قراءة في حيث لا ينبت النخيل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بيروت من جورج جحا(رويترز) - قراءة كثير من الاعمال الادبية وبشكل خاص الشعرية التي تصدر لعراقيين هذه الايام قد تجعل القارىء معلقا بين عنوانين عريضين يدرجها فيهما.. الاول هو البكاء على اطلال الاوطان وعلى الاحبة والثاني قد يصح ان يعطى اسم "احزان عراقية". وذلك لان كثيرا من هذه الاعمال سواء منها الذي يعود الى مهاجرين او "مهجرين " او الذي يكتبه مقيمون وسط الكثير من الموت والدمار يعكس شعورا بالغربة والاسى والحنين الى ايام مضت تبدو الان فردوسا مفقودا ويملا تذكرها العيون بالدمع والحناجر بالغصات. قصائد مجموعة عبد الكريم هداد الشعرية التي حملت عنوان "حيث لا ينبت النخيل" تشكل من حيث مضمونها نموذجا لهذه السمات وان بدت في اسلوب التعبير مترجحة بين انماط مختلفة. بلغ عدد القصائد 52 قصيدة توزعت على نحو 150 صفحة متوسطة القطع وصدرت المجموعة عن "دار المدى" في دمشق.
الشاعر العراقي سعدي يوسف الذي قدم للكتاب اشار الى ان القصائد التي كتبت بين سنة 1982 وسنة 1994 بينها 23 قصيدة كتبت في السويد. والسويد اعتبرها كثيرون منفى من اهم "المنافي" العراقية في بلدان برد الشمال الاوروبي. قال يوسف إن القصائد "السويدية" تجنح إلى "القصر والتكثيف (باستثناء واحدة تجاوزت الصفحة الواحدة).. وتحاول ان تتحرر من بلاغات معينة يتواتر استخدامها في عموم الشعر العربي قديمه وحديثه... واعتقد انها تمثل تحولا نحو الافضل في كتابة عبد الكريم هداد... كما اننا نجد الرغبة في الاندماج بالمحيط وان لم يكن اندماجا اجتماعيا فليكن اندماجا بالطبيعة" التي وصفها يوسف بالطبيعة الجديدة اي السويد "الحديقة التي لا ينبت فيها النخيل لكنها أكثر من صالحة لانبات نصوص مختلفة الثياب."
هداد ابن مدينة السماوة العراقية استهل المجموعة بما بدا شبيها بنسغ حياة مميز يجري في الشعر العربي منذ الجاهلية وصولا الى المنافي العربية والعراقية الحديثة المختلفة.
القصيدة الاولى "وداعا" التي كتبت سنة 1982 في الكويت تظهر بعض ما قد يؤخذ على اسلوب هداد المكبل لسريان تجربته التي لا تنقصها الحرارة والقدرة على الايحاء. انه يكبل نصه احيانا بتمسك لا مبرر له بما بما قد يكون الشاعر اعتبره قافية وهو في الواقع اقرب الى السجع في النثر. يشكل هذا شأنا نابيا لا ينسجم مع اجواء القصيدة.
يفتتح الشاعر القصيدة بما يشكل بابا واسعا للايحاءات الواسعة الاحتمالات. يقول "عندما ودعته..." لكن بعد ذلك ينزل السطر التالي وما بعده القارىء من قمة في التوقع والاستعداد للمرهف.. فيهبط به الى وهدة توصف في افضل حال بانها خيبة. يتبع ذلك اي بعد "عندما ودعته" بالقول "لم يقل الى لقاء/ ولم يرم خلفي الماء/ كما فعلت امي/ عندما هجر اخوتي البلاد../ المتخمة بلافتات الغباء/ وقصائد المخبرين الشعراء/ اه يا بلاد السواد/ عندما ضاقت الدنيا بنا/ والسماوة وبغداد/ وسقط الفارس عن فرسه/ وكبا الجواد..." ويتكرر هذ الامر الذي يبدو مفتعلا ودخيلا على التجربة الشعرية ويسيء اليها في عدة قصائد اخرى منها قصيدة "اريد" حيث يقول "اريد وطنا/ خاليا من ذئاب الحجاج/ خاليا من رائحة النفط والرصاص/ خاليا من زور الكتبة/ سرقوا حروفي وخطبة الحلاج/ و"لحسوا" احذية الجلاد."
ويبدو ان الاتيان بهذين السطرين بثقل القافية المفروضة يقضي على ما قد تكون مقدمة القصيدة الحرة قد اثارت في النفس من امل وتوقع. وهذا الافتعال او ربط النفس الشعري الحار بقيود مكبلة تقضي على الحرارة الشعرية وتستعيض عنها بميكانيكية ميتة باردة. يتكرر ذلك كما نقرأ في قصيدة "نخلك ..نخل السماوات" التي تبدأ بوعد وايحاء في سطريها الاولين لتسقط بعد ذلك في كلام "مصفوف" فارغ من الايحاء. نقرأ هنا قوله "غيوم/ تضفر السلسبيل/ والسماوة بشعرها الجديل/ تتمشى على جنح الفؤاد/ كلمسة الورد لخد الخليل". نجد الفرق والتطور اللذين اشار اليهما سعدي يوسف متمثلا في قصيدة "سويدية" عنوانها رمزي هو "سفينة نوح" في اشارة الى من تحمل من ناجين من الموت في بلدهم ليلجأوا الى عالم البرد الشمالي. وعلى رغم انطلاقه بما يذكر باسلوبه القديم لكنه سرعان ما يتفلت منه لياتي بشعر مختلف يتحدث فيه عن السفينة الراسية في مدينة يوتوبوري السويدية.
يقول في القصيدة بعد البداية "حينما يذهب صباحا/ حاملا حقيبته المملؤة بالنجوم/ تغني نوارس الميناء في يوتوبوري/ على شباك سفينتي/ فينسكب في الجراح/ موج/ وعلى مخدتي/ يغفو الحزن ناحلا.../ صباحا.../ من دون صوت فيروز/ اشرب قهوتي/ صباحا.../ ابتسم لعاملة المطعم/ وابحث عن اسمي في لوحة الاعلان.../ عن رسالة من البعيد".
وقد تكون قصيدة "صمت" وقصيدة "اعتراف" من افضل النماذج التي تعبر عن التحول نحو الافضل عنده. يقول في الاولى "الليالي/ تنهش تفاصيل غابة الصفصاف/ التي تملأ السويد../ صمت الجدار/ يحدق في وجهي/ وتلك الستائر/ اي الاصابع تداعبها/ في مثل هذه الساعة/ من الليل البارد".
وفي "اعتراف" يقول هداد "اعترف../ انني حزين/ اعطني فرحا/ يمسح دمعتي/ او قطعة ثلج/ تنخفض بها/ حرارة صرخة الصمت/ في قلبي".