عالم الأدب

تجارب بعض الفنانين التشكيليين الألمان

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تجارب الآخرين

فكرت بكتابة سلسلة من المواضيع التي رأيت أن أسميها "تجارب الآخرين" تقوم على محاولة إطلاع التشكيليين العراقيين والعرب على آخر التجارب التي قدمها ويقدمها فنانون ألمان وعشرات من الفنانين التشكيليين من دول أوربا من الذين يعملون في برلين إحدى عواصم الثقافة الأوربية، يساعدني على ذلك صلتي بالعمل الثقافي والتشكيلي الألماني من خلال عملي في المؤسسات الثقافية الألمانية وخصوصا مؤسسة ورشة الفنون (Kunst Fabrik) وهي مؤسسة فنية وتشكيلية فريدة، تتوفر على العشرات من الاتيليهات الفردية التي تؤجر الى الفنانين بأسعار معقولة وتتوفر فيها قاعات عرض كبيرة وتقام فيها نشاطات مشتركة تشكيلية وموسيقية ومسرحية، وهي تجربة ريادية جديرة بالإقتداء، وسوف نكرس حلقة خاصة أو فصلا خاصا في الكتابات القادمة عن هذه التجربة معززة بالصور. تنطوي التجارب التشكيلية الألمانية على تنوع كبير وتغريب قد يصل حد القطيعة مع المفهوم التقليدي للوحة الذي لا يزال سائدا في بلداننا، وفي أدناه عرض لبعض ملامح هذا التغريب وتجربة لفنانه شابه هي الفنانة التشكيلية الألمانية "كاتيا برنكمان"

الفن التشكيلي الألماني الإفراط في التغريب
على إحدى قاعات الفن التشكيلي في منطقة (المته) في العاصمة الألمانيه برلين أقيم معرض لا يحق فيه للمشاهدين الدخول الى قاعة العرض انما عليهم أن يقفوا في الشارع في مواجهة قاعة العرض ويراقبوا المعروضات من خلال زجاج الواجهة الخارجية، فالدخول الى قاعة العرض قد يكون خطرا على الحياة!
والمعروضات هي زجاجات وقناني فارغة مختلفة الشكل والحجم واللون عُلقت بسقف قاعة العرض بواسطة خيط، وترتبط القنينة أو الزجاجة المعلقة بالخيط بواسطة بالون نفخ في داخل القناني، بمعني آخر: فان الخيط مرتبط بالبالون المنفوخ داخل القنينة، وإثناء فترة العرض التي تدوم أياما وبمرور الوقت، ينفجر البالون أويتسرب الهواء الموجود في داخله فتفقد الزجاجة أو القنينة الفارغة ما يربطها بالخيط وتحرر نفسها هاوية الى أرضية قاعة العرض حيث تتهشم ناثرة على أرضية المعرض كسير الزجاج بمختلف أشكاله وأحجامه وألوانه.
إن الناتج الناشئ من الزجاج المتشظي والمتكسر على أرضية القاعة زائدا الزجاجات الفارغة المعلقة والتي تنتظر مصيرها المحتوم هو المادة المعروضة للمشاهد، وهو عرض
جزء من عمل كاتيا برنكمان في الكازاكديناميكي يتشكل باستمرار من التساقط المتلاحق للزجاجات. ومن التشكيل وإعادة التشكيل العفوي الناشئ عن الزجاج المتكسر والذي يعيد تكوين نفسه مغيرا بين الفينة والأخرى التلوين والتركيب، من هذا كله تتشكل (اللوحة) المعروضة. ولقد سعى بعض مشاهدي هذا المعرض، على سبيل المثال، الى الانتظار، طويلا أحيانا، من أجل أن يحظوا بمشاهدة زجاجة تهوي الى الأرض في تلك اللحظة بالذات، أو أن بعضهم الآخر من نافذي الصبر أومن اللذين لا وقت لديهم قد أكتفوا بمشاهدة ما موجود من هشيم الزجاج.

المته (Mitte) تعني في الألمانية الوسط أو مركز المدينة، في هذا المركز للعاصمة الألمانية برلين يمكنك أن تشاهد ما ليس بوسعك مشاهدته في المناطق الأخرى، في هذه المنطقة يوجد العدد الأكبر من قاعات العرض (غاليريهات) وكذلك العدد الأكبر من المشاغل الفنية الخاصة (أتيليهات). وهنا يطّوف الفنانون الشباب حيث تنتشر المقاهي على طول الشارع الرئيسي لهذه المنطقة المسمى (أورانين بورغ). هنا حيث في الأيام المشمسة الدافئة تمد المقاهي كراسيها ومصاطبها الطويلة شاغلة على الأرصفة مساحة أوسع مما للسابلة، يجتمع الفنانون الشباب الراديكاليون من كل حدب وصوب ميالين بشكل لا يقهر للمغامرة والبدء مرة إثر أخرى بتجارب التغريب بالغ التطرف في (الفن التشكيلي) وخصوصا تلك التي تنسف مفهوم اللوحة وربما مفهوم الفن التشكيلي برمته طارحة شيئا سوف نحار طويلا في تسميته..

في إحدى قاعات منطقة المته هذه أقيم معرض اسمه (picnic) والكلمة إنكليزية الأصل تعني سفرة يقوم بها عدد من الأشخاص للأكل والشرب في الهواء الطلق، أما المعرض فهو أن تقوم القاعة بتوفير المكان من أجل أن يقوم المشاهدون أنفسهم بهذه (السفرة) حيث يقوم الناس بجلب طعامهم وشرابهم ليفترشوا أرضية قاعة العرض ويتناولوا الطعام والشراب ويتبادلوا الأحاديث. ثمة بالتأكيد عابري السبيل من الذين لم يجلبوا طعامهم والذين يكتفون بالتفرج على (المعروضات) التي هي أولئك الذين يأكلون، أو ربما الجميع (نحن وهم) آكلين وغير آكلين نكون في آن معا متفرجين ومعروضات . والمعرض هو هذا الذي أمامك أو أنت نفسك جالسا تفترش الأرض مع أصدقاء وصديقات تأكلون وتشربون وتتبادلون الحديث!

* * * *

لأسباب تاريخية فان الألمان، بشكل عام، محافظون وغير ميالين إلى المغامرة، إذا ما قورنوا، على سبيل المثال، بالروح الاقتحامية والميل للمخاطرة لدى الأمريكان. في الجانب العملي يفضل الفرد الألماني العمل بأجر لساعات طويلة ولسنين طويلة حتى يتمتع براتبه التقاعدي في سن الخامسة والستين، وقليلا ما يميل إلى فتح ورشة أو مشروع خاص. والميل المحافظ مرتبط إلى حد كبير بنظام الرعاية الاجتماعية الذي يوفر مستوى لائقا للمعيشة في كل الأحوال، كما أن هذا الميل مرتبط بعوامل تاريخية أخرى مثل الحروب...الخ، وأخيرا وليس آخرا صرامة اللغة الألمانية البالغة التي تقوم عليها بيروقراطية قل نظيرها.

إن الألمان محافظون في كل شيء تقريبا إلا في الفن التشكيلي، فهنا نشأت في مطلع القرن الماضي المدرسة المعروفة بإسم التعبيرية الألمانية وأغلب أعضاءها من الألمان، وهنا وفي نفس الحقبة تأسست جماعة الفارس الأزرق الفنية التي كان كاندنيسكي روسي الأصل وأهم مؤسسي التجريد احد ابرز أعضاءها وكذا كان نشوء جماعة الجسر الشهيرة. في هذا المكان بالذات رسم أو تودكس لوحاته الشهيرة، جنرالات بأوسمتهم ونياشينهم يجلسون حول طاولة الاجتماع ولكنهم جميعا بدون رؤوس، ورسمت وخططت كوليا كولفيتز العشرات والمئات من التخطيطات والرسوم التي صورت مآسي الحرب وأدانتها، وفي الحقبة التي تولى فيها النازيون الحكم في ألمانيا صنفت المدرسة التعبيرية الألمانية وأعمال أفضل ممثليها : شمدت روتلوف نولده باعتبارها فنا منحطا.

كاتيا برنكمان Katja Brinkann) (وتوازناتها المدهشة
وسط هذا الجوالفني وتطرفاته البالغة، وصعوبة تحديد الجهة التي ينشدها الفنان بين المحافظة أوالتكرار أو التطرف والقطيعة تقف كاتيا برنكمان الفنانة التشكيلية الألمانية كاتيا برنكمان تعملمحاولة أن تجد لها موطئ قدم. نتاجاتها التشكيلية لا تنتمي إلى الماضي فهي تعمل على تصميم أعمالها مسبقا على برامج الكومبيوتر، وأعمالها لا تمثل أشكالا ملموسة مأخوذة مباشرة من الواقع : ليس ثمة ناس أومشهد طبيعي ليس ثمة طبيعة ساكنة أو أشياء محددة ملموسة وإنما أشكال هندسية، دوائر أو أشكال بيضوية اهليليجية في الغالب متداخلة ومتعانقة تترك في أغلب الأحيان أقواسا رشيقة تشابه الأهلة ذات تدرجات لونية سارة ومريحة أقرب الى الموسيقى، ربما هي الحلقة المفقودة بين الموسيقى والرسم، موسيقى بدون صوت! موسيقى الرؤية أوربما، بتعبير أدق، موسيقى بصرية. هذا الانسجام والتوافق والتضاد الدرامي أحيانا تشاهده بعينيك بدلا من أن تسمعه بأذنيك، لكن الإثارة المطبوعة والمشاعر الناتجة متشابهة. طرق الوصول الى الذهن مختلفة عبر العين أو عبر الأذن لكن النتائج متشابهة أو تكاد.
وهذا النتاج المنتمي إلى الحداثة لم يعلن القطيعة مع المعايير الجمالية الكلاسيكية انه استمرار وتطوير لها، تطوير مدروس وتثوير عقلاني انه فن ينتمي إلى الحاضر إلى اليوم ولكنه لا يسعى الى التنكر للماضي والى منجزاته ومعاييره الجمالية.
في شركة (الكازاك) وهي من أشهر الشركات المجهزة للغاز في ألمانيا رسمت كاتبا برنكمان والعديد من الفنانين الالمان لوحات بتوصية من هذه الشركة التي تدعم الفن الألماني، كان العمل الذي ترسمه كاتيا برنكمان بغطي جدارا يقرب طوله من الثلاثين مترا وارتفاعه أكثر من مترين في إحدى أقسام الشركة وفي إحدى الممرات التي تتخلها أبواب المكاتب.
والرسم الجداري وبهذه الضخامة يمثل تحديا في التنفيذ، فإذا ما تم تصميم الشكل الأولي على شاشة الحاسوب (الكومبيوتر) كما أشرنا فإن التوزيع الواقعي والسيطرة على المساحات سيكون في كل الأحوال ليس بالهين، وقد قامت الفنانة برنكمان بنقل تصميها من شاشة الحاسوب وطباعته بحجمه الاعتيادي الى نقل الكتل منفصلة على قطع كبيرة من الورق الاسمر بالحجم الطبيعي ثم قامت تخطيط حدود الخطوط الخارجية للكتلة الورقية (out line) بالقلم الرصاص على الجدار لكي تقوم فيما بعد بتلوينها، تستعمل كاتيا
عمل كاتيا برنكمان في شركة (الكازاك)قبل أن ينجزرنكمان ألوان الاكريلك في تنفيذ أعمالها ولا تلجأ مطلقا الى أعمال الرش (air brush) في تنفيذ أعمالها وإنما الوسائل التقليدية التي تعتمد على الفرشاة وبصبر وأناة.
الذي يتمعن في العمل المعروض أعلاه لكاتيا برنكمان سيلاحظ أن اللون الأزرق قد أستعمل بمهارة وفي المكان المناسب وهويعطي انطباعا بالعمق واللانهائية وكما لوكان فراغا أثيريا وليس مجسدا، وقد تم تعزيز هذا الإنطباع بواسطة الخط الفاصل ذي اللون الوردي المتدرج والذي عزز هوالآخر بلون رمادي مسود كلما اتجهنا الى الأعلى، هذا المقطع من اللوحة الكبيرة لبرنكمان وعلاقات الاشكال الإهليليجية بالأبواب تدلل على تصميم أعد بصبر ومثابرة قبل التنفيذ، كما يدل على حساسية لونية عالية، ودقة في التنفيذ
يقع مشغل كاتيا برنكمان في وسط برلين العاصمة في مجمع ورشة الفنون آنفة الذكر وهذه الورشة بمثابة تجمع لعشرات الفنانين من مختلف الجنسيات كما انها تنسق نشاطاتها مع العديد من المؤسسات الفنية في العديد من الدول الأوربية وتستضيف العديد من المعارض سنويا وتقيم معارضها في العديد من دول العالم، كما تنظم عروضا مسرحية تجريبية وحفلات موسيقية يقيمها الشباب، وقد خصصت العديد من الشركات الألمانية جوائز تقديرية تمثل في الغالب جوائز مالية لتشجيع الفنانين الألمان ودعمهم، كالجائزة المخصصة مثلا للشباب دون سن الثلاثين.
ورشة الفنون مؤسسة جديرة بالاقتداء والنشاطات التي تقيمها تحتاج الى حلقة خاصة لتغطيتها.

Munir_alubaidi@web.de

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف