه الغائية يكمن الجوهر الذي يجمع ابن مسكويه الرازي مع سائر الفلاسفة الايرانيين العقلانيين. كما يشدد المؤلف على مكانة الفقه في الموروث الفكري واعادة الاعتبار اليه مع الحركة الدستورية عام 1906،باعتباره عنصرا فاعلا في المنظومة الحقوقية الجديدة، ويشير في أكثر من موقع في هذا الصدد بالسجال الذي أثارته أفكار رجل الدين المتنور آية اللهمحمد حسين نائيني في داخل الاوساط الفكرية التقليدية. واللافت في آراء طباطبائي أنها تتضمن رفضا قاطعا لأية دعوة لتجديد للاصلاح الديني من داخل المنظومة الفقهية "الشريعة"، ويعتبرها الكاتب عديمة القيمة لأن مضمون الاصلاح الديني يتباين مع المفاهيم الدينية والتي هي فقهية أساسا، وعلى هذا اعتبر الكاتب ان ماثرة فقهاء ثورة الدستور "المشروطة" تمثلت بمساعيهم الجادة لتطوير حقل الحقوق الاسلامية، كاستجابة لضرورة حياتية، وهم بذلك تجنبوا الوقوع في الاستنساخ الحرفي للنهضة الاوربية بطابعها المسيحي. ومع البدايات التي مهدت لثورة الدستور، ظهر عصر ايراني أطلق عليه المؤلف بدايات العصر الايراني الجديد، إن المعيار الحاسم في تكون العصر الايراني الجديد يتلخص باعاد قراءة التراث الفكري السالف قراءة تحليلية تنأى عن التجريد والعموميات كما تقتضي وعي الفرد الايراني بمكانة بلاده في التاريخ والحاضر، وان تعرض لتزييف كبير من قبل التأويلات الأيديولوجية، ان ظاهرة المثقف المؤدلج هي من هذا المنطلق ظاهرة عرضية سلبية.
التاريخ، حسب طباطبائي هو "مكان تبلور وعي الأمة"،والوعي الوطني الايراني تزامن مع الشعور بالهزيمة التي لحقت بايران في حربها مع روسيا القيصرية كما سبقت الاشارة، والخوف من تجزئة ايران ومحوها من الخارطة، وأخذا بأهمية العناصر الثلاثة في أية قراءة تحليلية، أي الزمان والمكان والفاعل، فان زمن الوعي الايراني هو المقطع التاريخي الذي شهد الهزيمة التي منيت بها ايران في حربها مع روسيا، والمكان هو دار السلطنة في تبريز"، واللاعب الاساس الذي لعب دور رأس الحربة في الوعي الوطني الايراني الحديث هو نائب السلطنة عباس ميرزا قاجار، فهو حسب طباطبائي الرائد في طي بساط القديم وقد بدأ مشروعه التحديثي من دار السلطنة بمدينة تبريز.
ولا يغفل الكتاب العلاقة الجدلية والعضوية بين السياسة الداخلية والخارجية، فثمة توكيد إن السياسة الخارجية ادامة واستكمال للسياسة المتبعة في داخل البلد، اذ يستحيل ان تتبع دولة ما سياسة قمعية داخل حدودها، وتنتهج سياسة خارجية مبنية على السلم والنزعة العقلانية في سياستها الخارجية، وبذا يكون الاستقرار الداخلي بحكم الارضية الممهدة لسياسة خارجية متزنة، وبديهي ان الخزي والعار في المنظومة السياسية الحديثة لا يذكر بأخلاق الأفراد والشخصيات السياسية وانما بعجز الدولة في تحقيق المصلحة الوطنية واخفاقها في تنفيذ ارادة الأمة، وقد أثرى طباطبائي هذه النقطة في كتابه "جدل القديم والحديث"حينما تطرق الى مفهوم المصلحة العامة كمعيار للفكر السياسي في الغرب منذ ارسطو، وهو مفهوم حديث بالنسبة للفكر السياسي الايراني المعاصر، وقد أوضح المؤلف اختلافه مع مفاهيم الاستصلاح والاستصواب والاستحسان والمصالح المرسلة التي عرفتها مذاهب أهل السنة، فمعيار المصلحة العامة في الفكر اليوناني هو الحسن والقبح العقلي، على خلاف الحسن والقبح الشرعي في الفكر الديني.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف