عالم الأدب

عالم دُساد لا شيء سوى اللذة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

... وإيمان بها ثابت ثبوت الحياة


عبدالقادر الجنابي من باريس: صدر حديثا كتاب جديد يبتغي إعادة الاعتبار الى المركيز دُساد، كادعاء كل الكتب السابقة عنه، لكن هذا الكتاب يريد التمييز بين العالم الداخلي للاستيهامات الجنسية وتطبيقاتها العملية... فمؤلفته كلويه ديليس وهي كاتبة معروفة بإنجازاتها الفنية والكتابية لاستفزاز الجانب الأخلاقي المظلم من عالم الإنسان المعاصر، تقول أن "دُساد كفرد لم يجامع اطفالا ولم يدع إلى مجامعة الأطفال ولم يشجع هذا أبدا.. فهو مثل لويس كارول لم يدع البنات للركض وراء أرانب الجانب الآخر من المرآة". وقد عنونت كتابها على النحو الاستفزازي التالي: "دي ساد معاد النظر فيه ومُـلطّفـًا للبنات".
من هو دُساد؟ ولماذا بقيت أعماله موضع نقاش إلى اليوم بين رافض لنشرها ومدافع عنها؟ بل لماذا دُساد وليس غيره والتاريخ ملآن بآلاف الكتاب الجنسيين ولاحسي بظر الفسق الأخلاقي. منذ أن أكتشفه السورياليون وباشر موريس هاينه بطبع أعماله وتحقيقها، ثم واصل العمل الشاعر جلبيرت ليلي وتبعه آخرون وآخرون، ولا يزال هناك من يريد اختزاله إلى مجرد كاتب فاجر وشرير جنسي، واضعا دُساد مرة أخرى وأخرى على رف النظر فيه.. سنعود بمقالة نقدية لعرض أهم محتوبات كتاب كلويه ديليس.
يعتبر دُساد أول كاتب في التاريخ تجرأ، وبوجه الحقبة التي كان يعيش فيها، على أن يكتب بحرية مطلقة عن الزرقة العميقة للاستيهامات الجنسية الكامنة بين نياط الجسد البشري كمون النار... الحمراء التي يتدفأ بها الرجل والمرأة؛ اللفظ والتعبير منذ فجر التاريخ... بل أول من جعل من السرد الروائي وسيلة تكشف عن حرية الخيال في استنطاق المحرم. فهو لم يتكلم عن تخيلات وأوهام وإنما نقل وقائع الجسد البشري في أحلك لحظات انتشائه. فالجسد، في أعمال دُساد، مترع بدلالات المسكوت عنه قياسا إلى مدلولات المباح في مجتمع المشهد الفائض ببضائع الفجور عينه. وأكاد أقول أن للجسد ثأرا: إعادة اعتبار شاملة للماركيز دثساد. فالخوف من أعماله التي بفضلها صار للفلسفة مخدع من دم ولحم، هو خوف من مفاتحة الذات/ الجسد... بل هو خوفنا الغامض من الحرية! فمثلما يتفصد الجسد في روايات دُساد عرقا، يتفصد ضميرنا اللغوي خوفا من البوح وهتك السر! والآن، كمقدمة أولية، لنسرد سيرة دُساد الحياتية والأدبية وتطوراتها نحو هذا الشك التنويري المنزع الذي لم يقدر حتى فلاسفة التنوير على احتوائه والدفاع عنه.

****

"إن أكثر الناس تسامحا لن ينفي حقّ العدالة في قمع الذين يجرؤون على نشر الإلحاد، ولن ينفي حقها حتى في إعدامهم إن لم تتمكن بطريقة أخرى من تخليص المجتمع منهم. إذا كان بإمكان هذه العدالة أن تعاقب من يسيء إلى شخص واحد، فلديها دون شك الحق نفسه في معاقبة الذين يسيئون إلى مجتمع بأكمله برفضهم أن هناك إله... شخص من هذا النوع يمكن النظر إليه عدوا لمجمل الآخرين."
يعطي هذا المقطع الذي كان ديدرو ودالمبير بين موقّعيه فكرة عما كان عليه القرن الثامن عشر، بالرغم من ادعائه التنوير وأفكاره الليبرالية، من تزمت في الآراء وتصلب في المعتقدات حتى لدى فلاسفته الأكثر إدعاء برفض الدين.

ماركيز دُساد، نموذج الإباحية الشامل والإلحاد الذي لا رجوع عنه، هو ابن هذا القرن؛ قرن التنوير المتواطئ. عُتِّم على أدبه لمدة قرنين. كان عليه أن ينتظر ظهور السوريالية بريشة مان راي حتى يُزاح عنه الستار فها هي أعماله تذهل أندريه بروتون وغيوم ابولينير الذي عرّف دُساد بأنه "أكثر العقول حريةً على الإطلاق". على أن الروح الحرّة هذه قضت معظم حياتها في السجن الذي دخلته لأول مرة عام 1763 لتمضي في ظلماته سبعا وعشرين سنة من الحبس المتقطع، موزعة على ثلاث أنظمة سياسية وإحدى عشر سجنا، انتهت في مصح عقلي عند موت الماركيز عام 1814. عالم دُساد، عالم السجن الذي فضل البقاء فيه، على أن يتخلى عن أفكاره ورؤاه، إنه عالم مغلق وصفه بروتون "بالحافز الآخر لفائض الخيال، بعد الحافز الأول: العبقرية".

ولد ادوناسيا الفونس فرانسوا المعروف باسم دُساد، في الثامن من حزيران 1740، في فندق كوندي في باريس. أرسلته عائلته وهو في الرابعة إلى البروفانس، لكي يشرف على تعليمه عمّاته، وخاصة عمّه الخوري دُساد وهو عالم وماجن في آن. يعودد إلى باريس سنة 1750 لإكمال دراسته في كلية لويس لغراند. يُقبَل في سنة 1754 في مدرسة شيفو- ليجير التي لا تقبل إلا أطفال العوائل النبيلة العتيقة جدا. يصبح ملازم في فوج مشاة الملك سنة 1755. وما بين 1757 - 1763 ، يشترك في حملات حرب السنوات السبع، وينال ترقيات عديدة. يتزوج من رينيه بيلجي دومنتري في السابع عشر من أيار 1763. وفي هذا العام بالذات، بعد مرور بضعة أشهر على شهر العسل، ينفّذ ماركيز دساد أو أعماله الفجورية في بيت صغير بالقرب من باريس. مما يحبس بسببها بضعة أسابيع في سجن فنسان ثم يُبعث إلى الإقامة الجبرية في نورماندي. وفي سنة 1764، يخلف والده في منصب ملازم أول في اقليم بريس، وبهذه المناسبة يلقي خطبة في برلمان مدينة ديجون. فيما يقضي أوقاته مع ممثلات. غير أن فضيحة تسجل في تاريخ، هي جلد بنت شابة اسمها روس كيلر مع أفعال مدنسة في يوم أحد عيد الفصح سنة 1768. أقامت روس كيلر دعوة عليه، لكنها سحبتها بسبب ضغوط عائلية. إلا أن القانون غرّم دساد بمائة جنيه وفرض عليه الإقامة في قلعته في لاكوست التيسيتركها في عام 1796 إلى هولندة وهنا يبدأ بتحرير كتابه "رحلة داخل هولندة على شكل رسائل". وفي آب 1771، يُسجن بسبب الديون المتفاقمة. يكوّن في سنة 1772 علاقة مع أخته القسيسة آن خروسبير دولوني. في السابع والعشرين من حزيران، تتم الفضيحة الكبيرة الثانية في مارسيليا: نكاح مشترك هو وخادمه وأربع شابات عاهرات، ويقال أنها كانت ليلة مجون ودعر كامل: جلد بالسياط، نكاح من الخلف والأمام، لواط وارتشاف الكثير من المنعظات، مما دفع العاهرات الأربع إلى الاعتقاد أنهن قد سممن. فقدموا شكوى ضده وضد خادمه لاتور. يجري تفتيش قلعته. يهرب مع خادمه لاتور وزوجة أخيه إلى إيطاليا. وفي الثالث من أيلول يصدر حكم الموت غيابيا عليه وعلى خادمه. ونفذ الحكم صوريا في أكس بروفانس يعد بضعة أيام. لكن يتم اعتقال دساد في الثامن من ديسمبر في فور دو ميولان. يهرب ثانية في بدء 1773. تبدأ سلسلة فضائحه بالخفية في عام 1775، من بينها نكاح مع الخدم والخادمات في قلعته في مدينة لاكوست. وفي هذا العام بالذات يكتب "رحلة داخل إيطاليا أو طروحات قديمة تاريخية وسياسية ووفلسفيو في ما يتصل بمدينة فلورنس، روما ونابولي". يعود دساد سنة 1777، لرؤية أمه المحتضرة، فيعتقل ويسجن في فنسان. غير أن حكم برلمان أكس يُلغى في 1778. يهرب دساد لكنه يبقى طليقا فقط لمدة 39 يوما فيلقى القبض عليه وهذه المرة يبقى في السجن لمدة 12 سنة. ومن داخل هذا السجن تبدأ مغامرات دساد الكتابية. فها هو ينجز العديد من أعظم أعماله التي خلدته: "محاورة بين كاهن ومحتضر" و"120 يوما في سادوم" (1782). وعندما نقل إلى السجن الياستي سنة 1784، يعيد صياغة "120 يما في سادوم". (1785) يبدأ مسودة "ألين وفالكور" (1786) الانتهاء بستة عشر يوما من كتابه "تعاسة الفضيلة" (1787)، و"يوجني دي فارفال" المعروفة بعنوان "جرائم الحب" (1788).

في الرابع من تموز سنة 1789، يحرض دساد، من نافذة السجن، المارة على التمرد، مما يسبب نقله إلى قسم شارنتون. في الرابع عشر من الشهر نفسه، يتم احتلال سجن الباستي فيطلق سراحه في الثاني من آذار 1790. وفي التاسع من حزيران هذا العام، تحصل زوجته على حق الطلاق. إلا أن دساد قرر الآن أن يناضل في صفوف الفرق الثورية لمنطقة لوبيك. وفي عام 1791، ينشر "خطاب مواطن باريس إلى ملك الفرنسيين"، وروايته الهازة إلى اليوم "جوستين أو مساوئ الفضيلة"، وتمثّل مسرحيته "تأثيرات الماجن"، غير أن مسرحيته الثانية "المغ~وِ" تلاقي فشلا ذريعا في سنة 1792. وفي العام ذاته تُنهب قلعة لاكوست. يواصل تولي مناصب عديدة في فرقة لوبيك الثورية التي سيصبح رئيسا لها في 1793. إلا أنه في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) يعتقل بتهمة الانتماء إلى المعتدلين. يُحكم عليه بالموت في السابع والعشرين من تموز 1794. لكن من حسن حظه يسقط روبسبير في اليوم التالي. فيُطلق سراحه في الخامس عشر من تشرين الأول. وفي منتصف 1795، تصدر روايته الهائلة "الفلسفة في المخدع" التي يضمنها فصلا يحرض فيه الفرنسيين على التصدي الحازم للدين وأئمته المجرمين، وقد عنون هذا الفصل الذي كثيرا ما استعملته، فيما، بعد الحركات الثورية وإلى اليوم، كراسا راديكاليا في حربها على الدين: "أيها الفرنسيون، جهد آخر إذا أردتم أن تكونوا جمهوريين".

سنة 1796 يتم بيع قلعة لاكوست. وفي سنة 1797: برحلة إلى البروفانس، صدور "جوستين الجدية أو نوائب الفضيلة" متبوعة بقصة "جولييت وأختها أو رخاء الرذيلة". غير أن ساد يجد نفسه بعد سنوات في وضع مزري مما يدفعه الأمر إلى الاشتغال في مسرح فيرساي. يتم اعتقاله للمرة X في السادس من آذار/ مارس 1801 بينما تظهر بعض أعماله مثل "جرائم الحب". وفي الرابع عشر من آذار/مارس 1803، بعد أن أكتِشف أنه يحاول مغازلة بعض السجناء الفتيان، ينقل إلى سجن سان بييج وهو سجن مرعب ومظلم. إلا أنه ينقل بعد وساطات عائلية إلى مصح شارنتون. ينتهي من كتابة "أيام فلورييل أو الطبيعة المعراة"، غير أن الشرطة تستولي على المخطوطة، ولن يراها دساد من بعد، ويتم حرقها مباشرة بعد موته. في الثاني من آب /اغسطس 1808، يقدم المسؤول الطبي في مصح شارنتون تقريراً إلى وزير الداخلية "حول المخاطر التي يولدها حضور مؤلف جوستين السيئة الصيت"، ويتابع المسؤول بأن "دساد ليس مجنونا. إن جنونه الوحيد هو فجوره... وثمة اشاعة تتردد في المصح بأنه يعيش مع امرأة بحجة أنها بنته". كما يطالب المسؤول من وزير الداخلية بهدم المسرح الذي بناه دساد داخل المصح فهو "خطر على المرضى" ومجال لتمرير أفكاره الهدامة. وبالتالي بضرورة نقله إلى سجن أو حصن.

(تجب الإشارة هنا إلى أن الكتابة المسرحية عند دُساد تبرز في نحوها الأمثل عندما لا يكتب المسرح. وللمثال فإن "حوار بين كاهن ومحتضر" نص لم يكتبه دُساد على شكل مسرح، لكنه أقرب ما يكون من المسرح، وأراد فيه أن يترك نصا فلسفيا لمجمل تفكيره الإلحادي، وقد كتبه في تموز (يوليو) 1782 خلال سجنه في فنسان، ولم يظهر له أثر إلا بعد قرن من تاريخه. فبعد أن بيع مرات عديدة وصل أخيرا إلى يد السوريالي موريس هاينه الذي نشره للمرة الأولى عام 1926. والحوار هذا يجسد تكثيفا فلسفة دساد بأسلوبه الشامل الموجه، ويوضح موقف "السادية" إزاء الإجرام والتخريب الذين تعتبرهما مساهمين ضروريين لتحقيق "الطبيعة" فالمسرحية تدور بين محكوم عليه بالإعدام وكاهن جاء لإقناع هذا الرجل الضال بالتكفير عن سيئات أعماله الفجورية وأن يستغفر ربه قبل أن يلتقي به. غير أن المحتضر، أي المحكوم عليه بالموت، لا يتراجع عما كل ما آمن به داعيا الكاهن: " فلتذر أحكامك الجاهزة أيها الواعظ، تخلّص من إسارِكَ، وكن رجلا، كن إنسانا بلا خوف وبلا رجاء. إنسَ الهتك وإنسَ دياناتك أيضا فلا شيء يُرجى منها غير تسليط رجل على رجل - إن اسم هذه الأهوال وحده قد تسبب بضحايا تفوق عدّا ما سببته الحروب والكوارث الأخرى مجتمعةً. اطرح عنك فكرة العالم الآخر فثمة لا عالم، ولكن لا تطرح لذّة أن تكون سعيدا وأن تسعد الآخرين في هذا العالم فالطبيعة لا تمنحك وسيلة غير ذلك لتضاعف وجودك ولتطيل أمده - لقد كانت الملذات المتهتكة يا صاحبي أعزُّ مقْتناي، ولقد تعبّدت لها ما عشت، وكنت أشتهي نهايةً في حضنها. إنّ أجلي يدنو وفي الحجرة المجاورة ست نساء أبهى من ألقِ الفجر، ينتظرن، فأنا كنت قد ادّخرتهن لهذه اللحظة. هلّم وشاطرني المتعة، تمثّل بي وعانقهن عوضا عن عبث المماحكات الخرافية وفي عناقهن حاول لبرهة أن تنسى معتقداتك المنافقة").

ورغم تدخل مدير شارنتون لصالح دساد، يوافق الوزير على قرار نقل دساد إلى سجن Ham . وبعد وساطات العائلة والمدير والطبيب، يؤخر الوزير تنفيذ قرار نقله إلى 15 آذار/ مارس 1809. وفي 21 نيسان/ أبريل يرجأ القرار نهائيا. وفي 18 تشرين الأول/اوكتوبر، يصدر وزير الداخلية قرارا عنيفا ضد دساد، يقول فيه: "أما بصد دساد... فهو يعاني من أخطر حالات الجنون، وأي اتصال بينه والمرضى الآخرين يسبب مخاطر لا شفاء منها. وكتاباته لا تقل خطرا عن تصرفاته. لذا أقرر بنقله إلى غرفة منفصلة حتى تمنع عنه كل الاتصالات مع الآخرين... والحذر المطلوب هو أن لا يُزوّد بقرطاس أو حبر أو ورق، وتقع على مدير المصح مسؤولية تنفيذ هذا القرار". وهنا إشارة من الوزير على تهكمه من اعتبار مدير المصح نفسه بأنه يدير ملجأ إنسانيا.

وصية دي ساد ينفذها الفنان السوريالي جان بنواوهكذا يعاني دساد تحقيقات إرهابية على يد عدة مسؤولين في الدولة، حتى نابليون يقرر بضرورة إبقائه في مصح شارنتون. ومما يزيد الطين بلة، ظهور عدة طبعات لكتابه "جوستين" سريا، حد أن دساد اضطر إلى التصريح بأنه ليس مؤلف هذا الكتاب. وفي منتصف سنة 1813 يأتي قرار بمنع فعاليات مسرحية في المصح. أخذت صحته تتدهور ولم يفد أي تدخل لصالحه بإنقاذه. وها هو الثاني من كانون الأول/ديسمبر 1814 اليوم الذي يموت فيه الماركيز إما بسبب احتقان رئوي أو حمى غنغرينية حادة، فالقرار الطبي آنذاك لم يحدد السبب المضبوط. تم دفنه في مقبرة شارنتون، ضمن الطقوس المرعية رغم وصيته المضادة لهذه الطقوس. وقد كلفت طقوس دفنه 75 جنيها: عشرون للصليب، عشرة للتابوت، ستة للكنيسة، تسعة للشموع، ستة للقس، ثمانية لحاملي النعش وستة لحافر القبر. وهكذا حكم التاريخ بأن على دساد أن ينتظر قرنين ونصف، أي حتى سنة 1959 لتنفذ وصيته الحقيقية على يد السوريالي جان بنوا وبإشراف مؤسس السوريالية أندريه بروتون.

هنا مقطع من رسالته المؤرخة 1783 إلى زوجته التي تطالبه بأن يتخلى عن تصرفات فكره، وأن يخفف من مواقفه علّه يحصل على العفو ويطلق سراحه:

"إذن، تقولين إن طريقة تفكيري لا يمكن قبولها... وهل تظنين إني اهتم لذلك؟ يقينا أنه أحمق بائس ذلك الذي يتبنى منوالا للتفكير من أجل الآخرين. إن أسلوب تفكيري ينبع مباشرة من تأملاتي.. إنه يحتوي وجودي؛ الطريقة التي خُلقت بها. ليس في قوتي أن أغيرها، حتى لو كان في إمكاني ذلك، فلن أفعلها. فطريقة تفكيري هذه والتي تستهجنيها أنتِ، هي ملاذي الوحيد في حياتي. إنها تخفف كل معاناتي في سجني. إنها تكوّن كل متعتي في العالم الخارجي. إنها أكثر رفقة لي من الحياة نفسها. ليست طريقة تفكيري هي ينبوع تعاستي إنما الطرق التي يفكر بها الآخرون. فالإنسان المدرك - والذي يزدري التغرصات الساذجة سيصبح بالضرورة عدوا للسذاجة- عليه أن يتوقّع شيئا. عليه أن يسخر من المحتوم. هاك مثلا: مسافر يرحل على امتداد طريق جميل، لكنه مليء بالفخاخ. يسقط في واحدة منها. أ ستقولين أنه خطأ ذلك المسافر أم خطأ ذلك النذل الذي وضع الافخاخ؟
إذن، وكما قلت لي بأنهم يرغبون في أن يعيدوا حريتي، إذا كنت مستعدا أن أدفع من أجل ذلك مبادئي ونزوعاتي. سيكون وداعا بيننا، دون أن أفترق عن أي منهما. سأضحي بألف حياة، سأضحي بألف حرية إذا ما قدر لي أن أحتفظ بها. أنا متعصب لا أحيد قيد شعرة عن تلك الميول والمعتقدات، وتعصبي هذا هو نتاج كل الاضطهادات التي تحملتها من مضطهدي. أكثر فأكثر يستمرون في تكديري أعمق فأعمق تترسخ جذور تلك المعتقدات في قلبي. وها أنا أعلن على رؤوس الأشهاد بأنه ليس هناك جدوى في أن يحدثني أحد عن الحرية إذا ما عرضت علي مقابل تدمير معتقداتي".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف