سلوا كؤوس الطلا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كثيراً مايرتبط شعر شوقي الغزلي بالليل، ظلاماً ودجىً، ومنه يصعد التغريد. بهذه الوسيلة الفنيّة يجعل شوقي لحاسة السمع أهمية اكبر من حاسة البصر ليحقق جوّاً للسماع
يملأ الأسحار تغريداً إذا صرفَ الطيرَ إلى الأيكِ العشاءْ
ربما استلهم ظلماء الدجى وأتى الكوكب فاستوحى الضياءْ
ورمى أُذنيه في ناحيةٍ يخلس الاصوات خلس الببغاءْ
فتلقّى فيهما ما راعه من خفيِّ الهمس أو جهر النداءْ
على الرغم مما يعتور الأبيات أعلاه من تأليف غير محكم، وعبارة غير متواشجة إلاّ أنّ ما يعنينا هو ارتباط الاستلهام بالظلام، والإصغاء لأصوات مجهولة.
القصيدة أعلاه رثائية، إلاّ أن صوراً شبيهة بتلك ظهرت في قصيدة " سلوا كؤوس الطلا " التي " نظمت خصيصاً لأُمّ كلثوم". يقول محمد صبري في كتابه " الشوقيات المجهولة ـ الجزء الثاني ـ" في مقدمته لهذه القصيدة ( ص302 ) :"كان شوقي يقدِّر أمّ كلثوم لأنها أديبة تفهم ما تغنّي، وهي تحفظ القرآن، ولا تشرب الخمر. وفي غزل شوقي تلميح إلى ذلك".
ويقول عبدالمنعم شميس في كتابه " شخصيات في حياة شوقي"...:" وعَشِق أمّ كلثوم وكتب لها قصيدة التحدي التي غنتها بعد وفاته بسنوات...وهي التي يقول في مطلعها:
سلوا كؤوسَ الطلا هل لامستْ فاها واستخبروا الراحَ هل مسّتْ ثناياها
وكان يريد منها أن تشرب معه كأساً فأبت وغضب وغضبت...ثم انتهت القصة حتى مات".
نلاحظ هنا اختلاف الروايتين. في الاولى يقدر شوقي أمَّ كلثوم لانها لا تشرب الخمر وفي الثانية يغضب لانها لا تشرب معه الخمر!
يبدأ شوقي قصيدته الفارهة الايقاع، والرحيبة القافية:
سلوا كؤوسَ الطلا هل لامستْ فاها واستخبروا الراحَ هل مسّتْ ثناياها
لماذا أبتدأ الشاعر بـ " سلوا " بالجمع؟ لا بدَّ أنه ذُهل وانبهت واستغلق عليه سّرها، فاستنجد. أو هل كان يدفع عنه لومة لائم، فعزا جنونه بها إلى ما أصابه من ثمل؟ كانت تغني، فلماذا قال كؤوس الطلا؟ ربما لأن حاستين هما حاسة الذوق وحاسة السمع انصهرتا في حاسة واحدة، وكأنَّ لصوتها فعل الخمر.
لتكثيف الحيرة اكثر، قال الشاعر:" كؤوس الطلا" أي انواعاً مختلفة من الخمور.
للجمع في هذه القصيدة : مثل: سلوا واستخبروا، وكذلك كؤوس وثنايها أهميّتان فنيّتان. الأولى أن الشاعر جعل المشهد وكأنّه كورس أو مهرجان. الثانية أن الشاعر حين يتكلم فيما بعد بصيغة المفرد ستكون له ميزة آستثنائية.
كلمتا : لامست ومسّتْ تنمّان عن عفة شرب الخمر. إلاّ أنهما من ناحية شعرية مختلفتان. فالألف في لامست تدلّ على ارتفاع وهو ما يتناسب مع رفع الكأس إلى الفم، بينما مسّت تدلّ على انتشار تخديري." واستخبروا الراح هل مسَّت ثناياها"
حركة الجسد هي الاخرى تتأود وكأنْ من فعل الثمل. توحي حركة الثنايا على تموّج، يوحي هو بدوره، بليونة غصن. استعمل شوقي حاسة اللمس " لامس ومسَّ" بنعومة ريش. وهو بداية الخدر.
ثم ألا توحي " فاها " بأنفاس عطرة فائحة و " ثناياها" بهفيف أغصان طرية؟
يبدو أنّ شوقي هنا جعل فتاته شجرة، ليناً وغضارة وعطراً وتأوّدا. القافية التي اختارها الشاعر وهي : "آها" تؤدي ثلاثة أغراض في آن واحد :النسائم المهفهفة في الاغصان، وما أرقّّ، وتأوّهات الشاعر وما أحرّ، وأنفاسها، وما أعطرَ وأطيب.
من ناحية أخرى، ربما يذكّر تكرّر السينات في البيت، ببيت المتنبي:
ياساقييَّ أخَمرٌ في كؤوسكما أم في كؤوسكما همٌّ وتسهيدُ
حينما طال انتظار شوقي ولم يسمع جواباً، راح يعزّي نفسه باستذكار ما حدث:
باتت على الروض تسقيني بصافيةٍ لا للسلاف ولا للورد ريّاها
ما ضرَّ لو جعلت كأسي مراشفها ولو سقتني بصافٍ من حميّاها
رغم ان راوية القصيدة اكثر صحواً في البيت الثاني إلاّ أنه حائر بما سقته من خمرٍ لا ينتمي إلى الخمر بمفعوله ولا إلى الورد برائحته. هكذا ينتقل الشاعر من حاسّة اللمس في البيت إلى حاستي الذوق والشمّ في البيت الثاني. أي أن الصورة الشعرية أصبحت أكثر كثافة، ولا تتكثف الحواس إلاّ إذا إقترب الشاعر من نفسه أكثر فأكثر. فحينما نصل إلى قوله: " ماضرّ لو جعلت..." ندرك أن الشاعر لايتحدث إلاّ إلى نفسه معزولاً عن كل بشر وشريعة وعرف، لذا يحل له أن تكون مراشفها كأسه.
قدّم الشاعر الكأس على المراشف:
"ما ضرَّ لو جعلت كأسي مراشفها"
أي انه لم يقل " لو جعلت مراشفها كأسي" إن هذا التأخير للمراشف ينمُّ عن تردد الشاعر وربما خجله من الافصاح عما يجول في ذهنه. أمّا الشطر الثاني : " ولو سقتني" وكأنَّ رغباته بدأت تنهمر وتتداعى.
في البيت الرابع:
هيفاء كالبان يلتفُّ النسيم بها وينثني فيه تحت الوشي عطفاها
يعود الشاعر إلى "ثناياها" في البيت الأوّل فيصفها بالهيفاء، أي الدقيقة الخصر، الضامرة البطن. وبدقّة الخصر، وضمور البطن يكون الثوب أكثر تموّجاً مع كل حركة أوهبة نسيم. توحي كلمة : يلتفّ هنا إلى التصاق الثوب بمفاتن الجسد عند التأوّد والحركة. إنها مثلما ينثني الغصن تنثني تحت الثياب المنقوشة.
ألا تدلّ صيغة المفرد هنا : هيفاء،و كالبان، والنسيم، علىأنّ الشاعر شرع يقترب منها بأنانية. اقترب منها أكثر حينما قال: تحت الوشي. واقترب أكثر حينما قال : عطفاها، وهي كلمة حسية، ازدادت حسّيتها بتثنيتها : عطفاها. على هذا حينما ينتقل الشاعر بعد ذلك مباشرة من عالمٍ حسّي إلى عالم روحاني يكون قد نشل نفسه إلى قمّة فنّية سامقة.
في البيت الخامس:
حديثها السحر إلا ّأنه نغمٌ جرتْ على فم داودٍ فغنّاها
قد نجد صعوبة في ايجاد علاقة ظاهرية بين هذا البيت، والبيت الذي سبقه. ولكن عند التمعّن ندرك تداعيات العقل الباطن. فمن ناحية أصبح حفيف الاغصان سحراً في فمها، وجلب السحر قدسية ما، مثل قدسية مزمار داود. بهذا تكتمل صورة الثمل الروحي..
في البيت كما نوّهنا، رنّة دينَّية صافية، فمن ناحية قد يشير تعبير:
" حديثها السحر" الى قول ( إن من البيان لسحرا) كما يشير فم داود الى مزماره. ومن هنا يكون الانتقال من فم داود الى " حمامة الايك" انتقالاً منطقياً، ولاسيّما ان الانسان والشجر والطير تتداخل فيما بينها تداخل أغصان اشجار متجاورة:
حمامةُ الايكِ مَنْ بالشجو طارحها ومَنْ وراء الدجى بالشوق ناجاها
يكشف لنا شوقي في هذا البيت خصلتين: ارتباط غناء الحمام بالليل، وثمة صوت موحٍ قادم من عمق ينده الذكريات. التفتت حمامة الايك، أصغت ولكن عينيها لم تتبينا مصدر الصوت، لأن حاسة البصر معطّلة بفعل الليل. يتراوح غناؤها بين البكاء والهتاف وهما أقصى مأساة إذا اجتمعا ولاسيما في الليل.
وكنوع من المواساة لحمامة الايك يختتم شوقي قصيدته:
ياجارةَ الأيك أيّامُ الهوى ذهبتْ كالحلم آهاً لأيّام الهوى آها
حقق شوقي في هذا البيت عدة أغراض فنيَّة. ففي " ياجارة الايك" أصبحت الحمامة أو ما ترمز إليه بعيدة من حيث سكنها، لا سيّما وهو يسمعها ولا يراها. فإذا صحَّ هذا الافتراض يكون حرف النداء " يا " مؤكداً لذلك. بالاضافة فإن الذكريات التي كانت في يوم ما واقعية معاشة أصبحت كالحلم. وحين يقول الشاعر " آهاً لأيام الهوى آها" يكون قد انتقلت اليه عدوى الغناء، فأصبح هو المغنّي الملذوع.. هكذا تصبح القصيدة جوقة من الأصوات : ناي داود وحنجرة شاعر، وحفيف نسيم في غصون وحفيفه في ثياب فتاة، وهديل حمامة. ربما هذا ما يُعنى بالهارمونية في العمل الفني.
يبدو أنّ مأساة أحمد شوقي اكبر من مأساة الشاعر الإنكليزي جون ملتون، في فردوسة المفقود. مأساة ملتون سماوية. أمّا شوقي فكان يعاني من انفراط الأيام، انفراط الزمن، من بين يديه، فهو في قلق دنيوي دائم، والأنكى لا مفرّ منه.