عالم الأدب

ملامح زينب حفني

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في رواية "ملامح" الصادرة عن دار الساقي للكاتبة زينب حفني تكون كلمات جان جاك روسو في اعترافاته هي ابتداء الفصل الأول، حيث تستشهد بها الكاتبة لتقول وبجرأة ما قالته عن واقع شريحة من المجتمع السعودي الذي يشبه إلى حد كبير واقع اكثر البلدان العربية، يقول روسو: "حين يدق ناقوس الساعة، سأقف أمام خالقي المعظم وهذا الكتاب في يدي، قائلا بشجاعة، هذا ما فكرت به وفعلته، ولم انس ذكر الطالح من أفعالي، ولم أضف من الخير ما لم يكن موجودا بالفعل، عرضت نفسي كما كنت حقيرا استحق الاحتقار أو عظيما ساميا في فكري". صحيح أن الرواية لم تكن سيرة ذاتية للكاتبة، لتستشهد بما قاله روسو في اعترافاته، لكن وضوح الكاتبة وجرأتها بنقل أحداث اغلبنا لا يعلم أنها جرت أو تجري يوما في واقع المملكة السعودية، يدعوها لان تقول هذا ولتؤكد وجود هكذا أحداث وقصص في مجتمع مغلق كمجتمع المملكة السعودية..
لقد كشفت الكاتبة الجميلة زينب حفني بروايتها بشاعات كثيرة تخفت تحت احجبة وأغطية رؤوس محتفية بجيوب مليئة وأفواه تأكل بملاعق ذهبية سائرة بمراكب مرسيدس وشبح..
تابعت الرواية حياة امرأة يعتبرونها محترمة في مجتمعاتنا إذ تغطي حقيقتها بحجاب اسود، امرأة اضطهدتها الموروثات الثقافية فاستغلت ما تملكه هي من ذكاء وجمال لتحتال عليها، ظنا منها انه النصر في ساحة معركة حياة لم تخترها بحرية.. تقول زينب على لسان البطلة :
"كيف تمكنت كل هذه السنوات من العيش مع رجل مثل حسين؟ هل كنت أعيش وقتذاك في غيبوبة طموحاتي، أم أن نشوة المال طغت على آدميتي؟ بتنا لا نتحدث، إلا عند الضرورة، لم تعد تربط أحدنا بالآخر سوى مصالحنا المشتركة. قررنا أن ننام في جناحين منفصلين، لا يأتي جناحي، إلا إذا تحركت غريزته نحوي، وكان هذا يحدث في فترات متباعدة، فكان إذا ما أتم عملية الإنزال، وأراق ماءه في داخلي، أسرع إلى دورة المياه، افرغ كل ما في جوفي في كرسي المبولة".
قد يقول القارئ إن نموذج المرأة هذه، رأيناه كثيرا، وقد مللنا إطلالته علينا لسنوات كثيرة من خلال أفلام التلفزيون المصري، كلنا رأينا رجلا حقيرا يهوى المال، يمنح زوجته بأساليب عديدة ومتنوعة لمدير شركة أو رجل غالبا ما يكون سيد نعمته أو طامع منه بمنصب أعلى - حتى وان هبط بأخلاقه للحضيض - حبا في الاستحواذ على حفنة مصالح تفتح له دروب الثراء مهما كانت تلك الدروب ملتوية ومرفوضة..
قصة ليست جديدة في حساباتنا كعرب وكشعوب مبتلية بحكومات وتقاليد قاهرة وأزلية لإيراد تغييرها وإن قضت علينا، كما أنها ليست جديدة عن قصص حصلت في غير المملكة السعودية، لكنها جديدة علينا حينما يكون مسرحها أرض البيت العتيق.
إضافة إلى أن الكاتبة تناولتها بأسلوب آخر أرادت به أيقاظ الموتى وتفتيح أذهانهم على نتائج ما يفعلون، لم تكن تقليدية في الطرح ولا مملة، بل كانت تتجدد في كل فصل لتعطينا تشويقا ومتعة وهي تتقمص لسان امرأة مرة وصوت رجل مرة أخرى، لقد قالتهم بتصوير إشعاعي لكل أحاسيسهم المشوهة أو الجميلة، كل بمواجهة ضميره المخبأ عنا وعن العالم، حيث البعض لا يهمه في زحام الحصول على المال أن يقضي على كل شيء بطريقه، وإن كان ابنه أو وطنه.
لقد عكست الرواية الكثير من عقد الحياة ومشاكلها التي تستفحل عاما بعد آخر حيث لا تقبل العقليات المتحجرة التخلي عن فكر القرون الوسطى ، وحيث تبقى الموروثات البالية تتحكم بنا وتجرنا إلى الهاوية سريعا ونحن سكون.
إن أهم ما طرحته الرواية هو نظرة الرجل الدونية للمرأة، وإن كانت ضحيته، وان دفعها هو بيده صوب الرذيلة وسرق براءتها للحصول على منافعه الشخصية، انه يحتقرها حتى وهو يحتاجها روحيا وجسديا ويمارس معها الفعل البشري الذي يسمى عند المجتمعات المتحضرة فعل الحب، لكن صوته الداخلي وبجينات أجداده يبقى رافضا لها كامرأة محترمة تتساوى مع أمه وتستحق الحب المقدس مثلها، والأغرب بل الأخطر من كل هذا، أن الاحتقار يمتد لابن هذه المرأة، الذي هو ابنه ويجرده من الحب الأبوي، لينخرط الابن أخيرا في تنظيم إرهابي ويقوم بعملية انتحارية يقتل بها نفسه ليقتل أبرياء، بعد أن تعقده قسوة أبيه الذي يبعده عن المنزل متفاخرا بقوله انه أرسل ابنه لمدرسة خارجية باهظة الثمن.
لم تكن ألام سوى الحب المهزوم، الضائع بين التمسك بحياة أدمنتها، وبين رؤيتها فلذة كبدها مقهورا صامتا، معقدا وبعيدا عن طبيعة أقرانه الأسوياء، هنا تكمن أهمية الرواية التي تعكس تفكك العائلة وضياعها بسبب عقلية قيم بالية يدخل الكره والاحتقار بها كعنصرين يخربان سلام الأسرة، ويدفعان المراهقين إلى طريق وعرة لا عودة منها غالبا..
والسبب واضح وهو، أن المجتمع قد حرم المرأة من آدميتها وتحكم بمقدراتها كأقل من إنسان ، دون الاعتراف بان هذا الحرمان يهد جدار الأسرة حجرا حجرا، وبالتالي يهد بناء المجتمع الذي بات يعاني من الإرهاب كأخطر مرض يضرب الجذور من الأعماق..
الضحايا هنا هم الجميع، الكل معرض للموت بجسد إرهابي في أي مكان من العالم، مهما كانت الضحية ودوافعها وكيفما كانت فقد تفاقم الوضع وبات من الضرورة بمكان البحث عن أسباب العلة من المصدر وبداية الحل تكمن في حقوق كثيرة أولها حق المرأة بالمساواة والاحترام، فهي حجر الأساس للخلية الأولى لأي مجتمع ..
لقد كانت الكاتبة زينب حفني موفقة في روايتها إلى حد أذهلني وأنا افتح أوراق حياة بطلة محجبة في شوارع المملكة العربية السعودية، وافتح غرفا تعيش ليالي ألف ليلة وليلة بكل جواريها، خمورها، ظلمها، نوازعها وحتى ألوان شموعها..
لقد أعطتنا الرواية حقا ملامح مذهلة، ورؤية حقيقة ما كنا قد رسمناها في مخيلتنا لمجتمع المملكة، ومن أين لنا أن نصل أليها والمجتمع يكتظ بالمحرمات والممنوعات والمقدسات..
زينب حفني كشفت المستور بكل شجاعة وجرأة وأستطيع أن اختصر رسالة الرواية بجملة واحدة، هي صوت أرادته الكاتبة أن يقتحم الآذان والعقول ، خاطبت به السادة المتحكمين بمصائر النساء :
هذه بضاعتكم ردت إليكم فما انتم فاعلون؟...

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف