يؤنّثني مرتين لآمال موسى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
نشيد الكيان والأديم
رغم أن "يؤنّثني مرتين" هو ثالث ديوان للشاعرة المبدعة آمال موسى، فإن علاقته بالديوانين السابقين "أنثى الماء"و"خجل الياقوت" إن على مستوى الشكل أو المعنى متينة ومبنية على التجاور والتجاوز. ففي مستوى الشكل صدّرت الشاعرة القسم الأول من "يؤنّثني مرتين" بأبيات مأخوذة من "خجل الياقوت" والقسم الثاني بأبيات مأخوذة من "أنثى
النواة المركزية في الديوان متكوّنة إذن من النفس/الباطن أو الداخل والجسد/الخارج. في باب النفس تصوير لمشاعر الاحتراق في العشق والحيرة والرفض والتهشّم والتبعثر والتفتّت والرغبة ونظر في الزمان والفناء والخلق والموت وسعي لتمييز أصيل القيم من الزائف الرديء قصد بناء الكيان والوجود على أسس صلبة. لقد ندّدت الشاعرة في "وفي نفسي وقعت"بكل وجود غير أصيل يتخذ من الآخر منطلقا :
"ألا تبّت نفس
لم تقع في نفيسها. "
واعتبرت أن الموت والتهاوي هما المآل المحتوم :
"فارغا
من كل هوى
يموت
من وقع في غير طينه.
وسكن في النفوس المجاورة. . .
من وقع في غيره
كمن تهاوى
من الثّريّا في ليل غاسق".
وفي المقابل مجّدت من تجذّر في ذاته واستمع إلى نفسه:
"ومن أدرك في عناصره الحلول
كمثل من قطف النّجوم عند قرن الشمس".
في الحالة الأولى وهن وتهشّم وانهيار وفي الثانية اقتدار يصل إلى حد الخارق العجيب. ولهذا اختارت الشاعرة، من منطلق الوعي والتدبر وحتى لا تكون ناقصة هوى إذ في رأيها:
"كل الواقعين في أنصافهم المتوهّمة
ناقصون هوى"،
أن تسكن في ذاتها وأن تشفع لنفسها بنفسها وأن تتخلّص من الأوهام:
"أقسم أنّي لن أروم غيري متّسعا
وعد نفس
وعت بلادها الشّاسعة وفصولها المتناهية".
ومن اللافت أن التأكيد على النصف المتوهّم وقد يكون الرجل بالنسبة إلى المرأة العاشقة حسب الشاعرة قد أدى إلى تمجيد المرأة/الأنثى ودعوتها إلى أن تعي سامي منزلتها وتمارس حياتها بكل عناصرها الأربعة :الماء والتراب والهواء والنار، دون أن تصبح تلك الدعوة دعوة إلى الثورة والتطاول على الرجل. إنها دعوة تحرّك الذات وتبثّ الوعي في بنات آدم من خلال مراجعة الموروث السائد دون أن تصبح العلاقة بين المرأة والرجل متوتّرة أساسها العداء والصراع . وتعد "أنثى يخبئ فيها الماء" من القصائد المعبّرة عن هذا المشروع، فيها أشارت إلى التناقضات التي تعيشها الأنثى وأبرزت الأسباب التي جعلتها تعيش مأساة مستمرة بدت قدرا محتوما لا مفر منه. فابنة آدم مازالت تعيش مفارقات كبّلتها بها التقاليد. إنها لا تتجرأ على الخروج على السائد فتعتبر على سبيل المثال " ذخائر التفاح خطيئة"بل تتبجح بما ينبغي التخلّص منه ومحاربته. ولهذا وفي نبرة تدل على الاستبطاء لطول المدى استنكرت الشاعرة وضع الاضطراب والغم الذي تعيشه المرأة:
"طال تململك يا ابنة آدم
تعدّين ذخائر التّفّاح:
خطيئة
خطيئة
خطايا"،
ولكنها في نفس الوقت كشفت عن الأسباب التي جعلت مصيرها مأساويا في التاريخ:
"فأدركت
لماذا كلّ الإناث يمتن غرقى
ولماذا أخاتل قدري
لأصلّى بذات اللهب".
إلا أنه لا يمكن أن نعتبر أن الشاعرة قد استسلمت لهذا الوضع والقدر، بالعكس لقد سعت إلى تمجيد الأنثى وإلى قلب الوضع بهدوء عندما حملت المرأة رغم المحن والخسارات على تسلّق الأعالي واكتشاف العزيز والباسق فيها:
"دع قلبك فارغا
فلا فارس
يليق بصلواتك،
غير الله".
وعلى غرار "الأنوثة الكبرى في حالة سكر"، تحررت الشاعرة من جلّ القيود والضغوط وأفصحت عن رؤيتها وعن الحلول التي ترتئيها لتتجاوز المرأة حالة الغبن عندما جعلت الأنثى محورا لنشيد به انتصرت على التهشّم والتبعثر وبه ألغت كل التناقضات المكبّلة لها وأزالت المفارقات اللاصقة بكيانها ووجودها، فصاغت هوية جديدة للمرأة أساسها الشعر والصدق و الألوهية ومقصدها التصالح مع الذات والتاريخ ومن ثم التصالح مع المحيط ولكن باعتماد منطلقات جديدة حديثة:
"النّساء اللّواتي في وجوههن بصمات الإله
هنّ الشّاعرات
تجلّى في قصائدهن الصدق نشوة
فسكرت الأنوثة الكبرى
وتمايل الشّعر جداول ماء".
ورغم أن المرأة عنصر أساسي في القسم الثاني من الديوان، فإن مراكز الاهتمام اختلفت عما هو موجود في القسم الأول. فلم يعد رصد عالم المرأة الباطني الوجداني شعريا
"(ف)لا يليق بحرّة
أن تلبس ثوبا قديم الأزرار.
ورأسها شجرة
تحط فوقها عصافير
عصيّة الصّيد".
و"في الماضي المستعمل"خروج على ما يبدو طبيعيا ومقدّسا:
"أنبذ كثيرا أزواج الآباء والأمهات.
لا أطيق أن أرث أبي.
لا أطيق أن يكون لي طفل بعد طفلي البكر".
و"في خدعة"يكون الفعل أساس العلاقة بين الرجل طالبا متلمسا والمرأة ملبية مستجيبة:
"جئت باسطا كفّيك
إلى مائي
وناري
وهوائي
وترابي. فلبّى مائي دافقا
ولم ينهرك ترابي".
لقد امتزج في "يؤنّثني مرتين" ما أنتجه العقل وعيا وأفرزه الوجدان انفعالا فاقترن الفن بالفكر والإخبار بالإيحاء. وفي كل ذلك كان هاجس إعادة بناء الذات والحقيقة والحياة مركزيا. ولم تدرك الشاعرة ذلك عبر عالم شعري معقّد أو بخروج لافت عن المخيال الشعري أو تقيّد قاتل به. فذلك أمر بدا غير مفكّر فيه ما دامت تنطلق من الراهن ومن الموجود. ولذا كان معجمها اللغوي صورة من عالم اليوم: روح أوركستراليّة، بيت الاستحمام المفضّل، النّوم على حافة الطريق، مفتوحة على مصراعيّ، ناي وسكسفون، حرص بوليسي. . . إلا أن هذا الارتباط بالراهن وبراقصات الملاهي في "ياليتني كنت زجاجة" وبالذكور الذين في رأسهم قات في "قلال تملأ السّراب" اقترن أيضا بالتراث وبالمخزون الثقافي الفكري لا الإبداعي المرتبط بأقدم الحضارات الشرقية وبالأديان التوحيدية. وفي هذا السياق يبدو الارتباط بالموروث الثقافي مادة لا خيالا لافتا. فقد كانت العناصر الأربعة مادة محورية في الديوان وأوراق التوت وآدم وعشتاروت وأنكيدو وحفيد الأعشى وابنة أبي لهب. . . أساسية، بل إننا نجد أحيانا استعمالا للبناء القرآني لغة ونسقا في "الربّ يملأني بذرّة حب". ورغم ذلك استطاعت الشاعرة آمال موسى أن تسخّر ذلك الموروث للقطعية التي رامتها فكريا واضطلعت بها فنيا في الديوان. ولئن كان الاستدلال على هذه الخاصية ممكنا من خلال تتبع كل السمات الأسلوبية في أعمال الشاعرة فإن الاقتصار على عنصر الماء كفيل وحده بإبراز العلاقة الجدلية المخصبة بين الطارف والتليد وانبجاس التجديد من عناصر استهلكت استعمالا. فالماء في هذا الديوان غير الماء في الحياة وفي الأساطير ووظائفه متعددة بتعدد الحالات الشعرية التي عبرت عنها الشاعرة وصوّرتها. إنه أصل الوجود لا شكّ ولكنه أيضا قاتل متسبب في الغرق وماكر داهية يدرك سبيله بنفسه وتعجز الحواجز عن التصدي له وإيقافه وهو في نفس الوقت علامة المعرفة العميقة لا يدرك له قرار عندما ينظر إليه تماما مثل الماء الساكن. في الماء ينام الياقوت ولكن الأنثى تموت به، فيها يخبئ آدم الماء ولكن كلما حدّق فيه الإنسان أدرك عجزه و"قلة حيلته في الوصف"، إنه علامة الاستجابة القوية كلما بسط الرجل كفّيه إلى المرأة وفي نفس الوقت هو علامة البطء مرتبط بالتراب. لقد استطاعت الشاعرة بهذا التوظيف للموروث في مستوى التخييل وبتجاوز الدلالة الإخبارية المعجمية في مستوى اللغة نحو الإيحاء وبالانطلاق من الواقع أن تؤسّس لنفسها نهجا في الإبداع متميّزا. فهل ستظل في أعمالها القادمة لصيقة بالماء وبالأنثى أم ستتجاوزهما نحو فضاء آخر؟