عالم الأدب

مناجاة هاملت الخامسة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يلاحِظُ أحدُ النقاد الإنكليز أنّ هذه المناجاة خالية من البلاغة، وهي كذلك حقّاً. ما من جناس ولاإرصاد ولا تصريع. هاملت هنا لا يعتام الألفاظ الصعبة، وهذا شأن كلّ إنسان يرى الجِدّ فوق الحماسةفهي مضرّة، وألفاظها المنتفخة عين الفزع. شأنه شأن مَن يجدّف في موج عاتٍ، وزورقه متعتع. كان هاملت ساعتها أقرب ما يكون مجدّفاً في موجٍ مهلك.
العيون تترصّده. كلّ حركة منه، كلّ نأمة، لا تُفَسّر بأقلّ من الجنون. في هذا الخضمّ المكفهرّ يأتي بولونيوس زعيم البلاغة السخيفة في القصر الملكي، ليخبر هاملت بأن الملكة
تودّ أنْ تراه حالاً. وهذه الـ "حالاً" هنا تأخذ طابع الاستنفار. يقول هاملت قبل المناجاة:
"إذنْ سأذهب إلى أمّي حالاً
إنّهم يعبثون بي إلى أقصى منْزع في قوسي"

ما من تهمة أشدّ إذلالاً من رميِ إنسانٍ سليم ٍبالسقم، و ما من تهمةٍ أشدّ لؤماً من تهمة إنسان بكامل قواه العقلية بالجنون. كان هاملت متهماً بغرابة الأطوار. ولدى خُصَمائه أكثر من دليل على جنونه. و الأنكى، ما من شاهد على صحة عقله غيره. هاملت شاهد نفسه الوحيد، ولكنّه غير قادر على البوح بما يعرف من أسرار مدمّرة. إنّه الوحيد الذي يعرف أنّ أباه قُتِل غدراً من قِبَلِ شقيقه، أيْ الملك القائم. وهو يعرف أنّ أمّه زانية.
تُظهر هذه المناجاة، تمزّقَ هاملت، ولكنّها تُظهره -في الوقت نفسه - في أعلى درجةٍ من التوازن الذهنيّ لا سيّما أنّ الظروف المحيقة به، تتطلّب منه مواقف متناقضة، وسريعة. من بينها، مثلاً كيف يوائم بين واجبه الديني والاجتماعي تجاه أمّه كأمّ، وتجاهها كزانية؟ كيف يقسو عليها لدرجة الكسر، ويبقى حنوناً؟ كيف تكون لكلماته، حدّة الخناجر، لا طعناتها؟ كيف يكون للسانه دور القسوة، ولروحه دور الحنان؟يقوم تمزّقُ هاملت الصادق، كنقيضٍ لتمزّق الملك الزائف، في تبرير زواجه من آمرأة أخيه القتيل 0(الفصل الأوّل - المشهد الثاني):
"hellip; وبما يشبه الابتهاج المتكدّر إنْ صحّ التعبير
وبعينٍ ضاحكةٍ وبعينٍ باكيةٍ
ومرح في جنازة، وندْبٍ في زواج
واضعين كيليْن من البهجة والأسى
في نفس الميزان
اتخذناها زوجةhellip;".
لا شكّ كانتْ عينا الملك كلتاهما، على عكس ما يقول، ضاحكتين. بينما ظلّتْ عينا هاملت قلقتيْن حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.

المناجاة الخامسة

"هذه ساعةُ منتصف الليل حين تشرب الساحراتُ الدم
حين تنشقُّ القبورُ وتنطلق أشباحها، وحين
ينفث الجحيمُ قُواه الخفيّةَ في هذا العالم.
في هذهِ الساعةِ أستطيعُ أنْ أشربَ دماً ساخناً
فأقومَ بشرِّ قتلةٍ شنيعةٍ يتزلزل
من مرآها النهار. كنْ على حذر،
والآن إلى أمّي. آه، أيّها القلبُ
لا تفقدْ مشاعرَ بنوّتكَ. لا تجعلْ
أبداً روح "نيرون" يدخل في
هذا الصدر الوفيّ،
دعْني أكونُ قاسياً ولكنْ لن أكون عاقّاً
سأكلّمها بحدّة الخناجر غير أنّي لن أطعنَها بأيّ منها
للساني القسوةُ ولروحي الحنان
ومهما كانت كلماتي جارحةً
فليت روحي لا تضع الختْمَ عليها وتقومُ بتنفيذها أبداً"

تتكوّن هذه المناجاة من ثلاث لوحات، هي ثلاث حالات نفسية متباينة. في كلّ حالةٍ، تصعيدٌ حاذقٌ يزيد من ترقّب المشاهد، وفضوله. المشاهد هنا جزءٌ أساسي من المشهد.
في الحالة الأولى (من السطر الأوّل وحتى السطر السادس) تعتيم ليليٌّ مقصود، حتّى يسهل توليد الأشباح. النور الوحيد في المشهد هو النور المنفوث من الجحيم. هكذا يكتظّ الليل بالساحرات، والأشباح التي راحت تتكاثر بما رسمتْ لها نيرانُ الجحيم من ظلال.
للتعتيم هنا غاية أخرى هي جعل النظر مرتبطاً بالسماء. بهذه الحيلة تدخل القوى الغيبية أوّلاً، ومعها يبدو الإنسان أمامها ضئيلاً، مسلوب القوى. في الحالة النفسية الثانية (من السطر السابع إلى السطر الرابع عشر)، نرى هاملت نهْبَ قوّتين. فهو وإن كان على حافة التوحّش وشرب الدم، فإنه لا يريد أن يقتل أمّه كما قتل الإميراطور الروماني:

نيرون أمّه أغربينا لأنّها قتلتْ

أباه كلوديوس بالسم.

كان هاملت في هذا المقطع مذعناً لنصيحة والده -الشبح . (الفصل الأوّل - المشهد الخامس):
"ولكنْ كيفما ستأخذ الثأر
فكنْ نبيلاً ولا تنحدرْ إلى أفعال عمّك الشرّيرة
ولا تدعْ روحك تكيد لأمّك بتاتاً
اتركها لحكم السماء، وللأشواك المقيمة في صدرها
تخزها وتلسعها"
لا بدّ أن المشاهد هنا مستوفز. متحرّق لرؤية ما الذي سيفعله هاملت؟ وكيف؟
في الحالة النفسية الثالثة(السطران الأخيران) تزيد حدّة التوتّر وبالتالي شدّ المشاهد، ذلك لأنّ هاملت لم يحسم الأمر، بعدُ. هل سيثأر؟ أم ينصاع إلى مشيئة أبيه؟
يقول هاملت:
"ومهما بلغتْ كلماتي من تجريحٍ لها
فليت روحي لا تضعْ ختمها عليها وتقوم بتنفيذها أبداّ"

كذا، لم يحسم هاملت الأمر. فصيغة التمنّي : ليت Subjunctiveتركت الباب مفتوحاً للحيرة. إنه غير متأكد من نفسه. هل سيقوم بتنفيذ كلماته؟ قد يكون من المفيد أنْ نذكر أنّ جبرا ترجمها على المنسوق التالي:"ولينافقْ لساني وروحي بهذا" أي حعلها بصيغة الأمر Imperative . على هذا الديدن ترجمها القطّ:"أي لساني وروحي نافقا في هذا الأمر". أما بدوي فسردها ببرود :"سينافق لساني روحي في هذا الأمر" وكأن النفاق سهل حتى إذا كان بين جوارح الإنسان الواحد. يقول John F. Andrews :" قد يكون هاملت على علم بأنّ كلمة: ممثل بالإغريقية هي Hypocrite فإذا صحّ هذا الافتراض فإنّ ما يقوله، هو أنّ لسانه وروحه يلعبان دورين مختلفيْن.( قارن كذلك "يوليوس قيصر" - الفصل الثاني - المشهد الأوّل):
بروتس : أيها السادة الكرام، اصطنعوا الانتعاش والمرح
ولا تدعو نظراتنا تشي بنيّاتنا
لكنْ تصرّفوا في الأمر كما يفعل ممثلونا الرومانيّون،
بروحٍ منتعشة ورباطة جأش تمثيليةhellip;"
(ترجمة عبد الحقّ فاضل)

كيفما دار الأمر، تأخذ هذه الحالات النفسية أبعاداً استثنائية لأنّ هاملت سيذهب مباشرة إلى غرفة الملكة،فما الذي سيقوم به هناك؟بهذه الحيلة الفنّية ازدادت أهمية اللقاء بين هاملت وأمّه، وتوتّرتْ وكأنّ المناجاة تمهيد مقلق له.على أية حال، ما دمنا قد ذكرنا المترجمين المحترفين الثلاثة، فلنتوقفْ عند الأسطر الخمسة الأولى وكيف تُرجمت ؟
1- ترجمة جبرا إبراهيم جبرا :
"هذا من الليل هزيع السحر
ساعة تفغر المقابرُ أفواهَها وينفث الجحيم
في هذه الدنيا الوباء. لعمري بوسعي الآن
أن أشرب الدماء حارّة وآتي من رهيب الفعل
ما يرتعد النهار لرؤيته"
2- ترجمة عبد القادر القطّ:
الآن هذه أحفل ساعات الليل بالغرائب
فيها تنفتح القبور، وتنفث الجحيم نفسها السموم
في هذه الحياة
الآن أستطيع أن أشرب الدم الحار وآتي من
مرير الأفعال ما يرتجف لمرآه النهار"
1-ترجمة محمّد مصطفى بدوي:
في هذا الهزيع من الليل حين يقبل السحرة على أداء سحرهم
حين تفقر(كذا)المقابر أفواهها وينفث الجحيم الوباء على هذه الدنيا
الآن أستطيع أن أشرب الدم الحار
وأقوم بفعل شنيع يقشعر النهار من مشاهدته"

أوّلاً خلت الترجمات الثلاث من التوقيت الزمني. يقول جبرا : "هذا من الليل هزيع السحر". بغضّ النظر عن تركيب الجملة الغريب، فما المقصود بالسحر؟ وكم كانت الساعة في تعبير :"هذا من الليل"؟ إلى أيّة ساعة أو جزءٍ من الليل تشير كلمة :"هذا"؟
أمّا القطّ فقال :" الآن هذه أحفل ساعات الليل بالغرائب". ولكنْ ما الساعة الآن؟ ولِمَ تكون حافلةبالغرائب؟ وهل هي حافلة بالغرائب في كلّ ليلة؟ وقال بدوي :"في هذا الهزيع من الليل". وهي جملة على غرار أختيها السابقتيْن لا يُعرَف لها توقيت.
لماذا اتفق المترجمون الثلاثة على نزع عقربيْ الساعة؟ ريما لأنّهم كانوا يترجمون النصّ جملاً منفصلة، لا نسيجاً متداخلاً. الزمن المقصود هنا، من استقراء القرائن، هو منتصف الليل. وهو توقيت خطير في المفهومات الشيكسبيرية. عرفناسابقاً أن النور وكذلك الصباح، علامة تنذر بالكوارث. شؤم خطير. كالنجم القطبي الذي مرّ بنا في الفصل الأوّل - المشهد الأوّل.
قال برناردو:
"هذه الليلة الأخيرة بالذات
عندما كان النجم القطبي يسير
غربيّ القطب ليضئ ذلك القسم من السماء
حيث الآن يومضhellip;"
وكما قال هوراشيو وهو يتحدث عن الهواجس الشريرة التي يأتي بها شبح الملك المقتول، ويضرب على ذلك مثلاً بروما في أوج عظمتها، قبل سقوط يوليوس:
"باتت القبور خاليةً من ساكنيها، وراح
الموتى المكفّنون يصيئون ويبربرون في شوارع روما
وكما المذنّبات والأنداء الحمراء
حلّ الكَلَفُ المنحوس في الشمسhellip;"
يقول أحد الباحثين الإنكليز "منتصف الليل هو الساعة التي يكون فيها ارتكاب الجرائم الكبيرة ملائماً، إذ يشعر هاملت فيها بتأثير الوقت وبتأثير الأشياء المحيطة به".
بالإضافة إلى ذلك، يَرِدُ توقيت منتصف الليل قبل هذا، في الفصل الأوّل - المشهد الأوّل، كما في الحوار التالي:
الحارس فرانسسكو: تأتي في ساعة خفارتك بالضبط
الحارس برناردو : دقّت الساعة الثانية عشرة"
(وهو وقت ظهور شبح الملك).
كذلك يأتي توقيت منتصف الليل في الفصل الثالث - المشهد الثاني:
هاملت : ما الوقت الآن؟
هوراشيو : أظنّ أقلّ من الثانية عشرة
مارسيلوس : لا، دقّت الثانية عشرة
هوراشيو : صحيح؟ لم أسمعّها
إذنْ تقترب الساعة من الوقت الذي
تعوّد أن يتمشى الشبح فيه."

(الصباح المشؤوم يذكّر بالصباح الأوّل لرحلة نوح في فلكه. ويبدو أن لخروج الموتى من القبور وطوافهم في المدينة
صدى من القبور السومرية).

لنعد إلى الشطر الأوّل ونرى كيف تُرجمتْ بقيّة الجملة.
يقول جبرا :" هزيع السحر" . ولكن من يقوم بالسحر ولماذا جاء توقيته مع هذا الهزيع بالذات؟
يقول القطّ :" أحفل ساعات الليل بالغرائب" ولكن ما الغرائب؟ وهل في النص الأصلي غرائب؟
أما ترجمة بدوي : "حين يُقبل السحرة على أداء سحرهم" فتمطيط نثري لأدقّ استقطار شعريّ. بالإضافة،
جعل المترجم، السَّحَرة ذكوراً بدليل "الميم" في سحرهم. المعروف ان كلّ ساحرات شيكسبير إناث أو هنّ في صيغة المؤنث.ما أهميّة توقيت الساحرات هنا؟
أوّلا: تقتضي طقوس الساحرات شرب الدم، وهو ما أشار إليه أندروز ، محرر طبعة آردن، في الحاشية 379.
يمهّد هذا الدم إلى ما سيقوله هاملت في السطر الرابع : "أستطيع أن أشرب دماً ساخناً".
ثانياً: لون الدم الأحمر يتماشى مع شروق الشمس المشؤوم، ومع "الأنداء الحمراء" التي مرّت بنا أعلاه و "الصباح برداء محمرّ" التي ذكرها الشبح لهاملت، وهو يهمّ بالرجوع إلى المطهر.

دعنا نتوقف قليلاً عند السطر الثاني الذي ترجمه جبرا :"ساعة تفغر القبور أفواهها وينفث الجحيم في هذه الدنيا الوباء"، وترجمه القطّ :"فيها تنفتح القبور وتنفث الجحيم السموم في هذه الدنيا"، وترجمهبدوي "حينما تفغر المقابر أفواهها وينفث الجحيم الوباء على هذه الدنيا".
في الترجمات أعلاه ما من أشباح تخرج من قبورها. القبور الفاغرة الأفواه لا تعني بالضرورة انتفاض الموتى بوجه الأحياء . كما كان الشأن مع شبح الملك، و مع أشباح قبور روما التي استشهدنا بها أعلاه.هذا معنى أن يقوم المترجم بالنظر إلى النصّ كنسيج محبوك، لا كجمل منفصلة عن بيئتها، والأدهى منفصلة عن سلالتها.أمّا السطر الرابع فيترجمه جبرا :"لعمري بوسعي الآن أن أشرب الدماء حارّة"
أوّلاً إن القَسَم هنا إضافة لا لزوم لها ومضرّة. المفروض أن هاملت يتحدث إلى نفسه فقط ، ولكنْ بصوتٍ عالٍ. وهذا هو مفهوم المناجاة. بينما :" لعمري"، توحي بأنّ هاملت كان يخاطب شخصاً ماحتى لو كان متخيّلاً. أكثر من ذلك ترجم hot blood ، وهو اسم جنس هنا، بـ : "الدماء حارّة". قبل كلّ شئ جاء الدم بصيغة المفرد في النصّ الأصلي، فكيف أصبح بصيغة الجمع : أيْ دماء.
لم يكن هاملت يفكّر بكلّ دم بل بدم واحد ولمرة واحدة.
لو دققنا في الجملة المترجمة أكثر، لرأينا أن : "بوسعي أن أشرب الدماء حارّة"، تعني أنّ بوسع هاملت أن يشرب الدماء إذا كانت باردة ، أمّا الآن، فيستطيع تحت ظروفه الخاصّة أن يشربها حارّة. أمّا ترجمة القط وبدوي فجاءت بإدخال أل التعريف على الدم وصفته، فانتقل من اسم جنس إلى اسم.وبهذا الانتقال أصبح المعنى أن باستطاعة هاملت أن يشرب الآن الدم حتى لو كان حارّاً.
المعنى الذي أراده شيكسبير دقيق للغاية. فالدم محرّم دينياً، ولأنه جاء على صيغة اسم جنس، فهو يعني كل دم. أي أن هاملت تردّى به الأمر فأصبح كافراً ووحشاً في آنٍ واحد، لأنه بات قاب قوسين من شرب الدم.
ولكنْ، وهذا هو الأهم، لماذا قال هاملت :"حارّاً"؟
بهذه الصفة أصبح هاملت في أعلى درجات التوحش، فالدم لا يكون حارّاً إلاّ إذا كان ما يزال يشخب من الجراح. بكلمات أخرى إنّ هاملت يرى ضحيّته، يرى آلامها، ومع ذلك يلعق
دماءها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف