عالم الأدب

حاطب ليل ضجر للتويجري: سِحرُ البساطةِ وعنفوانُ اللغةِ

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد العزيز بن المحسن التويجري حكمت الحاج من لندن: "حاطب ليل ضجر"... أليس في هذا العنوان ما يجعل أحسن الشعراء يحسدون صاحبه عليه؟ يروق لي شخصيا أن اقرأ هذا الكتاب كما الكتب الأخرى التي لا تقل روعة وصفاء للشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، وسأقول لكم بكل صراحة لماذا: ذلك أن نثره موسيقى لا تقاوم. ففي الوقت الذي يعطيك إحساسا انه نثر عربي مبين موغل في القدم على تخوم أبي حيان التوحيدي وأضرابه من أمراء البيان، يعطيك مذاق العصر ولا يخرج بك عن معطيات الزمان الحاضر، بإشكالياته ومشكلاته، عبر المسارات الكبرى والخطوط العريضة لإنسانيتنا اليوم.


"أفي هذه الحياة جفنٌ لمْ يَشِخْ؟ "..
قلت إن نثر التويجري موسيقى لا تقاوم، وللمبحر بين دفتي الكتاب صيد ثمين من هذه العبارات وغيرها كثير حتى لكأنك ساعة تحسب نفسك أمام نصوص هي الى قصيدة النثر اقرب من كونها مجرد مقالات نثر مرسل حر.
ولكن، هل هذا الكتاب حقا مجرد نثر جميل منمق محبوك بلا رؤية أو رؤيا؟
يقول الدكتور حسن ظاظا في تصديره للكتاب انه قد يذكره بكتابات الحكيم الروماني ماركوس أوروليوس. ولكن صحيح أن الحكيم الروماني يلتقي مع كاتبنا العربي في أنهما لم ينبهرا بما في متناول أيديهما من متع الدنيا وان كلا منهما قد أخذ من البلاغة بناصيتها، ولكن الحكيم الروماني مقيم حيث هو، بينما كاتبنا العربي ظاعن باستمرار، يضرب في مناكب الأبدي الفاني، ويسيح في مساحات شاسعة من التأمل، ويقف دهشا دهشة الفنان بإزاء معارك الجسد والروح، وصدام المظهر والجوهر، ومعه عند كل وقفة ملء عينيه من علامات الاستفهام.
إلا إن الدكتور حسن ظاظا سرعان ما يعرض عن مقارنة التويجري بحكيم الرومان. فان حكيمنا العربي يعبر بصدق عفوي عميق تاركا لقارئه أن يحكم بما يرى وان يعتقد ما يشاء لان قلمه قلم حر يدري كما يقول الدكتور ظاظاأن كمال حريته في أن يترك الآخرين أحرارا لا يملي على احد منهم رأيه ولا يقول له خذ عني أو اتبعني وإلا... بل يكتفي بأن يبوح بذات نفسه وأن يدعوك لتكون رفيقه في رحلة الاغتراب الفكري التي يطوي بها أديم الحضارة والبداوة وأرجاء الماضي والحاضر جميعا. بينما حكيم الرومان، ودائما مع د. حسن ظاظا، يشير إليك بالجلوس معه ليضرب لك الأمثال ويسدي إليك الحكم والوصايا ولا يكاد يتوقع منك أن تناقشه فيها.
نحن إذن هنا أمام أدبٍ فَذّ نادرِ المثال، سحر البساطة نوره، ورؤياه نور الحياة، ولغته لا أخطاء فيها مثل الكريستال.
الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، كان يشغل منصب مستشار ولي العهد والملك عبد الله بن عبد العزيز، عاهل المملكة العربية السعودية. ولقد تم وصفه دائما في المحافل الأدبية العربية بأنه كاتب مختلف ومميز وصاحب نثر خاص به. كان رفيقاً للملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، وله عنه كتاب توثيقي مهم جداً لما فيه من معلومات قلة يعرفونها. أما كتاباته الأخرى ففيها من حكمة الشيوخ والرؤية المستقبلية ما يدل على فهم الرجل للأحداث، في الخاص وفي العام.
وكتابه "حاطب ليل ضجر" هو طبعة ثانية مزيدة ومنقحة صدرت مؤخرا عن منشورات دار الساقي العامرة ما بين بيروت ولندن.. أهداه : "إلى حمامة الروح إلى واردة الغدير إلى ظبية الفلاة إلى ربة بيت الشعر إلى قيس وليلاه. وجميل و"بثيناه" إلى ذكرياتي عن الجمل والحصان والخيمة الوادي إلى قارئ لم يركب الجمل ولم يسكن الخيمة ولم يرد الغدير أهدي هذه الخطرات الظامئة إلى الحقيقة. والخائفة على جناح العقاب العربي أن ينكسر فلا يلحق بمنازله في قمم الجبال.. مع من لحق".
قدم للكتاب الدكتور زكي نجيب محمود، فيلسوف الوضعية المنطقية العربي الوحيد، قائلا إن أديبنا مؤلف هذا الكتاب، استقى كل كلمة خطها قلمه وكل خاطرة فاضت بها ذكرياته من خبرة حياته، اعتمد في هذا كله على فطرة نفسه كما ورثها من أبويه الأولين، وماذا تكون تلك الفطرة إلا عقله وقلبه ووجدانه، فهو لم يكف عن التساؤل المتأمل حيال خلق الله. لا يجيب عن تساؤلاته تلك بشيء قرأه في كتاب أو بدرس سمعه من أستاذ، أو بحكمة تركها له حكيم. وإنما هي فطرته وحدها مصدره الذي لا مصدر له سواها بدافعها يسأل ما يسأل. وبوسائلها يجيب بما يجيب. وإنها لتساؤلات كما وصفها هو "تساؤلات كاسرة لسيقان الصبر".. وأن فطرته تلك لا تعطيه الجواب حين تعطيه في يسر وسخاء وإنما هي فطرة تتوقع منه أن يكد ويجد ويجتهد ليستخرج منها مكنونها.
ويطلب إلينا الدكتور زكي نجيب محمود في مقدمته المذكورة أن نقرأ للتويجري هذه العبارة الآتية لنرى كم كان يعاني من حدود تلك الفطرة وروغانها "في غبراء النفس تعوي الذئاب، وفي غبراء النفس تتغول الغيلان" ورغم ذلك العسر كله في توليد المعاني من المعاني فلم يكن بين يدي أديبنا من وسيلة يتوسلها سوى أدوات فطرته وهو في ذلك يقول: "منذ يوم الهبوط الأول جاء الإنسان مزوداً بالإحساس والشعور والوعي والعقل والفكر. تلك هي الرواحل والمطايا" وتلك الفطرة الصافية النقية الخصب الولود الأمينة الصادقة.
وبحسب فيلسوفنا العربي الكبير فإن الشيخ التويجري الأديب قد استمد فكرته عن العبادة كيف تكون، فهو لا يراها من العبادة من شيء تلك التي يجيء النطق فيها كما يجيء النطق من الببغاء، أو تلك التي تجيء حركات البدن فيها كما تجيء من آلة صماء، وإنما هي العبادة الحق تلك التي تجيء ألفاظها وحركاتها عن وعي يقظان، وعن وجدان مرهف وعن عقل واع وحاضر. واستمع إليه وهو في ذلك يقول وهو يخاطب أبويه آدم وحواء: "طريق إليكما... محاولة أن يكون لي في كل خطوة غير يائسة أخطوها على قدمي عقلي وروحي وفكري مكاناً أسجد فيه وأصلي صلاة العقل والوعي والروح، لا صلاة الشبح الذي يتحرك وكل شيء فيه نائم لم يستيقظ على المعنى العظيم لفريضة الصلاة".
كتاب حاطب ليل ضجر للشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري بعدد صفحاته الثلاثمئة بالتمام والكمال، ما هو إلا عبارة عن كم هائل من الرسائل التي أتت على شكل خطرات فنية أو نثرات شعرية، وكلها تبتدئ بتوجيه الخطاب الى أبويه الراحلين.
"أبوي: ما أبعد المسافات الزمنية بيننا، ما أكثرها ظلمة ووحشة وكثافة. ما أبعدها حتى وإن ركبت إليها سرعة الضوء. وما أقربها وألصقها بقلبي وروحي حين تقول لها هذه: أفسحي لي الطريق وتلاشي. فليس في جسمك الضخم وتمددك الزمني عائق تتعثر به خطاي، فصخور الجبل اليابسة، وصمتها المطبق وجسمها البدين وثقلها على جبهة الأرض، كلّ هذا لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى الإنسان، وما على عقله وذهنه وفكره من أحمال تضطرب لثقلها عليه أسئلة حار فيها، واختلف في الجواب عنها!! والحيرة إلى أي مرتبة ترتقي؟ أهي نكران وشك وجحود، أم عبادة وتأمل وسقوط في جوف المعاناة من أجل الحقيقة، من أجل الله؟ إن رياح تساؤلاتي وحيرتي لم تلفحها عندي فلسفةُ هذا أو ذاك، ولم تثرها من مباركها وسوسة الضلال والفجور، فرواحلي المسافرات بي إلى أعماق هذا الوجود محاولة غير يائسة في أن يكون لي في كل خطوة أخطوها على قدمي عقلي وروحي وفكري مكان أسجد فيه وأصلي صلاة العقل والوعي والروح، لا صلاة الشبح الذي يتحرك وكل شيء فيه نائم لم يستيقظ على المعنى العظيم لفريضة الصلاة!..".
ذاك كان مقتطفا من رسالة من رسائل حاطب ليلٍ ضجر، يقول عنها ناشر الكتاب في ترويجه له على شبكة الانترنت هذه النبذة: إن ما في هذه الرسائل قوافل من سوارح النفس ملت المقام وضجرت ثم تداعت في غير انتظام على فم قلم التويجري الذي تحامل على شيخوخته وحاول أن يمشي في مفازات نائية داخل نفسه. وما طرح له حبله واحتطبه في هذه الرسائل يراها ليست إلا أعواداً يابسة أكلت سراب الجراد واخضرارها فشاخت كشيخوخته". وبغض النظر عن الأسلوب الفني للكاتب، ينبهنا الناشر الى أن الأروع من ذلك هو هذا الالتزام الخلقي الذي ينساب كالماء الصافي من النبع، فالكاتب لا يقول إنه فاضل أو كامل، ولكن قارئه لا يشك في ذلك لحظة لعمق احترامه لكرامة الإنسان، وغيرته على حريته، وحرصه على أن يكون العدل والبر والخير عند البشر اختياراً، لا إجباراً واضطراراً. وصدقه في الإفصاح عن ذلك واضح وظاهر، فإن ما يتجلى تحت قلم هذا الكاتب روحاً نورانية شفافة، تسبح في ملك الله اللانهائي، تشق أمواج الزمن الصاخبة المتلاطمة، تريك كل دقيق وجليل، وتقف بك على أطلال الفكر السابق التجهيز، وعلى رسوم العيش المحدود بالجدران والأسوار، وبتواضع ساحر يتسلل إليك صوتها إن انطلق!
ولكن، رغم ذلك، ورغم الآراء التي أوردناها أعلاه تقريضا في شأن كتاب حاطب ليل ضجر، وفي شأن مؤلفه الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، لم يعدم الأمر أن يكون ثمة من يرى فيه رأيا آخر تماما. فإن الباحث السعودي الدكتور محمد بن عبد الله العوين ينزع عن مؤلفنا صفة الأديب ولا يرى في ما يكتبه أدباً، بل هو لون من ألوان المناجاة الذاتية الخالصة، أراد بها التخفف من أثقال الحياة، والإفضاء إلى من حوله من الأقربين، أو من يرى فيهم مثلاً ومعنى كريماً من الأبعدين، مثل: عروة بن الورد، وعنترة فارس بني عبس، وصاحب معرة النعمان، وأبي الطيب المتنبي، وغيرهم، فيحملهم أفكاره، ويقبس من معانيهم بعض معانيه، ويرى فيهم قدوة ومثلاً. وهو ما كان يطمح إلى نشر هذه الرسائل فهو كما يقول (أنا أحترم القارئ وأجبن من النعامة أن أطرح كلمة في الشارع وأنساها، ليس من السهل على الإنسان أن يقتحم مجال التأليف دونما رضى كاف)(انظر كتاب / في الأدب السعودي الحديث، د.محمد بن عبد الله العوين، ط2، 1426هـ ـ 2005 م، دار الصميعي للنشر الرياض، ص251/ وكذلك كتابه أيضا مواجهات كي يبقى شيء للتاريخ، د.محمد بن عبد الله العوين، ط1، 1427 ه ، 2006م، ص209 ).
بَيْدَ أن تآليف الشيخ التويجري المتأخرة التي تدفقت في سن الشيخوخة عندما قارب سن الستين، انثالت في أسلوب خطابي خاص، لم يقتف فيه أثر أحد من السابقين، وإنما جاءت نسيج وحدها، هي أقرب إلى الأحاديث المملاة منها إلى التدوين الكتابي، فكأنها مشافهة تكتب لا نصاً يفرُّ من بين أنامل صاحبه إلى الورق ولربما ولعدم الدربة باكراً على الكتابة، والكلام للناقد السعودي د. العوين، ولغلبة الشفاهي في ثقافة التويجري، ولأنه لم يتلق درساً نظامياً لغوياً وأدبياً، ولأن البيئة الأولى التي نشأ فيها شكلت وجدانه ولغته ومعانيه جاءت رسائله على النحو الذي جاءت عليه منساقة دون تزويق ولا صنعة، يغلب عليها تكرار المعاني، ومعاودة طرقها بين حين وحين في الرسالة الواحدة، وطول الجمل، وتشابه الصيغ، وغلبة أساليب النداء، وخلو النص من جماليات الشكل الفني؛ لاهتمام الكاتب بالمعنى النفيس وإظهاره بصورة تفوق الاهتمام بالصنعة الفنية، ولابتعاده عن تقليد أساليب المنشئين (وكأنه حين يرى ما تجنيه خواطره بعد طول التفكير، ومداومة النظر، وما يختلط أمامه من الرؤى والأفكار، وانتظار ما سيجيء لا يطمئن في عباراته، ولا يستكين إلى طريقته في الحديث، فيأتي السياق التعبيري متداخلاً متفرعاً، لا يستقيم ولا يتواصل في انسياب نحو الأفكار المتسلسلة المترابطة)، كما يذكر ذلك د. محمد العوين.
وقد تنبه إلى هذا من قبل، الدكتور زكي نجيب محمود في مقدمته التي أشرنا إليها آنفا فرأى أن منهج الكاتب هو تداعي المعاني، ويسميه التيار الدافق الذي لا يعرف الفواصل بين خطوة وخطوة في مسيرة واحدة، وقد برع الناقد في إجمال تفوق هذه الرسائل في البعد العفوي المتدفق، وفي انطلاق الخواطر وانثيالها دون قيود، وهذا كفيل وحده بإنجاح النص، وتفوقه وإقناعه، كما أن الصدق الفني يعني البعد عن التكلف، وكراهية الصنعة، وهو لم يتعمد هذا الأسلوب لأنه لا يعلم ما هي الصنعة الفنية في الأصل، ولذا جاءت كتابته صادقة عفوية طبعية قريبة إلى النفس.
لكاتبنا الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، إضافة الى كتابه الأخير حاطب ليل ضجر، كتب عديدة أخرى نذكر من أهمها، والتي صدرت عن دار الساقي للطباعة والنشر، كتابه (ركب أدلج في ليل طال صباحه) وهو بمثابة سيرة ذاتية للمؤلف، يتطرق فيها إلى حياته وطفولته وذكرياته عن أيام صباه. كما يتطرق إلى أحداث عايشها التويجري وتركت أثرها فيه.
وله عن الدار نفسها أيضا كتاب (الإنسان رسالة وقارئ)، وهو مجموعة رسائل متبادلة بين التويجري وعدد من المفكرين والسياسيين العرب، تدور بمجملها حول واقع السياسة والفكر العربيين، والمآل السيئ الذي آلت إليه أوضاع العالم العربي.
(أبا العلاء... ضجر الركب من عناء الطريق) وهو كتاب عن شيخ المعرة ورهين المحبسين، أبي العلاء المعري، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، كما أسماه الأقدمون والمحدثون، وعنوانه دالّ عليه. أما كتابه الآخر الموسوم (عند الصباح حمد القوم السرى - الملك عبد العزيز) فهو حلقة من حلقات الإبحار في التاريخ، يقودنا فيها الشيخ "عبد العزيز التويجري، في عالم الملك الراحل عبد العزيز آل سعود.
ولشيخنا التويجري كتاب جميل آخر صدر عن الدار نفسها تحت عنوان (أجهدتني التساؤلات معك، أيها التاريخ). وأخيرا، علينا أن نذكر طبعا كتابه المهم جدا والطريف في الوقت نفسه، والذي جاء تحت عنوان (في أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء) وهو كتاب رحلة بخمسين رسالة عن التجربة الإنسانية ذات البصيرة الواعية المدركة، في عُباب الشاعر المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، الى يوم الناس هذا، وربما الى غدهم البعيد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف