عالم الأدب

شظايا الذاكرة عذابات العراقيين

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


رواية الدكتور سلمان رشيد "شظايا الذاكرة"
سرد على شفا الملحمة... يحكي عذابات العراقيين

د. باسم عبود الياسري من قطر: غالبا ما ينظر الى الرواية على انها قصة طويلة، بينما للقصة ثوابتها وشروطها مثلما للرواية قوانينها وشروطها الخاصة بها. وهناك الكثير ممن جربوا القصة ثم انتقلوا الى الرواية، ذلك ان كتابة القصة غالباً ما تكون تمهيداً للولوج الى عالم الرواية بغزارته وثرائه، غير ان هذه لسيت قاعدة على الدوام. الدكتور سلمان رشيد رغم تخصصه العلمي الدقيق إلا أنه كثير الشغف بالأدب الذي يجد فيه ضالته في التعبير عن مكنونات النفس وهو ما لا يتحقق في العلم، وقطعاً فهو ليس الاول في هذا المضمار فكثيرا ما سرقت متعة الادب الاطباء والمهندسين والعلماء من عالمهم.
للدكتور رشيد عدداً من الكتب العلمية في مجال الفيزياء كذلك له كتباً أخرى في الصراع العربي الفلسطيني حيث كان مديراً لمركز الدراسات الفلسطينية في جامعة بغداد ، وأصدر قبل فترة مجموعته القصصية الاولى " اعدام مجهول " غير ان تلك المجموعة لم تشبع نهمه من الادب بعد، فاتجه الى الرواية وها هو يضع بين ايدينا روايته الاولى " شظايا الذاكرة " في اكثر من 300 صفحة.
الرواية صدرت قبل أيام عن الدار العربية للعلوم للطباعة والنشر ووجدت ان من المناسب الكتابة عنها لا باعتبارها عملا ادبيا حسب ولكن كونها عمل توثيقي يؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ العراق وان كان الراحل عبد الرحمن منيف كتب "ارض السواد" مستعينا على تاريخ مدون وآخر شفاهي تمكن من توثيقهما في عمل روائي ناجح بقدرته العالية على انتاج الرواية الذي عرف به منذ"شرق المتوسط "و"الاشجار واغتيال مرزوق". سلمان رشيد يكتب عن تاريخ عاشه بتفاصيله فهو شاهد وشهيد، شاهد على حقيقة امتدت لقرابة اربعين عاما، وهو شهيد وضحية تلك الحقبة التي نسفت كل القيم والمفاهيم الخيرة وافرغت المجتمع العراقي من ذلك الترابط الحميم بين مكوناته.
وجد سلمان رشيد نفسه امام كم هائل من الاحداث حاول تدوينها في اسلوب سردي فحقن العمل بالكثير من الاحداث والوقائع التي مر بها العراقيون فتحدث عن العذاب والخوف الذي سكن اهله، في ظل نظام اخذ منهم كل شيء حتى حيواتهم ولم يمنحهم غير الموت والدمار، عن سلطة الحزب الواحد، وعن جواسيس الحزب المدسوسين بين الناس، مصادرة الحريات والقمع والاذلال، الاستهانة بكرامة الناس وحياة البشر، تحدث عن الفقر الذي يعيشه ابناء هذا البلد الغني، عن الحماقات التي ساقوا من خلالها البشر الى محرقة حروب خاضوها مرغمين شرقا وجنوبا وحروبا اخرى لاعداء وهميين، عن طواحين هواء اخترعها النظام واجبر الناس على محاربتها ليتحول ابناء هذا الوطن طعاما لها، عن التهجير الذي تعرضت له عشرات العوائل العراقية بحجج الاصول غير العربية، باسلوب عنصري في وقت تمنح دول العالم جنسياتها لمن يقيم فيها لبضع سنوات، فصادروا اموالهم وعقاراتهم ورموهم على الحدود، عن جهل الشعب العربي بحقيقة ما يجري في العراق وعن الضمائر الرخيصة لبعض الاعلامين التي باعوها بثمن بخس على حساب آلام العراقيين وفجيعتهم.
تعتمد الرواية على عدة عناصر لعل اهمها الوصف وهو ما يبرع به الروائي حين يصور لنا ابطاله فيصف ملامحهم وتفاصيل المكان الذي يعيشون فيه ثم ينتقل الى استطرادات وان تشعبت لكنها تغني الشخصية وتثريها، وعن تحولات المكان عبر الزمان.
" كم توسعت بغداد منذ الخمسينيات، في عام 1953، حين طغى نهر دجلة وهدد بغداد باجتياحها بالمياه الوافدة بغزارة من الشمال، كانت السدة الترابية تحيط بالمدينة من جهتها الشرقية. جندت الحكومة الشباب وحتى الاطفال للدفاع عن بغداد، يتذكر وهو يحمل مع صديقه مازن اكياس الرمل بايديهم الصغيرة المقرورة والامطار تغسلهم فيرتجفون بردا. يومها شاهد احدى الاسماك الطويلة تقذفها المياه الى خلف السدة، قفز احد الجنود وسحقها بحذائه حتى فارقت الحياة وحينما تطلع الى وجهي صادق ومازن وشاهد علامات الاستنكار لقتله هذه السمكة قال لهما " انها ثعبان النهر وبعضها خطر على الانسان" غير ان هذا الكلام لم يقنع الصديقين خاصة وهما يريانه يقطع الثعبان الى قطع ويرميها في النهر، فكر صادق كثيرا في هذا الحادث وهو في طريق عودته للبيت، لم يستطع ان يفهم لماذا قطع الجندي الحية وهي ميتة ولماذا قتلها وهي عديمة الضرر وكان بامكانه ارجاعها الى الماء. هذا المكان اصبح حيا سكنيا بعد ان آمن سكان بغداد من الفيضان بعد بناء السدود." فهو يغني لبغداد التي احبها، هذا الغناء الذي يقترب من المباشرة احيانا منفلتا من اجواء الرواية: " بغداد، مدينة السلام المدورة، هذه المدينة التي بناها ابو جعفر المنصور ثاني خلفاء الدولة العباسية على نهر دجلة لتتوسط ارض الرافدين ولتكون عاصمة الدولة العباسية وحاضرة مجدها حيث قصدها الشعراء والادباء من مختلف اصقاع العالم. هذه المدينة الجميلة تعرضت الى حقب خبا فيها مجدها وعشعش فيها الجهل والفقر والموت، وزارها عدوان نشرا فيها الخوف والدمار، الفيضان والطاعون. "
في الأعمال الروائية نجد الروائي حاضرا في العمل من خلال هذه الشخصيات او من خلال الجو العام للعمل واحيانا يكون العمل اقرب الى سيرة ذاتية عاشها او كان قريبا منها. ابطال " شظايا الذاكرة " يكاد يكون معظمهم من شريحة واحدة فهم اساتذة جامعيون وهم في الغالب يمثلون الجماعة الواعية في المجتمع ومن خلال هذه الشريحة ياخذنا سلمان رشيد الى العراق لندخل معه حقبة مهمة عاشها العراقيون تمثل الثلث الاخير من القرن الماضي مع ما فيها من حروب ودمار وتهجير.
تقوم الرواية في الاساس على الخبر الذي يتضمنه الكلام العادي الذي يدور بين الناس، اما الخبر نفسه فهو جزء من هذا الكلام الا انه يكتسب اهمية خاصة عند الآخرين بما يستحق نقله وتناقله، عندما سيتحول هذا الخبر الى نواة لعمل سردي. وهكذا فان حوار الشخصيات وردود افعالها لا تصلنا لانها احداث حدثت بل لانها اخبار تستحق الوصول الينا.
ان موضوعة الخبر القابلة لنقلها عبر الكلام انما هي احداث متجددة باستمرار بتجدد الحياة نفسها مع ذلك فهناك افعال للاستمرار يمكن لنا ان نضمنها حوارنا، غير انها لا تمتلك مقومات الخبر الجدير بالذكر من هنا فان مهمة الروائي ان ينتقي بحسه المرهف ما يجده حوارا متجددا قابلا للانتقال واهمال ما لا يراه جديرا بذلك، والا تحولت الرواية الى ركام من الكلام لا جدوى من معظمه.
يستفيد الدكتور سلمان رشيد من تقنيات السينما كثيرا في انتقالاته في الزمان والمكان وقطع اللقطات بخبرة مونتير متمرس، ومثل هكذا عمل انما يحتاج الى قاريء خبر الاساليب الروائية وله القدرة على جمع احداث الرواية، هذا اذا علمنا ان رواية طويلة بهذا الحجم لا يمكن قراءتها بجلسة واحدة في عصر سريع الايقاع.
من الانتقالات السريعة حين يختلي صادق بزوجته علياء وقد تركا اولادهما عند جدهم، تذكره علياء بالايام الخوالي وكيف كان الحب يتقد بينهما فيرد عليها بانه سيبين لها انه لا يزال يحبها بعد ان تخلص من اولاده:
- ليلتنا انس غاب القط العب يا فار.
ثم قطع مفاجيء الى زمان ومكان مختلف تماما:
- استدعى العميد واللجنة التحقيقية الاصدقاء بشكل منفرد .....
هذه الانتقالات فيها من لغة السينما اكثر مما فيها من لغة الرواية.
لقد بذل الروائي جهدا كبيرا لتدوين كل ما في ذهنه من مخزون ثقافي واجتماعي وسياسي وصبه في عالم روائي، وحاول ان يقول كل شيء في هذا العمل فتحدث عن الفوارق الطبقية عند لقاء صادق بياسر وان كان الحديث فيه مباشرة بعض الشيء واقترب حديثة احيانا من الدراسة الاجتماعية والتاريخية.

ومن العلاقة بين الشعب العربي والكردي من خلال علاقات أسرية بينهما فبدت العلاقة متينة وان السياسين وحدهم هم من يبيعون الاحقاد والكراهية للطرفين. تحدث عن الخوف الذي يستبد بالانسان عندما يكون منظما وجارفا فانه يستقر داخله:
" فكر في ان يطلب الكلام ليبوح بما يدور في تلافيف دماغه، وجد ان حالة الرعب الداخلية قد شلت لسانه فبدت افكاره تدور في تلافيف دماغه دون ان يجرؤ على ان ينقلها الى شفاهه، رجل الامن الذي يسكن هذه التلافيف صادر حقه في الكلام حتى قبل ان يحاول ان يرفع يده، فكر بالنتائج على زوجته وعائلته فيما لو تكلم ". ص 56
لقد سيطر النظام على البلد باكمله وعلى المناطق الجميلة في بغداد: " تذكرت القوارب التي كانت تنتشر على صفحة النهر، وتذكرت ليالي الصيف المقمرة والتي كنت وشباب المنطقة نستغلها للتسابق في سباحة المسافات القصيرة ما بين الشاطيء والجزر الرملية التي تظهر بعد هبوط منسوب المياه. كل ذلك انتهى يا صديقي، لم يعد ممكنا ان تجد اي مقهى مقابل القصر الجمهوري واختفت لوبياء الشواطىء والمزارعون، والجزر لم يعد يسمح لاحد من الناس بالاقتراب منها، حتى الصيد منع في هذه المنطقة، فقط قوارب الحراسة تتجول " ص 58
يلجأ الروائي الى اساليب سردية يخترق من خلالها قشرة المجتمع العراقي ليغوص في علاقات افراده لنكتشف من خلال ابطاله هذا الواقع، وهو هنا يوظف شخصية الباحث الاجنبي الدكتور جيمس الذي تسترعي انتباهه احوال المجتمع العراقي فيسأل عما يراه من بؤس وعذاب وضنك عيش، من خلال ذلك ومن خلال ردود زملاء الدكتور يطرح الروائي ما يريد ايصاله الى القاريء في نسيج روائي يقدمه بطريقة حرص على ان تكون صادقة ومعبرة.
ويبدو ان زيارة الدكتور جيمس ستشكل أرقا لاساتذة الجامعة بعد اتهامهم بتسريب معلومات الى جهة اجنبية وهكذا يتحول الحوار بين ثقافتين الى جريمة يعاقب عليها القانون في بلد نظام الحزب الواحد، هذا القانون الذي ظهر مثل نبت شيطاني ياتي تعريفه على لسان احدى الشخصيات وكيف يتدخل النظام في حياة الناس.
" الماضي يحمل في رحمه الحاضر، القوى التي صنعت الماضي هي التي تتحكم في الحاضر، هذا الحاضر الذي يصنعه هؤلاء سيحدد لنا المستقبل، المشكلة هي ان من يتحكمون الآن في المكان والزمان يسعون لصناعة وتشكيل كل شيء، ابتداء من اطفالنا مرورا بنا، وانتهاء بالدولة، قد خطط له مسبقا، هل تعتقد بان الازمات التي نعانيها الآن، سواء في حصولنا على المواد الاستهلاكية الضرورية، الى ثقافتنا والكتب والمجلات التي نقرؤها، والمواد التي ندرسها لطلابنا، والقوانين التي تسير حياتنا، بعيدة عن عملية تشكيل حياتنا والاجيال القادمة؟." ص 37
لما كان ابطال العمل من اساتذة الجامعة وبعضهم في كلية الآداب فلابد ان ياتي الحوار بمستوى تلك الشخصيات غير ان في الرواية كم كبير من الشعر والغناء مبثوثا في ثنايا العمل بدا بعضه مقحما او زائدا.
يقوم بناء الشخصية على وصف الشخصية من الخارج والداخل ومن خلال الحوار نتلمس مشاعر شخصيات العمل التي يتلبسها الخوف ويملأ قلوبها الرعب، هذا الرعب الذي اصبح يعيش مثل فرد في العائلة والعمل والمجنمع من خلال رجال الحزب والمخابرات والمندسين في كل مكان.
" يستغل صادق هذه الفترة ليتحدث الى علياء بعيدا عن الآخرين وعن الدار، الذي يعتبره الكثير مصيدة حيث يزرع التنظيم جواسيسه واجهزة التنصت التي استوردها بمبالغ كبيرة من بعض الدول الاوربية لتساعد رجال الامن الساهرين دوما وعيونهم واذانهم في كل مكان، رجال تدربوا في مدارس الامن الاشتراكية ومزودون بافضل تكنولوجيا التجسس في العالم الغربي. العراقيون ياخذون بالمثل الشعبي الشائع " للجدران آذان ": ص 31
ان رواية " شظايا الذاكرة " بهذا الحجم الكبير وبهذه الكثافة من الاحداث التي تناولتها انما تقترب من العمل الملحمي في سردها، ربما يمكن ان تتشكل منها اكثر من رواية اذا ما علمنا انها تناقش امورا كثيرة لكل منها عمقها وتشعباتها. اغلب الظن ان الروائي سلمان رشيد حرص على ان يضمها في كتاب واحد وكأنه اراد ان تكون صرخة قوية لعذاب طال زمنه، انه عمل جدير بالقراءة لفترة اثقلت كاهل العراقيين وشغلت العالم.
basimash@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف