الدكتاتور فنانا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
اول تحليل سايكولوجي بنيوي لطاغية العراق
قراءة فالح الحمراني: الدكتاتورية ظاهرة عانت منها البشرية منذ مطلع نشؤ الدولة، واحتفظ لنا التاريخ بشتى الوان الانظمة الدكتاتورية واحتفظ باسماء شخصيات لممارستها البشعة، التي يلوح للوهلة الاولى ان بينها الكثير من القسائم المشتركة. ان كتاب "الدكتاتور فنانا" من تاليف الكاتب العراقي المقيم بلندن د. رياض رمزي والصادر حديثا عن دار الساقي محاولة
ويتناول رمزي دكتاتور العراق صدام حسين نموذجا لذلك الفن، ليمد مشراطه الدقيق ليكشف للقارئ بتؤده وخطوة بعد اخرى عن ما وراء ستار تلك السطوة والبهرجة واحتفائية القتل والابتذال والصعود والسقوط اليومي لذلك ال " انتي بطل" العراقي من اجل ديمومة اسطورته وسوقه الملايين من البشر ببساطة ودون مقاومة مرة الى الشوارع واخرى للتسبح باسمه وليس اخيرا الى ساحات الوغى والموت المجاني التي يحدد اهدافها هو لهم، للموت من اجله او بالاحرى من اجل اسطورته، ولتتدهور الاخلاقيات ويموت الفن والادب وتمحى الاثار من اجله فقط، ودون سؤال ولاجواب. ولم يجانب الحقيقية احد الذين قدموا عرضا للكتاب حين اشار الى انه اول تحليل نفسي للدكتاور العراقي.بيد اني اضيف ان الكاتب يقوم بجهد من اجل تصوير الحالة النفسية للانسان/ المواطن الذي غدى حقل تجارب واداة انجاز لافعال الدكتاتور وتجسيد نزواته أي مرآته التي يريدها دوما ناصعة وتعكس ما يعتمل في ذهنه وليس قسائم الوجه الحقيقية.ان الكتاب بمعناه الابعد يناقش دوافع ومبررات فعل الخير والشر والتفاعل بينهما. ونجح الكاتب في الكشف عن ماهية الاسباب التي وقفت وراء تحول صدام الى شخصية تتوغل باعمال الشر وتتمتع بصنعه وبالتالي تجلب الكوارث على العراق.
وليس من قبيل الصدفة ان الكاتب لاياتي على ذكر شخصية بحثه بالاسم الا لماما مما يمنحه الفرصة لتوسيع ابعاد البحث ليكون اكثر شموليه. وجاء تشريح خلفيات "البطل" على مخزون ثقافي واسع من الاعمال الادبية والفكرية والتاريخية والفكرية.مستفيدا من موروث الثقافة الغربية لتسليط المزيد على المكون الذهني والشخصاني النفسي للدكتاتور عموما ولدكتاتور العراق بصورة خاصة. ورغم القواسم المشترك بين الطغاة والانظمة الدكتاتورية التي يقيمونها، فان لكل دكتاتور ونظام دكتاتوري خصوصية محددة. وينجح رمزي في عمله بالكشف عن ابعاد شخصية الدكتاتور صدام حسين. ان ميزة البحث او العنصر الجديد فيه انه ليس بحثا سياسيا بحتا، وانما تختلط فيه الرؤية الفلسفية والتاريخية، انه سرد ادبي بارع مشحون بلغة حيوية تعكس التفاعل مع المادة موضوع البحث وامتثالها، انه يتحدث عن ظاهرة لايمكن معالجتها بعمق وجدة الا من باستخدام اسلوب بنيوي.
يقع كتاب الدكتاتور فنانا في 141 صفحة متضمنة مقدمة وينقسم الى فصلين يتناول الاول مفاتيح البحث تهيئ القاري لعالم البحث ومن ثم تعاريف الذي يتضمن ابواب تكشف منها عنصر من فن خلق الدكتاتور في هذه صدام حسين واقامة الدكتاورية في هذه بالعراق ومواصفاتها وخاتمة تجمل الخلاصات العامة من البحث.
ان دكتاتور العراق شخصية انفصامية عاش وهمه الذي اختلقته مخيلته المريضة، وصنع شخصيته من خلال جملة سلسلة من الافعال المتسقة والغائية لرسم صورته الخرافية في ذهن الراي العام واعد لها الاليات اللازمة. ففي ظهوره من خلال شاشات التلفزيون مثلا يُعد كل شئ من اجل تضمن له المقدمة والمركز وجعل الاخرين بالظل، وان يكون تواجده متواصل امام الملاء.
ويستعير الدكتاتور العراقي من الفنون الاخرى وخاصة تقنية العمل الروائي الحاذق ومن فن التمثيل ، الكثير من قواعدها للافادة منها في صنع صورته لادخال الرعب في قلب المتابع ليزرع في قلب المشاهد المواطن الخوف من الفعل التالي " للبطل" ليوهم بانه ستكون اكثر بطشا فتراقبه الوجوه الواجمه بخوف.ويدخل فن الازياء والحركات المقصودة لبلوغ تلك الاهداف ايضا.ان تصرفاته المتاقضة وغيز المتوازنة تفجر هي الاخرى حالة من الرهاب في الشارع الذي لايجد وسيلة الابالانصياع لارادته.
وفي وسيلة اخرى ومن اجل ان يسد الدكتاتور جوانب الضعف والهزائم التي لحقته فانه يعمد الى ما يسميها الكاتب" الرسائل الحجرية" انه فن الهندسة المعمارية، التي تجسد استخدامه ببناء القصور الفارهة والجوامع التي لامثيل لها والشوارع العريضة التي بنيت فيما تتضور ملايين الشعب جوعا ومرضا. وتطول يد الدكتاتور العراقي الطبيعة وماهية المدن لاحداث التغيرات عليها لقتل روحها لابقاء شبحه وحده يحوم عليها.ويحدد حتى سلوك الانسان مع نفسه ويتدخل في حركته ويصبح الانسان شرطي على نفسه يخضع لاوامر الدكتاتور الذي تمتد عيونه حتى فراش الزوجية.
ويعود الكاتب في العالم النفسي لبطله السلبي ليحدد سبب نزعته االدكتاتورية الدموية وتشبثه بالتقتيل والاعدام وتصفية الاحياء على ابسط هفوة او بالظن. ويلجا رمزي الى منهج التحليل النفسي ليضع يدنا على الاسباب الكامنة وراء تلك الدوافع ويضعنا امام حقيقة مخيفة ان من حكم العراق 30 عاما وقرر مصير شعب وامة وشن حروب وفتح سجون والقى بالالف بالمقابر الجماعية كان منحرفا نفسيا يستحق العلاج، لاقيادة دولة وشعب. ان صدام كان نتاج انحراف نفسي سببه وضعه العائلي. ان علة صدام انه اراد الخروج من هذه الدائرة بالانتقام والثار لوضعه. ان صنع الشر يتحول الى فعل اخلاقي.فالتطور النفسي لصدام هو بالتالي تاريخ العجز والاخفاق الشخصي فسعى لخلق بطولة متخيلة " فمن يفشل في دخول الكلية العسكرية(صدام) يخلق بطلا يخوض ثلاث حروب دموية" ومن لم يسطر بحياته مقالة رصينة يكتب روايات يذيع صيتها.ان البطل السالب ينفصل عن الواقع ويخلق له واقعا خاصا مستمدا من جملة عثراته. ويكتشف رمزي وجود خلف كل تصرف وفعل من تصرفات " البطل السلبي" موضوع بحثه باعثا نفسيا ساهم في تكوين ذهنيته. الشعور بالدونية والحرمان كان دافعا للبحث عن المعوض، السلطة كاداة للقهر والسيطرة على الاخر الذي يكن له عداء متاصل غير عقلاني. الدولة برمتها لتحقيق نوازع تعاملت في بلورة تركيبه النفسي. ووجد في الانتماء لحركة سياسية( البعث الذي كان بحاجة لشقاوات " بلطجية" اكثر من الحاجات لمنظرين) طريقه للوصل الى القمة والانتقام لكافة اشكال الحرمان والاقصاء، وملء الفراغ الروحي الذي كان يكابده. والتجاءه لذلك لنهج الضربات الاستباقية" انها بارانويت قتل الخصوم كي لايتحولوا الى ازواج ام".وفي هذا يندرج حرص الدكتاتور على التخريب الاخلاقي والروحي للشخصية العراقية تشفيا لتحقيق لذه الانتصار والتعالي على الرعية واقناعا بخضوعها المطلق له.وارتدت صورة القتل صورة فنية ليتكون محفورة بالذاكرة الجمعية لزمن طويل وتردع من تسول له نفسه الانشقاق والاعتراض. وتحولت اعمال القتل الى احتفالات فارهة تعرضها شاشات التلفزيون وتعلق الروؤس بالشوارع العامة.وغدا قتل الخصوم في اطار مقولة "انا اقتل انا موجود".واصبح القتل مهنة تنوعت ادواتها من المشانق الى المسدس كاتم الصوت والسيارت دون رقم والسم والى ما ذلك.وتتحول افعال الدكتاتور الى التاريخ الشخصي للناس.وتصفية الشخصية من مشاعرها الخاصة وشؤونها الحميمة وتغير الذاكرة العامة بتاريخ مزور جديد لاعلاقة له بالواقع.
وفي فصل الادوات الفنية للفعل الديكتاتوري يناقش الكاتب مسالة توظيف قواعد العمل الابداعي لممارسات واهواء الدكتاتور. ويعرض بذلك للمفكرين والادباء الذين غدت اعمالهم انجيلا وملهما لهتلر وموسيليني وغيرهم من الطغاة وكان باكونين ونيتشه مصدر الهام لكل من موسيليني وهتلر فيما اعد المركيز دي ساد نيرون استاذه.والادوات الروائية تغدو لدى الدكتاتور فن مهم من فنون الحكم . تنسج روايات محبوكبة عن تصرفات البطل السالب/ الدكتاتور طيلة سيرته الشخصية. و" ما ابدعه المركيز دي ساد روائيا ينجزه السيد الرئيس عمليا وعلى نحو خلاق".ان الحروب والاعمال الاخرى التي يقوم بها الدكتاتور مبنية على اساس تركيبة العمل الروائي بافضل اشكاله لكي يقنع المتلقي/ الجماهير وعموما الراي العام بانه كان على حق.ويعرض الكاتب نماذجا لخلقه الروائي المبكية/ المضحكة.ويقول الكاتب ان " اعظم الروايات هي تلك التي لدى بطلها رغبة غير ملباة، ولايستطيع كبح شبقه في تحقيق الرغبة، لان هناك من يحول دون تحقيقيها".وعادة ما يلجا البطل السالب/ الدكتاتور الى دوافع غير قبالة للتصديق بحروبه ضد الجوار او التصفيات الجسديه وابادة السكان. ويتلفع من اجل تصديقه بمختلف الوان والعقائد والاديان ويعيد سلالته للبني محمد(ص) واسمه على نقوش بابلية.
ان كتاب "الدكتاتور فنانا" سيجد له مكانة هامة في سلسة الكتابات التي ظهرت عن شخصية وعهد صدام حسين، وستظهر المزيد منها. ويلقي ايضا الضوء على سبب هدوء صدام الخارجي وهو يساق نحو حبل المشنقة، لاانه ادرك ان شخصيته المتخيلة قد انهارت وانه غير قادر العيش بشخصيته الحقيقية، وان الخرافة التي صنعها عن نفسها قد تبددت، وربما اكتشف بنفسه الخدعة التي نسجها لنفسه وعاش بها.