العمارة الاسلامية: التناصية وفعاليات التأويل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يتناول المقال احد تصاميم المعمار الدانمركي المشهور عالميا " يورن اوتزن " (1918) Joslash;ran Utzon، وهو مبنى مصرف " بانك ميلي " في طهران بايران؛ منظورا اليه (الى التصميم) عبر مفهوم التناص وفعالية التثاقف ومساعي تأويل قيم العمارة الاسلامية، العمارة التى اسهمت في تشكيل جزءا اساسيا من مرجعيات المعمار المهنية والثقافية، وفقا لاعترافه الصريح بذلك. والمقال جزء من بحث واسع يتعاطى مع مفهوم " التناص المعماري " في اعمال المعمارين الدانمركيين العاملين في منطقتنا بالشرق الاوسط.
يمثل تصميم ومن ثم تنفيذ فرع المصرف الوطني " بانك ميلي " Melli Bank في طهران / ايران (1959)، اول مناسبة واقعية لالتقاء المعمار " يورن اوتزن " تصميما مع بيئة اسلامية. وتزداد اهمية هذا اللقاء التصميمي كون احد الاستشارين والمساعدين في عمليات التصميم والتنفيذ كان " هانس مونك هانسين " Hans Munk Hansen - المعمار المختص والباحث في العمارة الاسلامية. وقد حرصا الاثنان معا ً في اخراج الفكرة التصميمية للمبنى الى حيز الوجود بشكل يتطابق مع تصوراتهم المتشكلةعن خلفياتهم الثقافية المميّزة وادبيات ثقافة قبول " الاخر" والاعتراف بمنجزه التصميمي .
جاهد " اوتزن " كثيرا في ان تكون تقصياته التصميمية لمبنى المصرف عاكسة بوضوح تصوراته المشكلة لنهجه المعماري المتفرد من ناحية، ومن ناحية آخرى، طمح لان يكون التكوين متضمنا ً ادراكه وفهمه الخاصين للعمارة الاسلامية؛ العمارة التى ما انفك يشهر افتنانه بها وبقيمها التكوينية، وفي الاخص تعاطيها مع مفهومي " الفضاء " و" الضوء ". اذ لم تكن قيم العمارة الاسلامية ملهمة له فقط في الاشتغال على التصاميم المخصصة لمنطقة الشرق الاوسط، كما يشير الى ذلك " هانس مونيك هانسين "؛ وانما كانت تلك العمارة موحية ايضا له في معالجة تكوينات تصاميمه الاخرى. لكننا يتعين علينا الاشارة بان نزعة التفرد التصميمي لدى " اوتزن " وعدم مجاراته ما هو شائع ومألوف في المشهد المعماري العالمي، والذي تكرس بوضوح في تصميم " دار اوبرا سدني "، التصميم الذي فاجأ الوسط المعماري بشكله النفيس والاستثنائي، المنطوي عن قصد في النأي بعيدا عن " مسلمات " قيم العمارة السائدة وقتذاك، والتائق لايجاد بديلا عنها؛ هو الذي افضى في النتيجة لان يكون خيار لغة مبنى المصرف لغة غير مسبوقة ونادرة في آن، انطلاقا ً من مسعاه في ايجاد مقاربة تصميمية خاصة به؛ بالتوازي مع سياق الافكار التجديدية الذي انطوي عليه المشهد المعماري العالمي والذي استهله " لوكوربوزيه "، برائعته التصميمية في " كنيسة رونشان " (1955) في فرنسا. وليس من دون دلالة توقيت زيارة " اوتزن " لمنشاءات جنديكار " الكوربوزيويه " بالهند قبل الشروع في اعداد تصاميم المصرف، وابداء اعجابه العميق بما يجرى هناك.
تألفت محتويات مبنى فرع المصرف من فضاءات قليلة ومتواضعة: قاعة رئيسية لمعاملات الزبائن اليومية بالاضافة الى مكاتب ادارية لموظفي المصرف واخرى خدمية، وقد اضيف لاحقا موقفا للسيارات اسفل المبنى اثناء مراجعة المتطلبات بين المعمار ورب العمل. اقترح " اوتزن " حلا معماريا واضحا لتنظيم احياز المبنى،فهناك قاعة فسيحة وعالية مخصصة لاجراء المعاملات المصرفية اليومية، يشتمل فضاءها على طابق نصفي مخصص لموظفي المصرف، يعلوه وبنفس ابعاده تقريبا طابق ادراري آخر. ثمة سلم مفتوح بجانب الجدار يصل ارضية القاعة مع منسوب الطابق النصفي، كما يوجد سلم آخر في منتصف فضاء المصرف، لكنه يختلف عن نظيره المقتوح كونه مغلق ومحاط بجدار دائري، يحدد موقعه بداية التباين الوظائفي حيزيّا، التباين المؤكد ايضا باختلاف المناسيب للارضية التى تعرّف نوعية تلك الفضاءات وتمنحها استقلالية وظائفية . واستثمر المعمارعرض قطعة الارض كاملا لغرض " فرش " فضاءاته التصميمية، اذ استخدم جدرانين متوازيين لصق المبنيين المجاوريين لقطعة الارض بالاضافة الى جدار ثالث وضع بامتدادهما يعزل مدخل موقف السيارات عن فضاءات المصرف الاخرى، وشغل الجدران الثلاثة كاساس للمنظومة الانشائية التى ترفع التسقيف ذا الاشكال والمناسيب المتنوعة والمتباينة. تنحسر كتلة المبنى داخليا في عمق الموقع، بعيدا عن خط حدودها مع الشارع؛ وهذا الانحسار تم اجراءه في كلا الجانبين: الامامي والخلفي. ثمة منصة مرتفعة يرتقى اليها ببعض درجات، تشكل توطئة فراغية قبل الدخول الى المبنى مهمتها عزل ضجيج الشارع ومرجه وهرجه عن احياز المبنى؛ التى يمكن للمرء ان يدلف اليها عبر بوابة فتحت ضمن الجدار الزجاجي الممتد على طول الواجهة. استخدم المعمار على نطاق واسع منظومة التصميم الداخلي المفتوح Landscape اساسا لترتيب الفضاءات الادارية والمتكونة من معتكفات ومجاميع مكتبية موقعة بشكل حر، ومقسمة بواسطة قطع الاثاث المكتبي.
تحضر اطروحة "اوتزن" التصميمية الخاصة به في عمارة "بانك ميلي" تحضر حضورا بليغا ً في الحل التكويني للمبنى؛ تلك الاطروحة المعتمدة على ت
قد تبدو احالات المعمار الى الموروث المعماري الاقليمي، فيما يخص اسلوب الانارة السقفية، قد تبدو مقبولة كثيرا ومقنعة جدا؛ لكننا نعتقد بان طبيعة ثقافة " اوتزن " المعمارية وما اتسم به مناخات تلك الثقافة من خصوصية مهنية لعبتا دورا لا يستهان به في التركيز على استخدام تلك المفردة التصميمية؛ اذ ظلت منظومة الانارة السقفية حاضرة دوما في غالبية تكوينات المباني الاسكندينافية الحديثة، منذ ان وظفها " الفار آلتو " على قدر كبير من الحداثة والتفرد في مبناه الشهير " مكتبة فيبوري " (1927-35) Viipuri Library الواقع بفنلندا حينذاك؛ lt; يقع المبنى الان في اراضي روسيا الاتحادية gt; وباتت منذاك المفردة التكوينية المفضلة لاكثرية المعماريين الممارسين في عموم اسكندينافيا. بمعنى آخر لم تحظِ منظومة الانارة السقفية، في اعتقادنا، بمثل ذلك الاهتمام العميق من قبل " اوتزن " لولا شيوع توظيفات تلك المفردة التكوينية في الممارسة التصميمية الاسكندينافية.
