عالم الأدب

السينما ولعبة الأحلام

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عبد الله كرمون من باريس: سبق أن رأينا جميعا كيف وظفت السينما السوريالية تداخل الحلم والواقع، خاصة في الحدة الدموية لدى صاحب "كلب أندلسي" حد التحرش على الدم. "علم الأحلام" الذي يعرض iذه الأيام في قاعات السينما الباريسية حلم في السينما، على امتداد تقاطع درامي تتآكل فيه شخصية ستيفان الذي يقع تحت وطأة الثقل الفظيع المتأتي من حقيقة الواقع وقسوة تمفصلاته كلها. ليس لأن البطل اختار أن يتموقع من تلقاء نفسه في حديقة الحلم ولكن لأنه دفع إلى ذلك دفعا ووجد في فوران التيهان في الحلم غيابا هاما يليق أكثر من أي حضور في عالم يصير فيه ضريرا.
يبدأ التمزق في الفيلم أولا من العنوان إذ يتأسس الحلم على كونه علما مثل غيره من العلوم وإن كانت كلمة "علم" هنا ليست تعني بالدقة المطلوبة خاصية معرفة مبنية على قواعد مضبوطة بدقة وإنما تشير أكثر إلى مجال قائم بذاته ومختص ببنياته في تعقيداتها وتنوعها مما يمنحه استقلالية معينة عن غيره من البنى دون أن تشتغل عبر علائقها في اطراد موزون ومحكم، ودون أن يمنعها ذلك من الارتباط بشكل أو بآخر بالبنى الأخرى المتواجدة خارجها.
الحلم إذن وعودة ستيفان من فراغ، أي من عالم لم نره ولم نر كيف مضى إليه ليعود منه وينتهي الفيلم بتلك النية نفسها في العودة مرة أخرى من حيث أتى. ولربما تتأرجح الحياة بالتالي بين ذهاب وعودة إلى ما لانهاية. أليس في الأمر إذن خلخلة لمحددات مكانية وزمانية، الهنا والهنالك، الآن والأمس وغدا، أليس يمكن أن ندرك دون مشقة أنها أيضا محددات بالغة، يجد فيها الحلم مرونته بين تخطي الفضاءات والأزمنة وغيرها. أليس الفيلم إذن بالتالي حلما. أليس الحلم إذن علما؟
أليس يمكننا أن نصنع أحلامنا عبر وصفات؟ ألسنا موضوع أحلامنا؟ وأحلامنا هي نحن؟
لم يعمد الفيلم إلى الحديث عن "الحلم" كعنصر مستقل ودخيل وإنما يشرّح شخص ستيفان "المصاب بالحلم" ما دام الفيلم في مساحات شاسعة منه هو مجرد قطع مختارة من أحلام ستيفان بتنوعها وتعدد دوافعها في التقائها كلها في بؤرة الإدراك الذي يتنازع روح ستيفان في رؤيته للعالم.
إن أردنا يمكننا القول بشكل ساذج أنه يحدث دوما أن يتداخل الواقع بالحلم في قراءة مسطحة لتفاعل مكونات الشخصية الباطنية للإنسان، غير أنه في فيلم ميشال غوندري، فالحلم هو الذي يتداخل بالواقع ما يدفع التالي إلى صدام يثير أوهاما وسوء تفاهم وإبهاما شديدا. إذ في الحالة الأولى ليس يؤذي قط أبدا أن تصل الحياة كلها إلى الحلم، أما هنا فأن يخرج الحالم من سريره ويتواصل مع الواقع والناس والأشياء برموز الحلم فثمة فوضى كبيرة وكثيرا من الاختلال.
يعود ستيفان إلى باريس بعد موت أبيه بالسرطان. أبوه الذي غادر أمه وحمله معه. هذا الأب ما يزال في الحلم غير أن ستيفان يجيب عن سؤال ستيفاني حديثة العهد بالتعرف عليه إذ تسأله عن حال أبيه، وقد نست أنه قد اخبرها عن موته، يقول لها : "أبي، نعم ما يزال ميتا!".
وكأن إجابته في صبغتها التهكمية يحمل نوعا من الإفشاء غير المعلن عن كونه يتوفر على عوالم أخرى وأدوات وأن أباه ما يزال لدى الواقع الذي يشترك مع غيره من الناس تمظهراته ولكنه يحتفظ في داخله بمفاتيح عالم يتواصل فيه أيضا مع أبيه، وتتأتى له من خلاله تلك الحمية الحميمية مع عالم الأموات، إذ أنه حتى لما تمت تهنئته في العمل إثر إنجازه ليومية عن الكارثة التي تحيق بالعالم والناس. بدأ كلمته بما يلي: "أهدي هذا العمل إلى الذين ماتوا..." ولم يتركه الحضور أن ينهي.
قد تبدو لنا صفة "مصاب بالحلم" جميلة غير أنها ليست تصمد في الواقع لو حاولنا قليلا أن نفكر فيها. ستيفان ليس مصابا بالحلم خلاف ما يمكن أن تدفعنا إليه البلاغة، وإنما تتجلى إصابته وتبدو جلية ومنعكسة في الأحلام، هذه الأحلام التي سوف تصير بعد ذلك نوعا من العادة السرية التي غالبا ما يعسر التمكن فيها مثل لعبة، خلاف ما يحاول الفيلم أن يوهمنا به في البدء لما حاول ستيفان أن يطبخ حلما ما بأن يضع في قدر كثيرا من المواد المتنوعة الكفيلة باستدراج نوع أو آخر من الأحلام. لا يتعلق الأمر هنا بالمنبهات الحسية المتنوعة التي لها دور أساسي وحاسم في الحلم. وإنما هي إيحاء بليغ بكون مكونات الحلم لا تخرج عن الرغبة ولا تخرج إطاراته كلها عن حقيقة شخصية الحالم بميولها وتاريخها ومن تكن ومن ترغب أن تصيره.
نجد لقطة دالة لدى عودة ستيفان ولقائه التفقدي مع شقته، ينظر إلى كل شيء، يراقب عبور الزمن وسلطته على الأشياء، يأخذ أحد سراويله وبذلة، يرتدي البذلة يجد الفرق بين الأمس واليوم أي ما نسميه العمر والنمو الجسماني ، يضع الكل في ركن إيذانا بتمكن الزمن شيئا فشيئا من عالمه الطفولي وتصحر الآني وانحسار الفضاء الجميل في علب الألعاب وفي الألوان والدمى وذكرى الأب الميت. ماذا يتبقى إذن من الفقدان؟ أو ماذا يتبقى بعد الفقدان؟
إن خطة الفيلم هي محاولة إخراج الحلم من دائرة الليل والصمت والنوم، محاولة الإمساك به لأن الحلم في الواقع شديد التعقيد قبل الحكاية التي يرويها الحالم لما يفيق في الصباح. أو قد نقول بانعدامه قبل تحوله إلى حكي. لنتأمل أمرا: إنما يبدأ الحلم في الوجود عندما يبدأ أحد ما في وضعه في بنية لغوية ما.
ستيفان جهة عمله فنان ينجز الصور المرافقة لليوميات السنوية، تجد له أمه عملا ويأتي كي ينخرط فيه رغم صدمة البدء لأن العمل الذي تقدم إليه هو بالفعل يخص مجال تخصصه غير أن مهمته هناك لا تدخل ضمن رغبته. فالدار التي قصدها تضع فقط صورا معدة سلفا على رأس اليوميات التي يطلب الزبائن ، والصور التي توضع ثمة نساء عارية.
تأفف ستيفان في البدء من عمله، غير أنه وجد في أحد زملائه السند والصديق الذي ينجز في غالب الأحيان عمله هو، في الوقت الذي ينغمس فيه ستيفان هو في عالم الحلم ولا يخرج منه إلا ليعود إليه حتى أنه يعمل في أحلامه ويحلم في عمله ويتداخل الأمران في تسارع بالغ، إذ يحضر مكان العمل وزملائه في حلم إلى بيته ويحمل في وقت آخر كل تشبكات أحلامه إلى مقر العمل.
إن الفشل الذي يلازم ستيفان والخسارة التي تكون صباحه الدائم هما مفتاحا أحلامه. فألمه وصعوبة تأقلمه في عالم ليس عالمه هما، كما قلنا سالفا ما يدفعه إلى قضاء الزمن الكفيل بحياة سليمة في الحلم أو الركض بلا انقطاع ضد الريح التي قذفت به في الأرض دون خرائط أو زاد.
"علم الأحلام" وقد يشبه نوعا لفظة "الصناعة" لدى النقاد القدامى. ولنتأمل قدامة بن جعفر وتأمله في قول الشعر وتدبيج النثر. فالحلم والشعر يشتركان في كثير من الخصائص والأدوات والمطامح. فإن كنا "نصنع" الشعر فلماذا لا نصنع "الحلم"؟
صحيح أن ستيفان بغض النظر عن تعالي سلطة الحلم عن إرادته الواعية فهو يملك في شقته كثيرا من الآلآت واللعب والدمى وكثيرا من ركامات القطن الأبيض الدال. آلة السقوط بالزمن في غيابة الماضي أو التطلع الحثيث إلى الآتي. آلة مراقبة النوم، كلها إذن مؤشرات دالة على أن الحلم يدخل في إطار الصناعة ويكون الحلم علما مثلما لم يعرف العرب من دون الشعر علما غيره حسب القدامى.
يبدو أن ستيفان لا يعاني من وهن دهني ما، غير أنه يعاني من كون قدرته على الفهم وصلابة منطقه وتمكنه من تشابكات العالم التقني، لا تعمل إلا في الوظيفة مع الحلم، أي أنه يعاني الانقطاع عن الحقيقة أو التمزق الناجم عن البحث الفلسفي عن الحقيقة، إذ ما هي الحقيقة إذن؟
لا نعرف إلا رصيدا قليلا عن تجربة ستيفان في الحياة، فهو ما يزال أولا في مقتبل العمر ولم يقدم لنا الحلم سوى معطيات قليلة عن الماضي، غير أنها مع ذلك جد كافية للتأكيد على ضياع ستيفان.
اما حياته الراهنة في الفيلم فهي محصورة بين البيت وأمه، العمل وزملائه وبين الفتاة التي صادفها إثر حادث بسيط في سلم العمارة لما أراد أن يمد يد المساعدة لرجال يحملون دولابا لتلك الفتاة.
أما يده التي أصيبت يومها فقد ظلت مصابة بشكل رمزي إلى الأبد.
أمه التي تزوجت مع رجل لا يحبه ستيفان، أو بالأحرى لا يحب فهمه الدوغمائي للأشياء وثرثرته الزائدة، ليست تتقاطع حياتهما كثيرا.
يرافق كثيرا أحد زملائه في العمل، وينكح زميلته، في الحلم، فوق آلة النسخ، وتبدو العملية في كليتها جد هامة إذ تتحول الآلة كأنها تنسخ بلا انقطاع إثر كل حركة أثناء ممارسة الجنس. هذا الجنس الذي لا يحضر إلا في أحلامه من مساوئ خسارته البالغة أيضا.
تبقى ستيفاني التي تعتبر مقابله الأنثوي، إذ هي أيضا ليست مختلفة عنه كثيرا، فهي أيضا تعيش في عالم مثل عالمه، بين اللعب والدمى والأشياء التي تصنع نفسها، من الألوان والأشياء.
وإن كانت ليست تهتم أكثر بصناعة الحلم. الحلم ليس هو نفسه هو صناعته، لأن الأول تلقائي غير أن الثاني، حال ستيفان، هو الرغبة في الولوج إلى عوالمه بكل الوسائل.
لو انتبهنا قليلا، فستيفان لدى عودته لم يغير ديكور غرفته، لم يطرح شيئا بل عاد إلى نفس العالم الطفولي الذي عاش فيه من قبل مما يدل على أنه لم يكبر في الواقع وأنه مع ذلك ظل نفس الطفل الذي كانه في عالم يكبر فيه الجميع ويكابرون فيه. ليس إذن من المدهش أن يصطدم به ستيفان.
ستيفاني التي تمر بظروف نفسية هي أيضا جد معقدة ليست تحيا حياة عاطفية سليمة. فهي لا تؤمن بالزواج، وإن ليس هذا مقياسا، وليس ثمة من رجل في حياتها. فهي خلاف كل لدعاوي الظاهرية فهي تضمر لستيفان إحساسا جميلا، مثلما يبادلها ذلك تماما، إذ يرى أنها الوحيدة التي تختلف عن الأخريات، وإن لم يكن الفيلم يمنح لنا فرصة أن نختبر ذلك. لو عرض علاقة ستيفان بنساء أخريات ولو حتى في الحلم.
هل المهم إذن في الفيلم هو الحديث عن الأحلام وجعل الفيلم في غالبيته مجرد أحلام يتحرك فيها البطل مثلما يتحرك أي حالم في فضاء حلمه دون حواجز ولا اكراهات الواقع المنطقي.
لقد استطاع الممثل الشاب غايل غارسيا برنال أن يتقن دور ستيفان، وكان الانتقال على طول الفيلم، بين الإنجليزية والفرنسية يمنحه أيضا فرصة تأكيد ذلك التمزق بين العالم الذي جاء منه والذي مضى إليه.
شيء آخر هو أن حضور ممثل كوميدي مثل آلان شباط وآخرين في هذا الفيلم يشكل بالفعل نشازا. أنكر، خلاف من يرى العكس، أن تكون مسحة الكوميديا ضرورية في هذا الفيلم، إذ أكثر من ذلك تشكل كثيرا من الخلل والإساءة إلى مفهوم "العلم" الذي يعنون هذا الفيلم.
"علم الأحلام" إذن رغم كل هفواته، يمنح لنا حياة على شكل حلم، يتنقل فيها الناس وتتحرك فيها المدينة إثر هبة ريح بسيطة ويحدث فيها التوازن الصعب تحقيقه في الواقع القاسي.
تعدّ ستيفاني الباخرة والأشجار التي تنبت فيها كأنها رمز سفينة نوح وإنقاذها لخراب الحياة على الأرض.
تضرب موعدا لستيفان في المقهى وقد انفتح قلبها، سيكون ستيفان متأخرا في الحلم الذي لم تأت فيه ويدرك لحظتها أن العبارة التي رنت في ذهنه "تلك الفتاة سوف تجننك!" يركض ، يخرج من الشقة يدق باب ستيفاني، وتنتظر هذه الأخيرة في المقهى حتى طال الزمن ومضت.
تصل سلسلة الأحلام إلى أقصاها. لم تعد تجدي صناعتها ولا تلك الرحلة السماوية في فضاءاتها.
لقد جن إذن ستيفان بستيفاني، يحزم حقائبه ينوي المغادرة يودع أمه على عتبة البيت. تطالبه أن يودع على الأقل ستيفاني، لم يرد، يتردد، يتجه جهة الباب، في الأخير تفتح وتدخله مرة أخرى إلى العالم الذي ضيعه وما يزال إلى الأخير.
ستيفاني استقرت على وعدها الريشي، أعدت السرير والغابة والباخرة والأشجار التي نبتت فيها. يودعها، غير أنه يتلكأ، يتردد، يرى السرير يصعد إليه.
تحاول ستيفاني أن تمنعه وتذكره بأنه عليه أن يمضي، إذ الضغينة ما تزال في مستقرها في الروح لما لم يأت.
الرسالة التي كتب في الحلم، ألم تحمل اسم "كذاب". لقد قرأتَها غير أنه لم ينتبه أنه كتبها في الحلم ورماها تحت الباب ليستيقظ في بنوار الحمام بعد ذلك سريعا يحاول أن ينتشلها بعد أن قرأتها. لم يفهم بعد ذلك كيف عرفت محتواها. خيل إليه أن ثمة بينهما اتصال في الحلم أعمق من تخاطب الأرواح.
الباخرة والأشجار تتحرك وستيفان قد غرق سريعا في النوم. السر والدواء والداء في الآن نفسه. تنظر ستيفاني ولا تفهم. بل تفهم. ويرتمي ستيفان في القرارة في حلم آخر منقطع هو أجملها.
الفرس في المركب والأشجار وستيفاني تركب مردفة إياه. والبحر ممتد أمامه ومترامي الأطراف.
الحلم إذن استعادة لحياة وخلق لأخرى، والحياة حلم، يمكن صناعة الحلم وتستحيل صناعة الحياة.
هو إذن بعض تكريم للفهم السوريالي للعالم ومبحث بسيط لعالم الأحلام الشاسع!
Kermounfr@yahoo.fr

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف