التاريخ الذهبي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وضع اعتراف الكاتب الألماني"غونتر غراس"الحائز على جائزة نوبل في عام 1999بأنه انخرط ، وهو في السابعة عشرة من عمره، في إحدى فرق الحرس النازية(SS) طبقة المشاهير من الكتاب والمفكرين أمام المسؤولية المباشرة لصنّاع الرأي العام، وكيفية تنظيمها، والتصرف بها. ويتنزل اعتراف"غراس"في المنطقة المتوترة بين رغبة الجمهور في براءة المشاهير، ورغبة هؤلاء في التطهر مما لحق بهم من أخطاء اقترفوها عن قصد أو غير قصد خلال حياتهم. وهذا التنازع حول الصورة الخارجية والداخلية للكاتب يحول دون الاتفاق على حلٍّ مرضِ للطرفين، وكما ظهر في حالة غراس فقد أصيب الجمهور الأدبي بخيبة أمل؛ لأن الصورة النمطية الكاتب قد خرّبت في بعض أجزائها، وهذا تعبير عن رغبة يبديها متلقون ينتظرون نقاء مطلقا دون أن يفكروا مليّا بنقائهم الخاص، وبمقابل ذلك يحرص الكاتب على عدم التنكر للأخطاء التي انزلق إليها في وقت مضى سواء أكانت شخصية أم أيدلوجية. فهو يريد تنقية صورته الجوانية حتى لو اقتضى ذلك البوح بأسراره الخاصة، وبأخطائه، في آخر لحظة من حياته.
وتتصل هذه القضية بأخرى أكثر أهمية، فالجمهور يضغط التاريخ الشخصي الكاتب في لحظة واحدة، وهي لحظة التعرف إليه خلال القراءة، فيما الكاتب صيرورة من التحولات التي لا تنتهي، ولايعاب على المرء الوقوع في الخطأ إنما يعاب عليه نكرانه له، أو عدم تخطيه له، فما فلا يبنغي الخوف، أو حتى الخجل، من اقتراف الكاتب للخطأ، ولكن يعاب عليه تقبله، والتعايش معه، فالانزلاق إلى الخطأ أمر يصعب السيطرة عليه بسبب تحول الوعي الخاص بالكاتب من درجة إلى أخرى، وبين مرحلة وأخرى، وصولا إلى ما يصطلح عليه "لوكاش"بـ"الوعي الأصيل" بنفسه وعالمه، وذلك يتأخر كثيرا، وقد لا يأتي أبدا. وبعبارة أخرى يتعامل الجمهور مع شخص جاهز، فيما يتعامل الكاتب مع ذاته بوصفه شخصا في حالة تحول، وحالة الاعتراف بالنسبة إليه جزء من عملية التحول، لكنها حالة تخدش أو تدمر الصورة الرمزية له في المخيال العام. والآن يبنغي أن نثير السؤال الآتي: هل ينبغي الصمت، وتزييف الماضي، والسكوت على الخطأ، والتنكّر، وخداع النفس والجمهور؟ أم التقدم بلائحة الاعتراف، وكشف الحقائق، وتقبل كل ما يترتب على ذلك؟
نعلم جميعا بأن أدب الاعتراف لم يزل محط شبهة، ولم يهيمن على ذهنية القراء كما وقع للآداب الأخرى، وهذا يعني أن الجمهور لم يتمرس بعد في قبول الخطأ، إنما يأخذه على أنه سلوك دوني أو منحط أو غير مقبول، فالجمهور يمارس خفية دور القاضي المتعجل الذي لا يهتم بحيثيات القضية المعروضة عليه، بل ينتظر خطأ المتهم ليكون لديه دليل ذنب. وهذا النوع من التلقي الخارجي للآداب زرع ذعرا لدى كثير من الكتاب حال دون اقترابهم إلى المنطقة الحساسة التي قد يقع التشهير بهم بسببها، ولهذا يلوذ الأدب بالترميز والكناية، وينجرف بعيدا عن البعد الذاتي أحيانا. وبالاجمال فرغبة الجمهور تدفع بالكتاب أحيانا إلى الكذب، واختلاق تاريخ ذهبي لحياتهم، كما أن مصالح بعض الكتاب قد تدفع بهذا السلوك، ولكن هذا لا يشفع أن لكثير من الكتاب الرغبة في الحفاظ على الصورة النمطية لهم في أذهان العموم، وذلك يعمق لديهم حالة التكتم على الأخطاء التي اقترفوها، وعدم التعامل معها على أنها أعمال وقعت في سياق مختلف من ناحية زمنية وفكرية. وهذه الرغبة المشتركة بين الطرفين افضت إلى ظهور أدب يهرب من كشف البعد الذاتي، وحينما يظهر أدب اعترافي لا يستجيب لذلك يقع تلقيه على أنه فضيحة. ولو نظرنا مليا إلى خارطة الأدب العالمي لرأينا أن أدب الاعتراف لم يزل يتلقى إما بوصفه جملة أسرار، أو على أنه مدونة فضائح، فسوء الظن رابض يتربص بعامة الكتاب والقراء، ولاغرابة أن نجد أن أدب السيرة الذاتية نادر في كثير من الثقافات، ومنها العربية، فلو بحثنا في أدب السيرة الذاتية العربية القديمة لانجد من بين عشرات الكتب مجالا للبوح بالجوانب الشخصية والعاطفية والوجدانية، ولايوجد أي احتمال للاعتراف بالخطأ، وكل ما نعثر عليه هو وصف تجربة التعلم على يد الشيوخ وسواهم، وكأن الحياة هي تجربة تعليمية اعتبارية فقط.
إن الخوف من القراء سيعمق رغبة الصمت لدى الكاتب، وهذا يطمر في طياته تزييفا للتاريخ الشخصي له، ويجعل من خداع الذات والآخرين سلوكا مقبولا وشائعا، إذ تتوارى الوقائع المهمة، والحق فكل هذا يتعارض مع وظيفة الأدب في أنه استبطان للمناطق المخفية والمتوارية من حياة الأشخاص، ثم المجتمعات بعد ذلك. ومن المفهوم أن اعتراف الكاتب بخطئه سيؤدي إلى خسارة اعتبارية لموقعه لدى العموم- وربح كبير لدى الخصوص- ولكنه سيحسن شروط التاريخ الأدبي، وينبغي أن يقبل ذلك على أنه جزء من الممكنات والاحتمالات المتوقعة في حياة الكتّاب وهم ينخرطون في ممارسة الحياة خارج مجال الأدب. فما يهم القارئ هو الجزء الأدبي من الكاتب(=يصطلح عليه المؤلف الضمني)ولاينبغي تأميم الكاتب كإنسان بناء على رغبة القراء، أو التحولات الأيدلوجية والثقافية التي تمر بها المجتمعات. ولايوجد مكان أفضل من السيرة الذاتية للبوح بالأفعال جميعها، بما فيها الأخطاء، والنزوات، والرغبات، فإدب السيرة الذاتية يقوم على ميثاق بين القارئ والكاتب ينص على أن كل ما يتضمنه إنما هو حقائق وأحداث لها صلة بحياة الكاتب، فيما لايشترط العقد الضمني ذلك في سائر أنواع الأدب الأخرى.
ليس من المفيد أن ياتي الاعتراف منقطعا عن السياق الحاضن له، وإلا أصبح فضيحة، فالقارئ يبحث عن ذروة، ويهمه أن يتعلق بحادثة مثيرة، أما الكاتب فمشغول بسياق كامل من التحولات الفكرية والجسدية، وحينما يعيد تركيب تاريخ حياته في كتاب السيرة، فمن الطبيعي أن يدرج الأحداث في سياق منظور خاص لنفسه، ولمجتمعه، وللعالم الذي يعيش فيه. ومن الخطأ انتقاء لحظة عابرة، أو حدثا خاصا، وتركيز الاهتمام عليها في منأى عن السياق الذي يحتضنها، فلذلك انتهاك مقصود يهدف إلى تخريب فكرة الاعتراف، والترويج لغاية معينة توافق أيدلوجيا القارئ الذي يقوم بذلك. وفي جميع الأحول لابد من الأخذ بالحسبان الكامل كيفية استعادة وصف احداث الماضي، وما هو الموقف منها؟ وكيف جرى ادراجها في كتاب السيرة الذاتية؟ وفيما إذا كانت تمثل خطأ أخلاقيا؟ وهل أراد الكاتب وصفها كفعل سقط فيه دون وعي أو رغبة، أو أنه استدرج إليه، أو أنه اختاره بقصد. ثم- وهذا هو المهم- هل جرى تخطّي كل ذلك؟ وما الأثر الذي تركه في حياة الكاتب وأفكاره؟. كتب كثير من السير لتكون مدونة اعترافات، وأخطاء، وانزلاقات، وقليل منها تتمسك بالهدف الاعتباري للكتابة، وهي أن ما نكتبه، وما نرغب في استعادته، ينبغي أن يكشف خارطة التحولات الاجتماعية والفكرية والشخصية، وبيان علاقة الكاتب بكل ذلك تأثرا وتأثيرا، وإلا أصبحت الكتابة خداعا، ثم اخيرا ينبغي أن نمنح الكاتب الفرصة والمناسبة والحق في تقديم اعترافه في الوقت الذي يراه مناسبا. إن للاعتراف قيمة تفوق كثيرا قيمة الصمت أو التزوير، ولابد أن يمنح المعترفون فرصتهم لقول ما يريدون قوله. وتجنب الخداع، واصطناع التواريخ الذهبية المزيفة.
www.abdullah-ibrahem.com