بالطبع هذا لا يقلل باي حال من الاحوال من مصداقية مرجعيات " اوتزن " المعمارية التى طالما اشار بشكل صريح الى مساهمة قيم العمارة الاسلامية في تشكيل تلك المرجعيات. بالنسبة الى اهتماماتنا التى تتعاطى مع موضوع " التناص المعماري "، يعتبر هذا الامر غاية في الاهمية؛ فعندما تغدو مفردة تكوينية في ثقافة ما امرا مألوفا وقريبا من سياق ممارسة بنائية لثقافات آخرى، فان أهمية مثل هذه المفردة التكوينية تخرج من نطاق دلالاتها المحلية او الاقليمية لتضحى جزءا مكملا من مفهوم تصميمي يكون قادرا على ان يثري الممارسة المعمارية العالمية ويمنحها نكهة متفردة.
وفي الاحوال كافة، فليس المهم هنا في " بانك ميلي " استنباط افكار تصميمية جديدة، بقدر ما يهم " اوتزن " lt; كيفية gt; عمل تلك الافكار طبقاً لفعالية التأويل الذاتي لها. فهو على سبيل المثال انكب على دراسة مفردة الانارة السقفية في مقترح " الفار آلتو " لمشروعه " متحف الفنون الجميلة " ببغداد (1957-58)، والذي لم ينفذ في العاصمة العراقية، (لكن شبيه نفذ لاحقا ً في مدينة "البو " Aring;lborg الدانمركية lt;كمتحف لفنون شمال يولند gt; في 1968-72)، والتى اعتبرت الانارة السقفية فيه عنصرا ً اساسيا ً، ورغم ان " اوتزن " تعامل ايضا مع هذه المفردة،الا انه اقترح لنا في " بانك ميلي " اسلوبا جديدا ومختلفا ً عن تلك الحلول التى تعاطت مع مثل هذه الفكرة التكوينية القريبة الى قلب المعمار الاسكندينافي . فلجأ الى استخدام مجموعات من جسور خرسانية على شكل حرف (V) اللاتيني، ممتدة على امتداد باع Span عرض المبنى بحيث تتراكب نهاياتها الواحدة في الاخرى تاركة مجالا زجج بالواح زجاجية تسمح بعبور الاضاءة الى داخل الفضاءات المصممة. واستثمر المعمار سطوح الاعماق الكبيرة المائلة للجسور الخرسانية بغية تشتيت حزم الاضاءة الداخلة وتحييدها؛ مما جنب الاحياز الداخلية المصممة سلبيات اشعة الانارة المباشرة والوهج الشديد المرافق لها.
يوظف " اوتزن" المعالجات الفضائية في " بانك ميلي" للتأكيد مرة اخرى على اهمية حضور المكان في التصميم المقترح. وتتجلى هذه الفعالية بوضوح في تصميم فضاء القاعة الرئيسية في المصرف ، التى يستثمر فيها التقاليد البنائية المحلية الشائعة فيما يخص تراتبية الاحساس بالفضاء المصمم؛ فيعمد على خلق مجال مساري ينقل الزائر من فضاء واطئ ومظلل الى فضاء عالي ورحيب ملء بالضياء. اذ يعمد " اوتزن " على جعل زائر المصرف الداخل الى المبنى من خلال الواجهة الرئيسية ان يمر عبر فضاء واطئ يعلوه نتوات جسور السقف المتكسر، ثم يعقبه الفضاء الرحيب المشوش " بصخب " وحدات الجسور المائلة التى تشكل سقف المبنى؛ في حين يظل زائر او موظف المصرف من الجهة الخلفية الاخرى سائرا تحت سقف الطابق النصفي الواطئ بعد ان يجتاز سقيفة المدخل الخفيضة والمتكونة من جسور متكسرة ليصل بعد ذلك الى فضاء القاعة الفسيح. وفي الحاتين يود المعمار مرة اخرى الى تذكيرنا بذات الاحساس المفاجئ، المتأسس عن تراتبية تسلسل الفضاءات المصممةالذي يشعر به زوار فضاءات الابنية الاسلامية المهمة، والتى وجدت تنطيقا لها في فضاءات المساجد الجامعة وتحديدا كما في فضاءات مسجد اصفهان الكبير مثلا، المسجد المفتون بعمارته المصمم الدانمركي!. ويعرب اوتزن " عن سعادته كون شكل مسار حركة الجسور الخرسانية المؤلفة لسقف القاعة الرئيسية يشبه الى حد كبير حركة رسم وانسيابية الحروف العربية لاسم " بانـك مليّ ايـران " مكتوبة بالخط الفارسي .
ورغم تواضع ابعاد كتلة مشروع " بانك ميلي "، ومع ان تاريخ تصميمه يقع ضمن مرحلة السنين المبكرة من نشاط المعمار المهني، فقد تطلع " اوتزن " منذاك الوقت لان تكون قراراته التصميمية الخاصة بالمصرف عاكسة بشكل واضح ومباشر اهتماماته العميقة بقيم العمارة الاسلامية، القيم المضافة الى ثقافته والمقروءه مجددا ً. كما نرى في عمارة " بانك ميلي " تمرينا تناصيا بامتياز حافلا بدلالات مفاهمية ربما عبرت عنها فعالية " التناص " التى تحيل كيان النص المُبتدًع لقرارات تصميمه ارتبط وجودها بكيانات لنصوص معمارية عديدة مستلة من خزين الذاكرة الجمعية للمعمار وبتآلف ندّي مع ذاكرة " الاخر ". لقد ارسى " اوتزن " من خلال عمارة " بانك ميلي " مقاربة تصميمة لم تكن مألوفة كثيرا في الممارسة المعمارية العالمية، عندما حرص بالنأي بعيدا عن ولع الاستخدامات الشكلية لعناصر العمارة الاسلامية، مهملا بتقصد نهج المُعـارَضَة " الباستيشي " Pastiche الشائع في التعاطي مع تلك العمارة؛ مرسخا اسلوب ادراك وتحليل كنه المفاهيم الخاصة التى تميز منجز العمارة الاسلامية، والتى بمقدورها ان تمنح المصمم باقة من الحلول التكوينية المختلفة، انطلاقا من نوعية ذاك الادراك ومدى عمق ذلك التحليل. وبهذه المقاربة المجتهدة فان " اوتزن " ساهم مساهمة فعالة في وقت مبكر في تهشيم " التمركزات " الثقافية، معترفا باهمية حضور " الاخر " ومقدرا لمنجزه في اثراء الثقافة الانسانية عموما.
في الكثير من العناصر التكوينية المستخدمة في عمارة " بانك ميلي " سنجد لاحقا توظيفات هيئاتية شبيه لها، ويخبرنا " هانس مونك هانسين " بان فكرة اسلوب استخدام الجسور المستعرضة في فضاء القاعة الرئيسية بمبنى " بانك ميلي " بطهران، سبق وان استخدمها " اوتزن " في مشروع لم ينفذ لمبنى معمل بالمغرب عام 1947؛ وسنجد تصاديا لتلك الفكرة المستخدمة في سقف " بانك ميلي " لاحقا ً في كنيسة " باسفيذ " Bagsvaelig;rd (1976) المشيدة في ضواحي العاصمة الدانمركية.
وفي الاحوال كافة فان أهمية عمارة " بانك ميلي " تتأتى ايضا بكونها المبنى الاول المصمم من قبل " اوتزن " والمشيد على الارض الاسلامية، وبه اختبر المعمار قناعاته التصميمية ذات المرجعيات المتنوعة، وشكل تنفيذه الواقعي حافزا مهنيا لتصاميم آخرى منفذة وغير منفذة، سوف يشتغل على تكويناتها المعمار الدانمركي وتحضر فيها تلك التوليفة المبدعة والقراءة المتجددة للمصادر المتنوعة بصورة لافتة؛ وهذه التصاميم التى نشير اليها لم تكن فقط مخصصة لمواقع في بلدان اسلامية وانما شملت ايضا تصاميمـه المعدة الى بلده: الدانمـرك؛ والتى سنـأتي على ذكرها وتحلـيلها لاحـقا ً.
مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون