عالم الأدب

في متحف الإيروسية بباريس

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"يلزم ألا نثق أبدا في الذين لا يشربون لأنهم ليسوا قط على وفاق مع أنفسهم" (خمر فولينسكي مكتوب على زجاجة في المتحف!)


"رأيت على مقربة مني وعلى يساري ملَكا في
هيئة أدمية. فمن النادر أن أرى الملائكة على ذلك النحو...
ليس طويلا فهو قصير غير أنه جميل جدا...
رأيت إذن الملَك الذي يمسك بيده نَبلا طويلا من ذهب
وأعتقد أن طرفه الحديدي يشتعل ببعض نار. تهيأ لي
بأنه يرتمي عليّ ويوغله مرارا في أعماق قلبي مخترقا أحشائي.
لما يوغله فيَّ لنحسب أن هذا الحديد يخطفني ويدعني
أحترق بكليتي بحب هائل لله. كان الألم جد حاد
لدرجة أني أرسل تلك التأوهات التي تحدثت عنها.
غير أن اللذة، التي تأتت من ذلك الوجع الذي لانظير له،
هائلة، لدرجة أن الروح ليست تأمل نهايتها، وليست
تكتفي بشيء آخر من دون الله.
ليس يتعلق الأمر بمعاناة جسدية، وإنما هي روحية. مع ذلك لم
يفت الجسد أن يقاسمها قليلا أو حتى كثيرا.
إنها مقاسمة الحب؛ شديد الحلاوة، بين الله والروح".
القديسة تيريزا دأفيلا. (1515/1582). (ترجمت النص عن المتحف).


ليس من السهل قط أن نسقط عن مكان ثقل ما قد يخالط ذكر اسمه من سوء، مثل: حي بيغال بباريس. وإن شاء صاحب كتاب "باريس والباريسيين" أن يسلخ ذلك الوشم الخبيث عن وجه المكان، إذ سعى مثل أي مجنون آخر إلى إنصاف روعة بيغال وعظمة أزمنته. ليس يشفع لحي بيغال شيء من أجل براءة ما، إذ يحمل فوق أرصفته وداخل مبانيه لسرية ما يمنحه اسما بوقع خاص، سوى تلك الحياة الفنية التي صعدت من عمقه وتلوت كثيرا مثل لبلاب بري حول شقاء كل تفاهة شامتة على الأرض!
تسللت ذات مساء، وسط كل المتخبطين في بوليفار كليشي، كي أصل إلى "متحف الإيروسية" الذي لا نكاد نتبينه لصق محلات بيع وعرض الأغراض الجنسية التي قد لا ينفلت أحد من صفعة لوثتها اللعينة في العين. إذ ما يزال الحي الممتد من بيغال إلى منطقة بلونش يقيم على وعوده ويشد أود حبل لم ينقطع تماما مع الأمس.
فالمتحف يتخذ له مكانا في بناية من خمسة طوابق إضافة إلى أرضي وتحت أرضي، وهو حديث إذ تأسس عام 1996.
على الباب تقع العين سريعا دون مشقة على تمثالين ضخمين أحدهما يمثل جسد المرأة والآخر الرجل. هما إذن الطرفان اللذان سوف يشغلان كل معادلة المتحف، وكل الفن الذي سوف يصدر عنهما بشرارة مدهشة: "الشبقية" وكل احتمالات مراودتها ومداراتها.
ليست العبارة التي حرصت فتاة زائرة أن تخطها في دفتر تعليقات الزوار بالمتحف أقل جمالا إذ كتبت: "جئت بحبيبي ليزور المتحف وليدرك أساسا أن الجنس فن أيضا".
يشك من لا يتوفر على تحديدات كافية وهو أمام مبنى المتحف هل المبنى متحف فعلا أم علبة جنسية؟
يتوجس. يقف قبل أن يخطو. يرفع قدميه وينظر يمنة وشمالا قبل أن يحط على عتبة المتحف. يحس بقلبه يخفق أكثر ولا يدرك هل ليس يأتي أمرا مشينا. هل ليس يقع على قلبه ورم من شدة الحنق والذنب كأنه ينوي الدخول في سرية بالغة إلى مبغى وكأنه بدر شاكر السياب يخرج ويضم رأسه بين يديه أمام مبغى بغداد، الأزمنة التي ما يزال نهر جيكور يهدر فيها بهدوء رومانسي.
إنه متحف. وقد يتجرأ الشيخ النفزاوي، لو يستطيع أن يخرج عمامته ويطل من قبره، أن يسميه "الروض العاطر" وتكون نزهة المتنزه في "الخاطر". هذه الكلمة التي عرفت تبدلات كثيرة عبر التاريخ واحتفظت رغم كل ذلك بعمقها الأخاذ: أي هذا الخاطر الخطير!
يجابهك"الذكر" من كل جهة، مصنوعا ومجبولا من كل أنواع المادة، الحطب والطين وغير ذلك، وتكون عظمة إبراز قيمته أو وزنه لما يُنحت الرجل وهو يحمل عضوه قدامه بواسطة عربة يدوية. أو لما، إذ كان الزمن آنذاك زمن نقد السلطة الدينية في شخص الكنيسة ورجالاتها، يجسم الرهبان والقضيب يتخطى قاماتهم وكأن شخصيتهم ليست تدور دورتها سوى حول ذلك الكائن النائم بين الفخذين ليس إلا!
أو القضيبان المقرونان، وقد قدا من خشب، وكان عنوانهما كالتالي: "ما يمكن أن يخول لامرأتين أن تستغنيان عن الرجال!" أو ذلك الحذاء الخشبي الذي ينفلت منه قضيب مكان كعبيه والذي ليس يمكن مقارنته بحذاء سندريلا الذي قال عنه علماء النفس أنه، مادام من زجاج، يرمز إلى هشاشة غشاء العذرية والذي طالما حز في نفس سندريلا أن تفقده.
وليس يمكن أن نتحدث هاهنا عن كعب آخيل وكونه مكمن الضعف البالغ! حذاء آخر شُكل من قضيب!
"في أعماق غابة كثيفة تستطيع الرغبة أن تتخذ لها دوما مكانا لشجرة الحياة!" (مثل ياباني عن المتحف).
ليس الكرسي الذي نراه خلف واجهة المتحف الأمامية سوى المعنى العميق لمتعة حقيقية لامرأة. نصف ميكانيزم الكرسي لامرأة فتضحك، وتحس أسفلها، مادام الأمر ليس هزلا، قشعريرة خاصة!
الكرسي أيضا كهربائي، غير أنه ليس من تلك التي تميت بل بالعكس فهي من تلك التي تحيي الموات. كهربائي المولّد إذ يتيح لألسنة متوسطة تدور بتناوب مطرد، بنفس تقنية الناعورة، في سرج/ شرج الكرسي، ثمة تلك الفتحة التي أحدثت حيث يحصل أن يقع عضو المرأة لو قُدر لها أن تجلس على كرسي ما، خاصة على هذا الكرسي. غير أنه يلزمها أن تكون في كامل حميميتها وسريتها، ما يُلزمها بذلك أن تكون عارية كي يحدث الاهتزاز المطلوب والاحتكاك والوصل، كل في شهوة كاملة، بين لسان الكرسي ولسانها السفلي.
أي مثال رائع لامرأة تجلس وتقرأ كتابا على ذلك الكرسي أو تتأمل في الشرفة منظرا تافها ذات وقت ما من نهار بائس!
كتب أحد ما بالعربية في دفتر زوار المتحف ما يلي: "أدين بدين الحب مهما حلت مراكبه فالحب ديني وإيماني"، في استحضار لنبرة ذلك الشاعر، وفي إيماءة جميلة إلى ذلك الذي يرى تقديس إيمان في الحب والجنس ماداما سليلين.
أذكر أني قرأت منذ زمن كتاب صادق جلال العظم حول الحب والحب العذري وتبين لي آنذاك ومازلت أرى أن الأمر ما يزال قيد استمرار وتناطح بين منطق آخر ملتبس أو بين نظرة المتأمل في "شريعة الاشتداد" و"شريعة الامتداد" أي علاقة الرجل بالمرأة في الحب أو في الزواج. إذ خلص العظم إن كنت أذكر ذلك إلى أن الحب رهين بزمن اشتداد قصير والزواج ليس سوى امتدادا في الزمن لعَقد انتفت، منذ البدء بقليل، حجة أصله، دون أن أتناول كل نظريته في الذين نسميهم في تاريخ الأدب بالشعراء العذريين.
نعود لكراسي المتحف التي ليست أقل غرائبية واشتدادا في تكلفة التسري، "الذكر" الذي ينتصب في سرج الكرسي، كثيرة في المتحف وتؤسس لعلاقة الشيء بالجسد وعلاقة استعمال لأداة بوظيفة نفسية أو فيزيولوجية مرتبطة بمنطقة من الجسد أو بأداة. الجلوس أو المؤخرة ليسا سوى ترادفا لنغم واحد. أليس كذلك؟
أعرف جميعا أن الهند والفرس والعرب وغيرها من الشعوب قد تأملت الجنس ومارسته بسمو فني ولم تكتف قط بأن تترك نشوته دون هوامش أفكار خارج كل تطبيقاته. المتحف يعرض صفحات كثيرة من الكاماسوترا كي ينظر فيها من لم يرها قط. الصفحات صور في غالبيتها إذ لم يكن من بد لمصنف الكاماسوترا من أن يرصع نصه ببيانات دالة ليست تخلو من قيمة ومن حذق.
"يجد المنتصر دوما غمدا توائم سيفه من بين كل تلك التي يخلف المنهزم" (مثل ياباني مترجم عن المتحف). السيف والغمد كما هو بين ليسا سوى تلك الكناية الجميلة التي طالما تبطنتها لغة الناس لدى كل الشعوب في إشارة إلى المفتاح الذي يدخل في الثقب. استحضر للتو نادرة كنت قد قرأتها في الصغر في "البيان والتبيين" للجاحظ يحكي فيها أن امرأة تشاكس وتعاتب كثيرا زوجها، الذي كان متقدما عليها في السن، لدى كل مضاجعة، إذ ليس يسهل عليه أن ينتصب بيسر، فيجيبها : أنت ليس عليك سوى أن تفتحي بابا أما أنا فعلي أن أحيي ميتا.
صور الصينيين واليابانيين بقضبان منتصبة ونساء بشروخ لحمية ذات جلال أسفل بطونهن، أكاليل من روح الربيع الأبدي.
في المتحف أيضا أقنعة وأشياء اثنولوجية تشير إلى ثقافات الشعوب ومشاعرها الايروسية التي صاغت عبر خبرتها واستكشافها لكل خبايا الجنس وانفلات عذوبته والدهشة المبهرة التي تخلف متى اتقدت ناره، النار مرة أخرى وسرقتها.
في صور أخذت من مجلات قديمة مصورة ورسومات، قحبة تستغرب وتقول: أنا من لم تعرف الحب؟ أنا؟ أنا التي أبيعه (الهوى) كل يوم؟ وأخرى تجلس مع صويحباتها في نفس المهنة تقول مانحة تحديدا للزواج تقول: أن نتزوج يعني أن يكون لنا زبون واحد كل ليلة!
رجل على ما يبدو من هندامه أنه محترم يتعقب سيدتين في الشارع، تقول إحداهما للأخرى امنحيه عنوان أحد الفنادق المعروفة آنذاك بالدعارة.
ثمة أيضا كتاب جميل معروض في المتحف مادام جانب منه يعاود بنا الذهاب إلى منازل الدعارة المعروفة في الماضي ويؤرخ الكتاب لجانب كبير منها ولكل ما يدور فيها كل يوم خلال قرن من الزمن منذ 1830 إلى سنة 1930.
بعض شاشات تعرض باطراد بعض أفلام إيروسية وبورنوغرافية قديمة تشير إلى كون أصل العالم ملتهب منذ الأزل وسيظل. فيلم آخر يعرض أهم تقنيات الدلك بكثير من الخفة والإمعان في منح النشوة وراحة الجسم.
في الطابق السفلي ثمة صورة أفقية لامرأة وملاحظة جانبية تشير إلى أنه بإمكاننا أن نأخذ بأداة لها طرف حديدي على شكل قرص داخل حديدة أخرى موازية لطول جسد المرأة، نمرره من اليسار إلى اليمين. ما قمت به كي أرى فإذا بصوت تنهدات اللذة والشهوة تصدر من الصورة لكوني قد أجريت احتكاكا مكن من تشغيل البطارية، التفت إلي الزوار وابتسموا.
شيء جميل في المتحف أيضا هو خمر فولينسكي الرسام والكاريكاتوري المعروف والذي اصدر، ضمن كل نتاجه، يومياته عن أيامه لما كان تلميذا سماها "يوميات شاب لا يفكر إلا في النساء" أو لا يفكر إلا في الجنس. هما سيان. كُتب على الزجاجة ما يلي: "يلزم ألا نثق أبدا في الذين لا يشربون لأنهم ليسوا قط على وفاق مع أنفسهم". وقبلها هذا الإعلان الأولي عن أمر عظيم: "فولينسكي في المتحف: أمر حري بنا أن نشرب نخبه!"
استشهد سترابوفسكي في الصفحة 54 من كتابه "اختراع الحرية" طبعة سْكيرا (الذي أعيد طبعه هذه الأيام لدى غاليمار) بقولة سينانكور التي يقول فيها: "تمتع، فليست ثمة أية حكمة أخرى ماعدا ذلك ؛ تمتع، ليست ثمة من فضيلة ماعدا ذلك".
Kermounfr@yahoo.fr

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف