عالم الأدب

الأستاذ عبد الهادي بو طالب العلامة الحكيم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"تأملت كثيرا في شخصية الأستاذ عبد الهادي بوطالب لكي أصفها بخصائصها في كلمات وافية شافية، فوجدت كلمة واحدة كافية. كلمة من أربعة أحرف هي الحكمة."

المغرب (أصيلة ) من محمد التفراوتي: دعا الدكتور عيسى بابانا العلوي إلى ضرورة تكملة تسمية الصفــــــــــة الفكرية للبروفيسور الدكتور عبد الهادي بوطالب و نعته فصاعدا "بالعلامة الحكيم" لأنه أسس فعلا "مدرسة الحكمة الفكرية". وساق الدكتور عيسى مختلف الاستدلالات محاولا استكشاف شخصية عبد الهادي بوطالب من خلال المعاني العلمية لكلمة" الحكمة " الصغيرة في منطوقها الغنية في معانيها. وبرز الدكتور عيسى بداية معنى كلمة "حكمة انطلاقا من كلمة "البينات"الواردة بالآية القرآنية 63 من سورة الزخرف:" و لما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة و لأبين للكم بعض الذيي تختلفون فيه، فاتقوا الله و أطيعوني" والتي تفيد هنا الوحي الإلهي أي الإنجيل، كتاب الله ، و منه تنبع جميع عناصر الحكمة. و تتفق الكتب السماوية الثلاثة على مفهوم مشترك للحكمة يتلخص في المعرفة المستوحاة من الأمور الإلاهية و الإنسانية.
و مما يرجح هذا التفسير ورود كلمة "الحكمة" مقرونة بكلمة "الكتاب" عشرة مرات في القرآن الكريم من عشرين مرة وردت فيها كلمة "الحكمة" في المجموع، أي النصف تماما. و من دلائل شمول مفهوم الكتاب للتوراة و الإنجيل و القرآن ما جاء في الآية الكريمة 54 من سورة النساء بقوله تعالى: " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة". واستخلص من اقتران الكلمتين بأن لا حكمة حقيقية دون معرفة كتاب الله، أي القرآن الكريم بالنسبة للمسلمين.

العلوي يسارا امام وزير الاثقافة المغربي يمينا ويليه بن عيسى ومبارك ربيع والمحتفى به بوطالب و التويجري وفاطمة الزهراء زريويل وعلي قاسيمي

بهذه التوطئة أكد الدكتور عيسى العلوي خلال الندوة التكريمية للدكتور عبد الهادي بوطالب بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية بأصيلة، أن المحتفى به ، الأستاذ عبد الهادي بوطالب، قد أوتي من علم القرآن و الشريعة الإسلامية شأوا عاليا برهن عليه بمحاضرات آكاديمية و بمؤلفات شتى لعل من أهمها خمسة و هي : " الصحوة الإسلامية، حقيقة الإسلام، من قضايا الإسلام المعاصر، الحكم و السلطة و الدولة في الإسلام، السلفية إشراف مستقبلي". و قد توج الأستاذ بوطالب هذه الدراسات الدينية المعمقة بحلقات تفسيرية للقرآن الكريم تنشر بانتظام على أعمدة جريدة "التجديد ، و تشكل هذه الأعمال الفكرية الدينية دعوة إسلامية عصرية متميزة، تجمع في آن واحد "الحكمة" القائمة على كتاب الله تعالى كما أسلفنا، و الإرشاد الطيب بأسلوب التبليغ مصداقــا لقوله تعالى : " ادع إلــى سبـيـل ربــك بالحــكــمــة و الموعظة الحسنة" ( الآية 125، سورة النحل).
وساق الدكتور عيسى المفهوم العلمي الشامل للحكمة المواكبة للتقسيير الديني السماوي ،و الذي يقترحه المفكر الفرنسي ديكارت عندما قال " الحكمة هي المعرفة التامة لجميع الأشياء التي يمكن للإنسان معرفتها" أي الأمور الديــنـيـة و الدنيوية"
و عليه، فإن درجة الحكمة الإنسانية يضيف الدكتور عيسى تعلو في سلم المعارف بقدر أهل العلم في التحصيل و التفسير و تتسع مساحتها بحجم مجالات المدركات، أي آفاق الثقافة العامة. أقول الثقافة العامة، لأن فضاء الثقافة أرحب من ساحة العلم. إذ قد يوجد مثقفا عالما، و لكن ليس كل عالم بمثقف. و المقصود بالعالم الإنسان المختص في علم معين. و إذا شبه عقل المثقف المتمكن المنتج بمزرعة معتنى بها، تضم حدائق مزهرة و بساتين جميلة من العرفان، و أشجارا تحمل ثمار الفكر، كتبا تدرس أو تقرأ،" و من هذا التصور برهن الأستاذ بوطالب على أنه مثقف فسيح الفضاء، خصب مزرعته الفكرية بالأصالة و المعاصرة. و كما وصفه الأستاذ محمد سبيلا إذ قال: "إن الأستاذ بوطالب يبلور صورة مثقف مستنير جذوره ضاربة في اعماق التراث و آفاقه منفتحة على معطيات العصر و ثقافته. فمن بستاني القانون الدولي و القانون الدستوري في حديقة الحقوق العامة صدرت له مؤلفات، أولاها دروس جامعية في القانون الدولي، و أشهرها في القانون الدستوري كتابه المعروف تحت عنوان "النظم السياسية العالمية المعاصرة". و من بستان الدبلوماسية في حديقة العلاقات الدولية أنتج كتابا عنوانه: "مسارات الدبلوماسية العالمية و دبلوماسية القرن الواحد و العشرين". و من بستان علم السياسة"تغذينا بأفكار بوطالب الجامعة في "علم السياسة" التي نشرت بشكل واسع "

التويجري يقبل بو طالب وفي حدائق التاريخ و الدراسات المقارنة والتأملات و المذكرات السياسية المختلفة، تتجاور فيها بساتين أخرى، تحمل أشجارها صفوة الكتب، منها على سبيل المثال لا الحصر: "وزير غرناطة: لسان الدين الخطيب"، "بين القومية العربية و الجامعة الإسلامية"، "نظرات في القضية العربية"، "العالم الإسلامي و النظام العالمي الجديد"، " نصف قرن من السياسة"، "شهادات و ذكريات"، "هذه سبيلي، آراء، مواقف و تطلعات"، "العالم ليس سلعة - في نقد العولمة". و من بستان علم الإعلام صدر له كتاب عنوانه: "لغة الإعلام". و كلمة لغة تقودنا إلى ألطف بستان في مزرعة بوطالب الثقافية الحكيمة لنخرج منه في آخر الزيارة... و من أهم ثماره مؤلـفه تحت عنوان : "الحقوق اللغوية" يتناول حق اللـغة في الـوجود، و البـقـاء ، و التطور، و النماء و الوحدة. فأوضح كيف نربط بين الأصالة و المعاصرة في تعددية لغوية.
وهكذا جال الدكتور عيسى بالجمهور المتتبع ببعض من حدائق وبساتين الأستاذ عبد الهادي بوطالب الفسيحة ، لأن أبوابها مفتوحة و قطوفها دانية غير ممنوعة. و لكن ما كل المزارع الفكرية للمثقفين بمناكب يمشي فيه القارؤون و يأكلون من ثمارها. فكثير منها موصدة لأصحابها لا ينتفع منها الجميع، لأن صوت الحكمة الفكرية منها مكتوم لسبب ما، كأنه معدوم، حتى و لو كان همس الحكمة السلوكية مفيدا لصاحبها فقط أو لأهله معه. ذلك لأن حكمة المزارع الثقافية تفتح بالعلن، أي بالتعبير الصادق و بنشر العلوم و الأفكار . و تشكل الكتابة - بمعنى التأليف - أوسع أبوابه رغم أنها لا تفتح دوما بسهولة. " فليس المؤلف من أراد الكتابة و لكن الكاتب من استطاع التأليف.

وذكر الدكتور عيسى بالشروط الأساسية الأربعة للكتابة لكي تتجسد كما يريدها الكاتب و هي: وجود المادة الفكرية المكتسبة و أغناها الثقافة العامة، القدرة على التأليف أو الطاقة الفكرية المعبــرة بلغة سليمــة، حب التأليف حبا كافـــيا إن لم نقـل حبـا جمـــا، الــمناخ و المحيط المناسبين للتأليف. و قد توفرت للأستاذ عبد الهادي بوطالب، يؤكد الدكتور بابانا، هذه الشروط الأربعة مكنته من بلورة حكمته بمستويات عالية عبر عينة من ثمارها المنشـــورة. و بهذه القدرة الواسعة عن التعبير و التبليغ، باللسان و القلم، حقق الأستاذ بوطالب الشرط الأساسي الملموس للحكمة الفكرية التي تبلغ العلوم و الثقافة مقاصدها، إذ لا نفعية عامة لهذه الأخيرة دون حكمة بالغة.
وأضاف الدكتور بابانا أن الجانب الفكري من الثقافة يفعل بالحكمة، مثلما يفعل الجزء الفكري من الحكمة بالحكمة نفسها. وقد أكد الله تعالى هذه الحقيقة عندما جعل الحكمة مقرونة دوما بالكتب السماوية و بالدعوة لتفعيلهما كما رأينا. بل بلور نفس الحقيقة عندما قرن صفته العلمية الربانية المطلقة بالحكمة، واصفا ذاته العلية "بالعليم الحكيم" أكثر المرات في القرآن الكريم. حكمة إلاهية تفعل و تزين العلم الإلاهي، و لله المثل الأعلى.
بيد أن تفعيل الأمور الفكرية تقتضي شرطا أساسيا آخر يتمثل في "الحرية الفكرية"Liberteacute; Intellectuelle كما يرى المفكر الفرنسي آلان ALAIN، و هي ميزة مرادفة للجرأة الفكرية الناقدة البناءة. و يعترف بها الجميع للأستاذ عبد الهادي بوطالب. و لعل مقالاته النقدية للسياسة الأمريكية التي تنشر أسبوعيا، في نفس اليوم، على أعمدة جريدتي الأحداث المغربية و الإتحاد الإماراتي، لخير دليل على هذه الحرية الفكرية المواكبة لمفهوم الحكمة.
وانتقل الباحث عيسى في مداخلته الى جوانب الحكمة في سلوك المحتفى به بعد أن تناوله جوانب الحكمة في فكره ليؤكد أن المقومات النفسية في الإنسان تؤثر على سلوكه، و تدخل هذه العلاقة في إطار ما يسمى بسيكولوجية السلوك ليسوق رؤية بعض الفلاسفة الذين أوجدوا مفهوما سيكولوجيا أو نفسيا للحكمة لخصها الفيلسوف بوالو BOILEAU، في التعريف: الحكمة النفسية بكونها"انسجام روحي لا يربكه شيء و لا يشتعل بنيران الغرائز".
ويضم هذا المفهوم النفسي للحكمة سمات التريث والحيطة والرصانة التي تعبر عن الحكمة في معناها المتداول عند عامة الناس و الذين يعرفون الأستاذ بوطالب يشهدون بأنه منسجم مع نفسه في سلوكه، مقاوم للتيارات الجارفة، وسطي في سعيه، ولا شك أن ثباته على دينه خير سند له في ذلك.
وهكذا أضاف الدكتور بابانا بان بهذه الطمأنـيـنـة الراسـخـة انـبـرى المحتفى به لمعترك الحــياة العــائـلـيـة و الإجتماعية والمهنية ، حاملا أعباءا من المسؤوليات العامة بالعمل المميز و الخطاب الفصيح، دون أن ينسى القلم و ما يسطر. وتلك وسائل تعبيرية أخرى بلور بها حكمته السلوكية في أداء وظائفه الحكومية مثلما كان يبلور حكمته الفكرية بالكتابة. و قد علم أن القرآن الكريم يؤيده في هذا السلوك بقوله تعالى: " و شددنا ملكه و آتيناه الحكمة و فصل الخطاب" (الآية 20 سورة ص).
و يتحدث القرآن هنا عن النبي داوود عليه السلام. و في هذه الآية توضيح لما للخطاب التبليغي من دور ناجع في بلورة الحكمة ليكونا معا عنصري تفعيل للملك - بمعنى الحكم أو السلطة - إلى جانب العمل الحكيم الذي يفعل الملك بشكل مادي.
و يعلم الجميع كيف قتل داود جالوت بالفعل العسكري الرائع، و مع ذلك آتاه الله فصل الخطاب دعما لحكمته في الحكم. و في هذا الصدد ربط الله تعالى بين الملك و الحكمة في آيتين قرآنيتين، كما ربط بين الكتاب و الحكمة عدة مرات. و قد دلت أقوال و أفعال الأستاذ بوطالب المتعلقة بالسلطة داخل الوطن، أو بالدبلوماسية خارج الوطن، خاصة في قضية الصحراء التي دافع عنها مبكرا بالقلم منذ يونيو 1957 في كتابه مؤلفه "هذه سبيلي" لقد دلت أقواله و افعاله على طابع الحكمة في ظل النظام الملكي الدستوري و هو يزاول مهامه.
وخلص الباحث بذلك الى السمات الفاعلة لجوانب الحكمة في شخصية الأستاذ عبد الهادي بوطالب، فكرا و سلوكا، ليفيد بأنه سخر نفسه، أي المحتفى به ، منذ فجر النضال الوطني، للمقاومة و الجهاد، خدمة للبلاد، و للعلوم، خدمة للعقول، فارتقى - بثقافة متينة - إلى مستويات من الحركات الفكرية العربية و الغربية، توازي أو تجاوز نخبة من المفكرين المشهورين في المجالات القانونية، و السياسية و الدينية و الأدبية، متميزا بأسلوب راق في التحرير و التحليل و النقد و المقارنة.
" إن في الإنسان قدرات شخصية من الله عز وجل، تجليها مع الأيام كفاءات علمية أو فنية، تطغى عليها في النهاية ملكة البداية. سواء أسميناها عبقرية أم موهبة، فهما نتاجي الموروث و المكتسب تؤطرهما التربية. و هذه الملكة البارزة هي القوة الفكرية المبدعة التي تضم تحت سيادتها بقية المؤهلات المتراكمة. و البروفسور عبد الهادي بوطالب ينتمي إلى هذه الفئة من الناس وفق المستوى الرفيع الذي وضعه الله فيه. فها هو اليوم، و بعد أكثر من نصف قرن من السياسة قد رجع ، منذ بضع سنين، إلى ملكته الفكرية الراجحة، بحكمة ناجحة، مجسدا بوتقة العلامة التي رأينا فهرستها، مرتاحا في مزرعته الثقافية الآمنة، مستمرا في عطائه المتجدد دون ملل أو كلل، رغم وطأة الدهر والسنين. و لقد آتاه الله عز وجل خيرا كثيرا بنعمة الحكمة، وذلك مصداقا لقوله تعالى: " يؤتي الحكمة من يشاء، و من يؤت الحكمة فقد أتي خيرا كثيرا" (الآية 269، سورة البقرة)" .

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف