عالم الأدب

عطب أحمر:مجموعة شعرية لسماح الشيخ

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

غزة - إيلاف:صدر للشاعرة الفلسطينية سماح الشيخ مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "عطب أحمر" وقد صممت الغلاف الشاعرة بنفسها، وكتب المقدمة النقدية الكاتب علي أبو خطاب، وتقع المجموعة في 107 صفحات من القطع المتوسط.
وقد جاء في مقدمة الجمعية: "عطب أحمر عنوان لمجموعة شعرية إنسانية جسدتها هذه الشاعرة المبدعة لترتقي بها نحو أفق أوسع في فضاء الإبداع، وهي تجربة لجيل مبدع من الشباب كانت نصوصه أشبه بأحلام مدهشة وتفاصيل مرتبكة على حافة الجمال. هذه المجموعة التي تحيلنا إلى نبش ما تبقى من ركام متهالك في الذاكرة مداعبة مشاعرنا من خلال الجرأة في الطرح وفلسفة النهج الأدبي البديع نحو الأشياء".
أما مقدمة الناقد أبو خطاب التي كان عنوانها "عطب أحمر..تجليات الأنثى / عشتـار" فقد جاء فيها :
"ربما كانت الكتابة عن الشعر أصعب أنواع النقد حيث الاختزال والغموض والتقنيات التجريبية تبرز بشكل أكبر، ربما لهذا كانت الحركات الأدبية التي تثير الضجة تبدأ في الشكل الشعري قبل الرواية أو المسرحية..إلخ، مثلما حدث في الغرب مع الرمزية والسريالية..إلخ، ومثلما حدث عندنا، عند ولادة قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ربما كانت الكتابة عن شاعرة أنثى أمراً أصعب، حيث لا بد أن يكون الناقد واعياً للتفريق بين الحقيقة والخيال، فلا يسقط في ما وقع فيه كثير من النقاد حين يأخذون من نصوص الأنثى سيرة ذاتية لها، خاصةً إن كانت نصوصاً ساخنة تستهويهم، ربما أخيراً تكون الكتابة عن زوجة عاصرتُ ولادة نصوصها ونموها أصعب أنواع النقد، حيث ستظل متهماً في كلتا الحالتين: المدح والذم، فإن مدحتَ قالوا زوجاً يحابي زوجته، أو يتقي مشاكلها، وإن ذممتَ قالوا أنها ذكورية المجتمع التي تجعله يرفض أن تتفوق عليه زوجته في أي مجال، أو تسبقه بنشر شعرها في مجموعة! ما سأحاوله هنا هو أن أكون موضوعياً محايداً، لا أتدخل في حياة الشاعرة أو نفسيتها إلا حين يقتضي المنهج النقدي ذلك، وليس معرفتي بها.

غلاف المجموعة طبعاً لا بد أن نبدأ من العنوان الذي اخترناه للمقال، وهو تجليات الأنثى/ عشتار. الشاعرة قد تتخذ لنفسها لقب عشتار حين تكتب "رسالة إلى تموز"، وربما لا تكون الشاعرة ذاتها، بل راوية أو منشدة (إذا استعرنا التعبير التراثي) لتلك القصيدة مثلما نقول راوٍ أو سارد (narrator) في الرواية. أنا سأعتبر الراوية العشتارية هي ذاتها في كل القصائد، أو على الأقل في القصائد التي تستعير فيها الراوية وجهاً من وجوه عشتار (ولا أدري إن كان ذلك صحيحاً في الحالتين أم لا). المهم أن ما نلاحظه هو ظهور المرأة الناسوت (الأنثى) والمرأة اللاهوت (عشتار) معاً في المجموعة، وأحياناً بشكل متداخل. من المعروف أن الفكر الديني -تحديداً في ما قبل التاريخ- استعار الصفات البشرية وألصقها بالآلهة، فالاثنان لهما نفس المظاهر لكن الفرق في الكم غالباً وليس في الكيف، فالإلهي هو الأقوى لكن هذا لا يمنع أبطال أسطوريين مثل هرقل اليوناني أو گلگامش العراقي -وهما تمازج الإلهي والبشري- من أن يتحديا الآلهة ويتفوقا عليهم أحياناً، وفي التحليل النفسي عند فرويد وتحديداً في كتابه "إبليس في التحليل النفسي"، نراه يُرجع فكرة ولادة الإله إلى الأب، وكذلك فكرة ولادة إبليس. حتى في الثقافة الإسلامية مازالت هناك بعض الاستعارات البشرية للذات الإلهية مثلما يذكر القرآن: "يد الله فوق أيديهم"..إلخ. وإن كان ثمة خلاف للآن حول المجاز فيها، لكننا سنستخدم في دراستنا التفريق بين الاثنتين لضرورات نقدية. المرأة البشرية تتجلى في حديثها عن حبها في "رسالة إلى تموز" حين تقول:
تفوقُ طموحاتي بجمجمتكَ الماسيّة
وتعابير خيوط وجهك
(أخشى أن تكون طيفاً عابراً)
أعشق تفاصيل تفاصيلك
(يكفي أن أتمناك ولا أجدك جواري
لأدرك أنك حقيقة)
من الواضح هنا أن المخاطب هو إنسان بشري مثلها رغم أن الرسالة لشخص إلهي، وهنا التداخل الذي تحدثنا عنه سابقاً، لكن لا بد من أن نوضح أن ثمة أصل بشري للإله تموز، فكما يذكر د.فاضل عبد الواحد علي في رائعته "عشتار ومأساة تموز" أن الإله تموز هو في الأصل شخصية تاريخية وأنه ملك سومري حكم في فترة ما قبل الطوفان.
وفي "عقيدة" يستمر خطاب الحب للآخر الحبيب رغم الجو الأسطوري المتبدي في المقطع الأول حيث تقول في الثاني:
فروة رأسك
هي مخطوطة
رغباتي
الوحيدة
وهذا الخطاب الحميم المفعم بالرومانسية والوله يتكرر أيضاً في قصائد: "لغو"، "صلاة تهجد"..إلخ. وفي "صلاة تهجد" ألمح العلاقة الأزلية التي أنظـّر لها في رؤيتي الفكرية وهي علاقة الحب بالعبادة حين تقول:
لو أنهم جعلوا من رأسك الصغير قِبلتهم..
ثمة قصائد أخرى نجد فيها الأنثى الحبيبة لكن تخالطها أنثى أخرى قد نسميها يائسة أو منهزمة وأحياناً تعيسة حيث لا أمل، فمثلاً في "نص يباب" بعد الحركة الأولى الرومانسية الهادئة (إذا استعرنا التعبير الموسيقي) التي تقول:
تستفز الحواس مني أناملك
حائرة هي..
نجد ثمة حركة سريعة صاخبة تقلب الأمور رأساً على عقب:
بدأتُ أتقيأ كلماتك
جوفي يفرغ إلا منك
عيناي تجحظ بصورتك
يموج رأسي بك
يرتعد صدري
فإذا بالحب ينقلب إلى توتر، تختلط مفردات الغثيان بألفاظ الحب، ولا نعلم هل الأمر يفرحها أم يبكيها حين نصل للحركة الثالثة من الكونشرتو الشعري الغامض لنعرف ماهية الأمر، نجدنا أمام سؤال مفتوح على احتمالات القارئ:
تقوّس بي البيت.. احدودب ظلي
لماذا عليّ أن أحملك وأطوف بك؟
في "كيفما يجيء" نجد كونشرتو مفاجئ حيث الحركة الأولى سعيدة:
في بيتي أرعى طفلاً زهرياً
ينمو الشَعرُ على أوراقه
كيفما دنا مني أرضى
ثم يصبح الأمر غامضاً، فمثلاً تقول:
وللكرمة الشؤم أطأطئ ظلي
أدعك في الدمع تورد أيامي
والحركة الخاتمة هي أيضاً سؤال يفتح أفق القارئ للمشاركة:
ولما يشرق الليل في قلبي أذعن لرجع بأسه الأول
فهل أهرم من ميلاد الأيام على كتفه الناعم؟
في "مناسبة" و"صدق الوعيد" نجد الجو النفسي المختلط أيضاً، ففي الأولى تقول:
وجودنا معاً
هدية
تصلح لجميع المناسبات
ثم يتخلف الأمر بعد سطور لتقول:
وإذا هممتَ بالاحتفاء بي
تغمس وجهك كاملاً
في ظهري
طوال الليل
وهذا المشهد هو نهاية القصيدة فالكونشرتو هنا مبتور، وثيمة "ظهرها" تتكرر مرة أخرى في "صدق الوعيد" لكن في إطار آخر هو إطار المصالحة حيث تقول: "يقبل ظهرها" رغم أن القصيدة بدأت بالسوداوية: "إذا ما أحزنتـَني ثانية.. سأتركك!"وكما نرى يطغى هذا التذبذب بين الألم والأمل على كثير من القصائد، وليس مصادفة أن حروف أمل هي ذاتها حروف ألم، والعكس صحيح. هذا الأمل هو الذي تستسقيه الراوية المنشدة في "استسقاء" وترمز له بالماء مما يذكرنا بنصها الآخر في ذات الجو النفسي "نص يباب"، الذي يعود بنا للأرض اليباب لإليوت حيث أرضاً وبشراً يبحثون عن خلاص روحي ونفسي يرمز له بالماء وكذلك المطر الذي استعاره منه السياب في رائعته "أنشودة المطر". تختلف "استسقاء" عن باقي القصائد ربما في بدايتها السوداوية منذ السطر الأول خلافاً لما ذكرنا من قصائد تبدأ بالحب ثم تكدرها المعاناة، فنجدها تقول:
قحطٌ طينُ قلبكَ
جدباء سنون أسفارك
ومن يعود للقصيدة يجد ثنائية العطش أو الظمأ/ البئر أو الفيض هي المسيطرة على القصيدة ومفرداتها.
الأنثى المتمردة هي مظهر بشري آخر في المجموعة تجلى خاصة في قصيدتي "مطارحة" و"مع ذلك". فنجدها في القصيدة الأولى تبدأ بشكل ساخط غير مألوف منها حين تقول:
يا أنتَ..
يا باسقاً في الأدنى
يا أنتَ.. أعفى كتابته
مفكراً وسخاً يريد
شروة
ولا نعلم إن كان الآخر المخاطب هنا هو نفسه الحبيب، لكن الزمان هو الذي يتغير حيث هنا لحظات الغضب، أم أن ثمة أكثر من حبيب أو آخر، الأرجح أن ما دامت عشتار لها أكثر من عاشق كما فصّل الباحث فراس السواح في رائعته "لغز عشتار" فلماذا لا تكون البشرية -وهي أصل الإلهة- ذات أكثر من حبيب أيضاً. في "مع ذلك" نجد الهجوم الحاد ذاته:
أفقٌ فاجرٌ زانٍ
تمتلئ خيلاء أحمق
وهنا تذكير باهت أيضاً بعشتار المنتقمة التي سلّمت حبيبها تموز للشياطين، ورغم أنها تدرك في القصيدة ذاتها أنه ليس شيطاناً بالمطلق أيضاً، حيث أنه -كما تقول في السطر اللاحق-:
عزيز نفس.. عزيز حب..
وتعلن أنها لن تتخلى عنه فتقول:
لبوم النهار أتر كـ ك.. لن.
هنا تذبذب آخر لكن هذه المرة بين عاطفة الكره والهجر وبين الإحساس بالحب والانتماء. وانتماؤها إليه توضحه "استباق" حيث نجد في بداية القصيدة عزمها على الرحيل:
يومها..
أخذتُ أرتحل بحقيبة ملابسي
ثم نفاجأ بقولها:
لكني ما إن دبّ في حقيبتي الملل
حتى وجدتُ نفسي
أقطع الطريق على ظهر الورقة الخلفي.. عائدة
وفي آخر القصيدة تقول:
... تعبتُ من حمل الحقيبة!
فتغدو الحقيبة رمزاً لآلام العلاقة، فهي تعبت من حمل المتاعب النفسية التي تضنيها وتجعلها كل مرة تحمل حقيبتها تريد الهجران، لكن الحب يغلبها فتعود. وهنا نتذكر عشتار المرأة الإلهة مرآة المرأة الإنسية التي عذبت عشاقها، ولكن هي نفسها تألمت بفقدان حبيبها تموز وكانت تبكيه كل عام، فهل كانت الراوية في القصيدة تعذب حبيبها أيضاً وتتألم في الوقت ذاته؟
ولكن ليس معنى عودتها المتكررة أنها تبيح له أو تبرر ما يفعله، فهي تحذره في "صدق الوعيد" بقولها:
إذا ما أحزنتـَني ثانية.. سأتركك!
وأيضاً في نفس القصيدة:
لسوف أهجرَك إن عدتها ثانية..!
هذه العلاقة الملتبسة مع الآخر الحبيب ربما تلخصها "تلك" التي نقتبسها هنا كلها لقصرها:
أولها.. أنت سببها وأوسطها تأتيــني.. آخرها
لن تشفع لك
وبعدها..
لا أريدك أرفضها !
وهذه العلاقة قد تتبدى في جملة معبرة من "دروس القيظ" حين تقول: "محبةٌ متقنة الإجرام تنشبُ في ثوبي"، رغم أن هذه القصيدة خارج سياق ما نبحثه هنا.
وإذا كانت القصائد السابقة تهيمن عليها مشاعر الأنثى العدوانية التي تفكر بعاطفتها فثمة اختلاف في "نهاية" حيث هنا ما يشبه حوار عقلاني من أنثى تخاطب آخراً أنهكها في صراع المد والجزر وتريد أن تصل معه إلى حلول ترضيها وترضي الطرفين، وليس عبثاً هنا أنها أسمت القصيدة "نهاية"، فهي تبحث عن نهاية أو خلاص لما هي فيه من علاقة متذبذبة:
أردتـَها حرباً ونسيتَ
أن حبك كقطار العمر
لا يحتاج لوقود
هنا تحاول إقناعه بأنها تحبه فلا جدوى من الحرب، هذا رأيي كناقد لا أفرضه على قارئ أو ناقد آخر قد يجد في خطابها مسكنة أو استدراجاً أنثوي للذكر من باب العاطفة حتى تحصل على ما تريد، دون أن أتهم هؤلاء بالتفكير الذكوري. هذا التداخل في العلاقة بين الحب والكره جعل من طرفي العلاقة أنفسهما متداخلين، حتى أنها تقول:
أوجاعك تطول
تشكلنا حلقتان متداخلتان
تحلقان حول بعضهما
ولا يخفى على الباحث النفسي في الرموز الجنسية أن حلقة هنا تمثل رمزاً أنثوياً حسب فرويد، فهل لو كان الراوي ذكراً كان سيذكر رمزاً آخر للتداخل؟ ويصل الأمر بالاثنين معاً إلى حد الماسوشية في ألم العلاقة حيث تقول:
ذائبين في العقاب.. مخمورين في الغبن
لكن هل من نهاية حقاً؟ وما هي؟ إنها تقول:
تكتمل دورة الألم
تَفضَّـل واختر ركن النهاية
ربما تنتهي هنا القصيدة نهاية طبيعية، حيث الحوار المنقوص فيها لا بد له من محاور آخر ترمي الكرة في ملعبه ليقول كلمته، لكن قد يجد قارئ آخر أن في الأمر ذكورية حيث تصبح مفاتيح الحل في يد الآخر الذكر.
مثلما هناك المرأة/الروح أو النفس (لمن لا يؤمنون بوجود الروح) حيث الرومانسية الدافئة، نجد أيضاً المرأة الجسد ولا أقول الجنس، فأنا أعطي الجنس مفهوماً أكبر حسب رؤيتي. فالعلاقة الروحية/ النفسية هي أيضاً جنس، والعلاقة العقلية هي أيضاً "تزاوج عقول" -حسب شكسبير في إحدى سونيتاته. مفهوم الجسد الذي أطرحه هنا هو مفهوم بيولوجي يختلف عن مفهومه البارتي الغامض نوعاً ما، حيث يغدو التفكير بالجسد أي يحل العقل نوعاً ما محل الجسد بعبارة الناقد جوناثان كلر. لنبدأ أولاً بقصيدة "عطب أحمر" وهي عنوان المجموعة حيث هنا المرأة البشرية التي تعاني آلام الدورة الشهرية فتسمي ذلك الدم الفاسد بالـ"عطب"، ولا أعرف شاعرة وصفت الطمث بهذا الوصف الجميل شعرياً المؤلم إنسانياً من قبل، فمثلاً تقول:
أبو الأوجاع يشبقني
يتخثر حقي في السيولة
نبضٌ طاهر يدنسني
كما تقول:
أحجارٌ في فخذيّ
ظهري صليبٌ من ذهب سماويّ
رحمي نسل الطوفان
كيف تواجه الراوية هذا الألم؟ نجدها تقول:
أكفـّن عضوي
الرغبة تنزف
الجرح يلعق السكين
تحاول أن تقتل هذا العضو من شدة الألم، ولكن لا فائدة بل تجد أنه من هذه الغريزة الدموية تبزغ غريزة أخرى أيروسية، حيث تبرز الرغبة الشبقة وهنا اقتران الطمث بالجنس البيولوجي، وهذا يذكرنا بالثنائية الشهيرة عن غريزتي الحياة والموت التي أعود لهما دوماً. وكما تنتهي قصائدها في السابق نهاية مفتوحة بسؤال أو انتظار رد، فإنها هنا تنهيها بعود على بدء حين تقول:
أدفع الأيام.. أبصقها
تنتهي.. لا تلبث أن تعود
ولا يعني هذا أن المرأة الناسوت هي التي تحيض فقط، بل عشتار أيضاً غزيرة الحيض لأنها رمز الإخصاب كما يقول فراس السواح أيضاً في رائعته "مغامرة العقل الأولى"، وهي العذراء دوماً رغم ممارستها الحب آلاف المرات حسب الأساطير فبكارتها متجددة. ومن هنا قد نلمح حضور عشتار في القصيدة في سطرها الأخير "تنتهي.. لا تلبث أن تعود" فالحديث هنا ليس فقط عن الطمث بل عن البكارة أيضاً، كما تجلى حضورها أيضاً في قول الراوية "رحمي نسل الطوفان" فالحيض صار طوفان من شدة غزارته. والرغبة أيضاً شديدة وغزيرة عند الراوية ففي "أطأ عراءك بحذر" نجد أن مجرد بنطاله يثير غرائزها:
شكل بنطالك يقشر
طبقات كلسية من انعدام الرغبة
وثمة قصائد أخرى نعود لها في سياق آخر..
يظل الوجه الثالث من وجوه المرأة وهو المرأة العقل، وهو الجانب الذي أغفله أغلب النقاد الذكور عبر قروناً من تاريخ الأدب والنقد، فعادةً ما يُذكر للمرأة إما شعرها الرثائي كالخنساء، أو الجنسي كولاّدة بنت المستكفي، أما شعر المرأة التأملي الفكري كشعر رابعة العدوية الديني فنادراً ما يتم الحديث عنه، وكأن تراثنا لا يتسع لشاعرة تكون نديدة لأبو العلاء المعري مثلاً في فلسفته الشعرية أو شعره الفلسفي. وفي خضم ثورة النقد النسوي في العقود الأخيرة والمقتبس أصلاً من الغرب وما زال في طور نشأته عربياً -خاصة أنه يثير كقصيدة النثر كثيراً من الإشكاليات بين رافض أو متحمس له- نجد أن المفاهيم المهيمنة في دراسة المرأة إما جسدها وعلاقاتها الجنسية البيولوجية كما يدرسون مثلاً أحلام مستغانمي وغادة السمان وحنان الشيخ..إلخ، وإما دور المرأة الاجتماعي ونشاطها السياسي كما يدرسون مثلاً سحر خليفة وفدوى طوقان وليانا بدر..إلخ. ولكن -ودون أن نرفض مصطلح الأدب أو النقد النسوي- ألا يحق لنا التساؤل أن المرأة هي أيضاً إنسان له هواجسه الفكرية وتأملاته الوجودية، وكما لجأ أدونيس للتراث الصوفي لتأصيل مصطلح قصيدة النثر ووجدها عند النفري وغيره، يمكن لنا أن نلجأ للتراث ذاته في شعر رابعة العدوية لنجد أو نعيد تسليط الضوء على الشعر الفكري -إن صح التعبير- لدى المرأة. ونعود لمجموعة شاعرتنا التي تزخر بأكثر من قصيدة فكرية مثل "نحن عزيزي" و"يأس" و"بيوت" و"مكان" و"كثبان اللحم"..إلخ، ويمكن للقارئ الرجوع لها. وتتبدى فيها فلسفة الشاعرة أو الراوية فتقول في "إيمان":
الحكمة ظل
اللعنة صدى
منطق الروح جاف
المادة خرافة
وهنا ربما في السطر الأخير إشارة صوفية، فكما أن الوجود لديهم هو تجلي وظهور للباطن الإله وحضور الأشياء وهم فكذلك المادة خرافة لدى راويتنا. في "كل ليلة" نجد مقاطع مختزلة تلخص إشارات حول أمور تؤرقها:
شرفات السماء
تغلق
على جرائم
الأرض
في "تحليق" نجد عدة مشاهد تستثير كل منها فكرة لدى القارئ، وربما نجد محاولة شعرية لفلسفة المواقف كما في قولها:
الكاتب المكرر
يبخ
كلماته
في صندوق أحلامها
في "في السياسة" نجد جانباً فكرياً آخر وهو الجانب السياسي نقتبس منه حديثها عن المعارضة:
معارضة (1)
تحذر من التلوث
معارضة (2)
تدخل السوق
معارضة (3)
توزع النفايات بالقسطاس
وكما تطغى السوداوية في القصائد السابقة، كذلك تتجلى بشكل أعنف في "بلاء"، تقول مثلاً:
إذا دُستَ طرفها
نهض إليك الآخر.. صعقكَ.. شق رأسك
في "تعاقب السر" نجد صورة فنية غريبة حيث تقول:
أقوى أنا..
كلما اشتد الكلب الذي يتسمـّر في خيالي بالنباح
وكلما تبددتْ الكلمات من يدي
هنا تناقض غير مفهوم فكلما تبددت الكلمات أصبحت الراوية أكثر قوة، وهنا تصل للحدود العبثية والعدمية حيث لا إيمان حتى بالكلمات التي تكتبها. هذا ما نلمحه أيضاً في "حياة تشتعل برفق" حين تقول:
وأشفق الضحايا
على القتـَلة البسطاء !
وهذه العبثية تتجلى أيضاً في مفردات مثل "فراغ" و"خواء" المألوفة أيضاً عند مجايليها الفلسطينيين. تقول في "إيمان":
"فراغات تسبح في كونٍ خاوٍ"
ولا يكفي هذه المفردات بل تذكرها في سياق عبثي آخر حيث العنوان هو "إيمان" لكن ما نجده هنا هو الكفر باليقينيات. ومثال أخير نذكره من "مكان" تقول:
مكعبات فراغ
تجدول الغياب
والفراغ والغياب وجهان لعملة واحدة تقريباً.
أما "دروس القيظ" فهي رائعة الشاعرة حيث الدروس الشعرية الفكرية التي تتلخص في مشاهد (إذا استعرنا الأسلوب السينمائي) أو مواقف (إذا استعرنا عبارة النفري) أو أحوال (إذا استعرنا العبارة الصوفية الأعم)، منها مثلاً:
-*- يدٌ درّبتكَ مراراً على رصانة الاعتقاد، تستوي اليوم، جواربَ بهلوان مريض.
وأيضاً:
-*- الفراشات المحلّقة في عيون طفلة تعلقُ في شراك التعاليم.
لهم أن يخافوا تحليقَ الفراشات بعيداً.. ولها أن تعمى بعدئذ.
وكما ذكرتُ سابقاً على علاقة الحب بالعبادة في معرفتي، نجد في المجموعة علاقة الحب بالمعرفة والفكر حيث تقول في "دروس القيظ": "شطحات العقل تستفتي الهوى".
قصيدة "حشرجات" قصيدة نثر فكرية بامتياز تكثف فيها مشاعر الراوية حول شذرات حياتية وعن العبث والملل وغيره، تقول: "أغنية رديئة تذكّر بموقف تافه لا يستحق الاسترداد".
نختم حديثنا باقتباس القصيدة المفصلية "انشطار الفكرة" كلها:
ليس النوم من يعتزل
يا لموت العقل البريء!
تعتمل الفكرة حالة يقظة منقوصة
يا لاختصام وضعَيْ الجسد
على تلك البـــــــــــارقة!
فإذا كان نيتشه أعلن موت الله وأعلن البنيويون موت الإنسان وتحدث درويش عن موت اللغة، فشاعرتنا تتحدث هنا عن موت العقل رغم براءته، بل ربما مات لأنه بريء، وبناءً على ذلك ترى أيضاً أن الفكرة ليست وليدة حالة الوعي والعقل اليقظ، بل تولد في حالة يقظة منقوصة. وربما تقصد حالة الحلم التي تذكرنا بالراحل المبدع حسين البرغوثي الذي كان يحلم حرفياً ما يكتب. ولنتأمل العنوان "انشطار الفكرة" حيث يصل التشظي والتشتت النفسي داخلها أو العالمي خارجها إلى حد تفتت الأفكار في عالم ثورة المعلومات والعولمة.
ليس هذا كل شيء، فثيمة المعرفة ومفرداتها من "الحكمة" و"مكتبة" و"مخطوطة"..إلخ تتكرر بشكل واضح في المجموعة، بل إن بعض العناوين جلية في دلالاتها مثل "فلتحفظني كما بورخيس" و"بل مخطوطة" و"مكتبة" و"في الكتابة عنك"..إلخ. تبحث الراوية عن حريتها في اللغة حين تقول: "يكون لغوي محرراً، معقولاً، مفهوماً" وكأن ذلك يوازي حرية المرأة في واقعها. وهي تربط جانبها الفكري بالعاطفي حين تخاطب حبيبها:
لماذا تعجز عن ترجمتي لأفهمني
ألستُ نصـّـك؟
فهي تماهت مع المعرفة وجعلت من نفسها نصّاً، لكن نص/مرآة للآخر. ما يؤكد هذا التماهي قولها في "مكتبة": "يقرأون جسدها بين الغلافين" ثم تقلب الأمر في نفس القصيدة حين تجعل من المعرفة إمرأة: "أرداف المراجع والقواميس". و"بل مخطوطة" و"أفعال" كانت أكثر قصائدها تركيزاً على الكتابة والقراءة والمعرفة..إلخ، وفيها أيضاً تداخل بين الحب والمعرفة. وربما نجد التماهي السابق أيضاً لكن في إطار الألم حين تقول في "نزيف":
المسمار
الذي زرعتَ
في عقر كتابي
إذا كنا ألمحنا سابقاً لبعض وجوه عشتار المرأة اللاهوت في حديثنا عن المرأة الناسوت، نستكمل هنا وجوه أخرى فهي متعددة الوجوه، كما تقول في إحدى الأساطير:
أنا الأول وأنا الآخر
أنا البغي وأنا القديسة
أنا الزوجة وأنا العذراء...إلخ
في "رسالة إلى تموز" يتضح صوت عشتار خاصة حين تقول:
لن أسلّمك للزبانية
لألقي بك في الجحيم ذاته
فهذا ما حدث في الأسطورة حين سلمته إلى لزبانية العالم السفلي، لكنها في القصيدة تستبدل الجحيم المعروف بجحيم جسدها، فتقول: "جسدي نارُ تلظّى تنتظرك". وفي "عقيدة" تستمر عشتار إلهة الحب في حديثها:
في خرافتك أعيش الحقيقة
ولفرط أسطوريتك
أكاد أجزم أنك
غير موجود
ومفردات مثل: "خرافتك"، "أسطوريتك" تؤكد حضور الأسطورة هنا.
أما عشتار الشبقة فتحدثنا عنها في نص "عطب أحمر"، وعشتار السوداء تحدثنا عنها حين تحدثنا عن عشتار المنتقمة، فكما هي عشتار الحب والجسد والحياة كذلك هي عشتار الموت والانتقام. ونعود هنا إلى فرويد ونظريته في ولادة إله الخير (الله) وإله الشر (الشيطان) من شخصية الأب، ففي المجتمع الأمومي كانت عشتار هي الإله الأكبر والتي تحمل في داخلها إلهين أحدهما إله الخير والحياة والآخر إله الشر والموت اللذان انفصلا فيما بعد في الديانات الثنائية كالزرادتشية وغيرها، أما في الديانات التوحيدية فأصبح إله الشر شيطاناً، وفي ثقافتنا الإسلامية نجد صفات المنتقم وما شابهها من أسماء الله الحسنى. ويرتبط ما سبق كونها سيدة الليل وربما نجد هذا في مفردات الليل والعتمة في "كيفما يجيء" و"براثن التطير"، بل تفرد قصيدة كاملة لليل هي "كل ليلة". لكن عشتار أيضاً هي سيدة الضوء أو النور ونجد ذلك في مفردات "كرات ضوء" و"الأنارت"..إلخ في قصائدها "أرصاد إلهية" و"رسالة إلى تموز" وأيضاً في عنوان قصيدتها "حياة تشتعل برفق" فالنار هنا مواكبة للحياة. ويتجلى ذلك صراحة في قولها: "آلهة الضوء" في "حشرجات". وكما هناك المرأة العقل فهناك عشتار سيدة الحكمة والإلهام، وهذا ما نلمحه في القصائد الفكرية انطلاقاً من أن المرأة اللاهوت هي انعكاس للمرأة الناسوت، لكنها أيضاً هي سيدة الجنون الذي نجده في عبثية بعض القصائد الفكرية، وأيضاً سيدة الغيبوبة التي تتجلى في قول الراوية "تعتمل الفكرة حالة يقظة منقوصة" في قصيدة "انشطار الفكرة". عشتار كذلك هي سيدة الحيوان فالمجموعة تعج بتنوع الكائنات مثل "الغربان"، "العناكب"، "الفراشات"..إلخ. عشتار أيضاً هي سيدة القدر والتي "تثور على القدرية" على حد قول الكاتبة في قصيدة "خراطيم المدى".
لحديثنا عن عشتار علاقة بالأسطرة الشعرية التي تمارسها الشاعرة، ليس من خلال حديثها عن عشتار فقط بل فيما مر علينا سابقاً من مفردات مثل "خرافتك" و"أسطوريتك"..إلخ، إنها تحاول رسم جو أسطوري أو ديني في بعض القصائد مثل "صلاة تجهد" و"أرصاد إلهية"..إلخ. هذا ربما يؤكد ما قلته سابقاً أن الراوية هي عشتار حتى في القصائد غير العشتارية.
القصائد جريئة في كسرها التابوهات الثلاث: السياسة والدين والجنس، وأقصد بالأخير الجسدي. من قصائدها الجريئة قصيدة "ضَعْف" حيث تقول:
أصعد رقبتك وهناً
أمتطي نداوة عضوك فأفيض
قليل من الشاعرات اللاتي تجرأن ليقلن مثل هذا الكلام خاصة في غزة هاشم أو على المستوى الفلسطيني عامة، بل إن حتى الشاعرات في العالم العربي مازلن في أسر شرقية المجتمع المزعومة، وألاحظ أن حتى تلك اللواتي يعشن في المهجر مازالت الكثيرات منهن محافظات في شِعرهن، وليس في الأمر هنا دعوة للإباحية بقدر ما هي دعوة لحرية التعبير في المنطقة الحرام التي اخترقها كثير من الذكور منذ امرؤ القيس وليس انتهاءً بنزار قباني، فكسر التابو الجنسي في الشعر العربي خاصة يبدو أنه ما زال في قبضة الذكور، وقد مررنا بإشارات شبقية في قصائد سابقة. ولا تكتفي الشاعرة بهذا بل تتعداه لمنطقة أكثر جرأة في "مثلث الاثنتين" و"تعالنّ نلتف السكون بصخب"، ولن أتحدث عنهما فالقصائد تشرح ذاتها، ولكن ما استرعى انتباهي هو ما أكدتُ عليه سابقاً من علاقة الحب والجنس بالمعرفة، فنراها تقول في "مثلث الاثنتين": "في سكرة المعرفة نتباهى بحذر"، وفي "تعالنّ نلتف السكون بصخب" تقول: "أنتن مرويّات بالحكمة". والقصائد تكسر أيضاً التابو السياسي، وطبعاً أوضح مثال هو قصيدتها "في السياسة" التي اقتبسنا منها سابقاً، والتي تعرض فيها لمشهد سياسي ينطبق خاصة على فلسطين وغزة تحديداً، بل وكثير من دول العالم. ولكن تبدو أهمية القصيدة أنها جاءت خطاباً سياسياً في الفوضى السياسية التي شهدناها ونشهدها في قطاع غزة، لكن بطريقة شعرية غير فجة كما نشهد في كثير من أشعار المقاومة منذ النكبة حتى الآن. ثم تتمادى القصائد لتكسر التابو الديني في "فضح" و"أرصاد إلهية" فتقول مثلاً:
مع انزياح النهارات
يلبس الله ثوب العريّ
الكاشف عن نوره
ولا داعي لأن نفصل هنا الحديث عن المعنى المعجمي للكلمة ومعناها المجازي، فليس بالضرورة أن يكون الله هنا هو الله في الثقافة الدينية السائدة. إن جرأتها هي في استخدام المفردات الدينية في سياقات بشرية رمزية. لكن هل يعني ما سبق أن الشاعرة أو الراوية شجاعة لا تعرف الخوف من المجتمع ومن النظام الحاكم ورجال الدين (لاحظ أن لا نساء للدين لديهم)؟ إن عنوان قصيدتها "موازين الخوف" خاصة يفضح مشاعر الرهبة لديها، نتأمل السطر الأول تحديداً:
تفرض عليكِ شريعة الخوف
هنا ثلاث مفردات مفاتيح، الأولى هي "تفرض" حيث الإجبار، الثانية "شريعة" التي تحيلنا للدين وأوامره ونواهيه، والثالثة طبعاً "الخوف". وإذا استمرينا في القصيدة نصطدم بمفردات الخوف مثل "يمتص من راحتيك الهلع" ثم نجد نفس الكلمة مرة أخرى في "حركات الهلع البدائي"، ثم " أنتِ لازلتِ خائفة" و"البطل ينأى برعبه عن خوفِك الجنين"، بل تختم القصيدة بـ"وتخافين من جديد" وكأننا في دائرة مكتملة فكما بدأنا بالخوف انتهينا به، إنها دائرة الخوف إذا استعرنا تعبير نصر حامد أبو زيد في كتابه دوائر الخوف، ويا للسخرية فهذا المفكر نفسه عانى من الظلاميين بجرأته في كسر التابو الديني السلفي وطُلقت منه زوجته وهُجّر من دياره في القرن العشرين، قرن الحداثة وما بعدها التي غادرت من الغرب لديار الشرق على ظهر سلحفاة يبدو أنها لن تصل! كما تتكرر ألفاظ الخوف في "كل ليلة" (هل هو خوف من الليل؟) حين تقول: "نعيق الخوف" فمن فرط الخوف صار له صوت وأي صوت؟ فهو صوت بومة أو غراب، ومن الطبيعي ما دام هذا الخوف ليلي أن يتخذ لون السواد في البومة والغراب معاً، كما نجد في القصيدة ذاتها قولها:
أصبح للخوف رائحة فانيليا
وملمس فراء
ربما هنا تتصالح مع خوفها حين يصبح ذا رائحة جميلة وملمس ناعم. أما في "خراطيم المدى" فتتحدث عن "أرشيف الخوف" وهنا صورة مرعبة لخوف ورعب متكرر حتى أصبح له أرشيفاً.
الآخر حاضر دوماً في قصائدها فهو إن كان حبيباً في سياق السعادة إلا أنه قد يكون جحيماً كما رأينا، وهنا نتذكر رامبو ومقولته "الآخر هو الجحيم" وهذا يبرز أكثر في قصيدتها "شيوخ الفرقة"، فمثلاً تقول في الأولى:
امضوا وحسب
في فضاء المحاولات
التي ستلتهم أكتافكم
مع كل الـتـفاتة لنا..!
ربما تقصد هنا أولئك الذين يحاولون التفريق بينها وبين حبيبها، لكن اقتران الفرقة بشيوخ يحمل دلالات دينية أخرى. أيضاً في "استباق" نلمح أولئك:
نادبة سعادات
استكثرها علينا المعرّفين
وكما كان الذكر أحياناً نعيماً وأحياناً جحيماً فكذلك الأنثى قد تمثّل لحظات سعادة مثل علاقة الراوية بالآخر الأنثى في "مثلث الاثنتين" و"تعالن نلتف السكون بصخب"، أو لحظات تعاسة مثل "خراطيم المدى" حين تقول:
هن:
ينفشن آيات العذاب..
وربما "تحليق" هي قصيدة الآخر بامتياز، حيث نجد طغيان الآخرين والأخريات من ذكور وإناث وصغار وكبار حيث أحد المقاطع يتحدث عن كاتب، وآخر عن الجيران..إلخ، نقتبس فقط حديثها عن الصغار: "الصغار يشربكون حاجياتها الكثيرة". وفي "اقتراف الأمل" نجد آخراً يستوطن الذات نفسها، وهو جحيم أيضاً مما يزيد من رعب الصورة حين تقول: "(المعلم القابع في نفوس تلاميذه)". والغربان في "براثن التطيّر" ربما تكون رمزاً للآخرين أو الأخريات/ الجحيم أيضاً. وإذا كانت الراوية تعرف الآخرين الذين ذكرناهم فإننا أخيراً نلمح آخرين غرباء عنها حين تقول في "مكتبة":
غرباء
صامتون
يقرأون جسدها
بين الغلافين
وهؤلاء الغرباء لا يجدون فيها سوى جسدها، كأن ذلك انعكاساً لواقع ليس بالضرورة شرقي فقط، بل ذكوري عامة، بل أحياناً تمارسه الإناث حين يبحلقن في النساء أمثالهن.
تستخدم الشاعرة السرد في قصائدها وتفضح ذلك بعنوان قصيدتها السردية "قصصية العرق أنا"، وهنا ينطبق مصطلح (narrator) أي سارد في الإطار الروائي الذي تحدثنا عنه سابقاً. ونجد السرد أيضاً في "حكاية شعرة" وربما "مثلث الاثنتين" ولا داعي لتكرار الحديث عن تقنية السرد في الشعر الحر وقصيدة النثر وتوظيفهما الشعري، فهي من أصعب التقنيات التي يمكن للشاعر محاولة السيطرة عليها. والشاعرة استطاعت أن تستخدم سردها بشكل شعري دون أن تسقط في النثرية ساعدها على ذلك الصور الفنية المتتالية والجمل القصيرة..إلخ.
كما تستخدم الشاعرة الأسلوب السينمائي في مجموعتها وتحاول أن ترسم مشاهد تختزل مواقف مختلفة ومشاعر شتى، تقول مثلاً في "مثلث الاثنتين":
وبعد أن احتجب لون جسدكِ الأبنوسي، بعريّي.. آثرت أن أنهض القليل حتى يتدلى رأسي في فجوة ما بين ثديي/ فأقلقَ شَعري القصير المقلوب وجهكِ وأوشمه/
ومثل هذه المشاهد نجدها في قصائد أخرى، لكن ما تتميز به الشاعرة هو توظيفها للسينما في إطار شعري لا في إطار نثري كما يفعل كثير من شعراء ما بعد الحداثة العربية، فهي لا تقدم المشهد خام -إن صح التعبير- بل تضفي عليه صورها الفنية، وهذا ربما يشبه سينمائياً ما يسمونه بالسينما الشعرية حيث التداخل بين تقنيات السينما وتقنيات الشعر. وكما فضحت سردها تفضح سينمائيتها فتقول في "حبيبي الأول": " وأنا في سينماتوغرافية وجوده، أجرد الأساطير".
شعرية التفاصيل واضحة في المجموعة، نلمح لبعض منها، فمثلاً تقول في "رسالة إلى تموز":
نفذتَ مع رائحة طلاء أظافري
ذبذبتَ أعصابي
زلزلتَ بصيلات شعري
أنهكتَ عطري
تعبث (كما يحلو لك)
بهدوء الأشياء
وسكون الأطراف
وهي هنا لا تخلط اليومي بالأسطوري كما في قصائد ريتسوس ومن تبعه من شعراء الحداثة العرب أيضاً، بل تمزج اليومي بالشعري لتقدم شعرية تفاصيل ذات نكهة جديدة. وهذا له علاقة بأمر تجريبي جديد نوعاً ما في شعرنا أو أدبنا العربي المعاصر وهو بطولة الأشياء حسب تعبيري، حيث تفرد الشاعرة قصائد بكاملها للحديث عن "مخطوطة" و"بيوت" و"شعرة" كما في قصائد "بل مخطوطة" و"بيوت" و"حكاية شَعرة". وهنا أيضاً في هذه القصائد مزج للشعري بالأشياء فإطارها ليس نثرياً أو قصصياً، فمثلاً تقول في "حكاية شعرة":
بدأتَ تعرف نفسَك.. فنبتَتْ
غضٌ أخرقٌ.. لزمتْكَ
وقبل أن تنهال عليها بمعول رجولتك
سقطتْ......
أبت أن تـُشرخ/ ضاعت/ استقرت بين زغب البيجامة القطنية
والبطولة هنا للشَعرة رغم أنها تتحدث عن آخر. لا ننسى طبعاً "تحليق" التي تزخر بالحضور الشعري للأشياء مثل "حذاء" و"حلوى"..إلخ.
الثيمات والتقنيات السريالية ربما موجودة في الأدب منذ فجر التاريخ قبل تبلورها في حركة أدبية برزت أوائل القرن العشرين ومازالت أشعتها تسطع في أوائل القرن الحادي والعشرين، ألاحظ ذلك في كثير من قصائد وأشعار الشعراء والشاعرات المابعد حداثيين العرب، ولهذا تنتمي هذه المجموعة في كثير من قصائدها. نأخذ مثلاً "كل ليلة":
بطاريات الأحياء
تتأكسد
ثم يعلوها
كربون عفن
كل مقطع من مقاطع تلك القصيدة عبارة عن مشهد سريالي. أما قصيدتها "في السياسة" فتحمل أكثر من صورة فنتازية سريالية، والقصيدة بأكملها مشبعة بجو الكوميديا السوداء، منها مثلاً:
متحدث رسمي:
ينفي عن السوق
وساخته
يمكن أيضاً أن نعتبر "تحليق" قصيدة سريالية، نقتبس منها:
الرجال اليحبونها
يطوون
أيامها
في الدولاب
هنا يُطوى الزمن (ممثلاً في الأيام) في دولاب كأنه قدر، وهذه الصورة تذكرني بلوحات دالي الزمنية الشهيرة ممثلة في الساعات السائلة. قصيدة "مكتبة" تحوي مشاهد سريالية منها:
يدٌ
خجلة
تتعطش للماء
إن السريالية مازالت تفعل فعلها الأدبي المعاصر خاصة منذ أن بشّرت بها جماعة السرياليين المصريين أمثال جورج حنين ومن ساروا على دربه فيما بعد من جماعة "شعر" خاصة شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج وأدونيس، إلى أن نصل إلى السريالي العربي الأكبر حالياً وهو عبد القادر الجنابي المترجم والشاعر والناقد السريالي.
شعر المفارقة معروف في الشعر المعاصر وتحدث عنه سابقاً كمال أبو ديب وآخرون، وبعض قصائد المجموعة تنتمي إلى هذا الشعر حيث تفوح السخرية أيضاً في سطور كثير منها، وربما هذا له علاقة بحديثنا السابق عن السريالية والعبثية لدى الشاعرة. ربما كانت قصيدة "استباق" تنتمي لهذا النمط حيث البداية مخالفة للمآل والنهاية، فتبدأ بـ:
يومها..
أخذتُ أرتحل بحقيبة ملابسي
وتنتهي بـ:
حتى وجدتُ نفسي
أقطع الطريق على ظهر الورقة الخلفي.. عائدة
بل إنها تدعوه للرحيل معها:
فنرتحل معاً
تمتلئ مقاطع قصيدتي "كل ليلة" و"في السياسة" بالمفارقات والسخرية اللاذعة، تقول في الأولى:
شياطين المساء
تستتر
بشراشف
الكشف
وهنا نمط آخر من أنماط المفارقة وهو التناقض. ونجد "في السياسة" قولها:
المستشار يحوم
ثم يشير
على وغد بسيط
بالحكمة
ونجد في "دروس القيظ" أكثر من مفارقة، مثلاً:
-*- يدٌ درّبتكَ مراراً على رصانة الاعتقاد، تستوي اليوم، جواربَ بهلوان مريض.
ونختم في حديثنا عن السخرية بالإشارة إلى "نظافة":
أعتذر لآل فلان
وابنهم البطل
وأمهم الطاهرة
لإني لم أزل أنفض غبار الطريق.. بيدي
ولم أستخدم آلاتهم الحادة
لنزع جلدي الذي تلوث
وكذلك نشير إلى "حكاية شعرة" التي اقتبسناها سابقاً.
ثنائية الحلم/ الواقع نلمسها في ثنايا المجموعة، فرغم الواقع البيّن في القصائد إلا أن الحلم حاضر بقوة. ونتذكر هنا القول الشعبي "فتى الأحلام" فلكل فتاة حبيباً فتى أحلام خاصاً بها، ربما تقول له كما تقول شاعرتنا في "رسالة إلى تموز":
(يكفي أن أتمناك ولا أجدك جواري
لأدرك أنك حقيقة)
ويستبد بالراوية الحلم إلى حد الموت فتقول في "يأس":
أن تموت من الحلم
أو تموت من اليقظة..
يعني أن تقتات حطام أمنية لم تعد لك
وإذا كان الحلم هنا هو القاتل، فهو في "دروس القيظ" مقتول:
-*- رفاتُ أحلامنا يرقدُ في الخزانة.. يبتلع العتة.
أحلامها هنا ماتت، بل وأحلامهم أيضاً. هنا حلم جمعي ربما بالتغيير والثورة على الأوضاع القائمة، وربما (وهنا تأويل سياسي) ماتت أحلامنا الفلسطينية في ظل التغيير والإصلاح الجديد الذي لم يأت بجديد. والسخرية لا تفارقها -كما قلنا سابقاً- حتى في الحلم في قولها في "حياة تشتعل برفق":
في أعقاب الحلم الرسمي..
بدأتْ دورة صباحية في النهوض
من رقاد سفر.. وفي اكتمال
وكأن ثمة حلم رسمي يقوده النظام الحاكم وآخر غير رسمي يملكه الفرد. هذا الحلم الرسمي هو ضال أيضاً مثل حلمها في "تعالن نلتف السكون بصخب":
وكنّ الحياة في غمار حقيقة كانت حلماً ضالاً
وثمة علاقة قوية بين الحلم والأسطورة، فربما أساطيرنا الأولى كانت أحلام. ولا مجال للشرح هنا فقد أغناه فرويد وعلماء التحليل النفسي خاصة تلميذه يونج، فأساطيرنا ما هي ربما سوى أحلام فردية أو جمعية. لذا ربما كانت الخرافة والأسطورة في قولها في "عقيدة":
في خرافتك أعيش الحقيقة
ولفرط أسطوريتك
أكاد أجزم أنك
غير موجود
هي حلم أيضاًَ من أحلامها. وهذا الحلم كما كان ضالاً أحياناً قد يكون وهماً أحياناً أخرى، مثل قولها في "إيمان":
مساحات العدم تنخر اللا أجسادنا
تثقب الوهم
إذا كانت الراوية كأنثى ناسوت أو أنثى لاهوت تجعل من الجسد محورها في كثير من القصائد فإنها لا تغفل جانبها الروحي، فثنائية الروح/ الجسد حاضرة أيضاً، تقول في "رسالة إلى تموز":
أبحر إلى ذاتي مع روحك
هنا عشق الروح الأبدي وليس الجسد الفاني، وحتى حين تخاف فقدان حبيبها لا تخاف من غياب جسده بل تقول في ذات القصيدة:
(أخشى أن تكون طيفاً عابراً)
إن ما يهمها هو طيفه وروحه أو حتى ذكراه النفسية. لكن سوداوية الشاعرة التي تبرز في أكثر من قصيدة تفرض نفسها في "إيمان" فتقول:
منطق الروح جاف
فحتى الروح الحارة التي نلجأ لها للهروب من العقل والمادة، أصبح لها ذات المنطق الجاف البارد.
شاعرتنا تنتمي للتجريب وما تحدثنا به حتى الآن يؤكد ذلك، لن سأركز على نقطتين. الأولى هي حبها للنحت والاشتقاق اللغوي كمفردات "اليحبوها"، "الأنارت"، "التجد"..إلخ في قصائد "تحليق"، "رسالة إلى تموز"، "تعالن نلتف السكون بصخب" على التوالي. النقطة الثانية هي علامات الترقيم اللامألوفة التي نجدها عند كثير من مجايليها الشباب وهي هنا: / و -*- وغيرها. وهي تعبير عن انطلاق التجريبيين لخلاصهم من قيود الترقيم كما تخلصوا من قيود الوزن والقافية.
التناص سواء ديني أو أدبي حاضر في المجموعة. النوع الأول الديني يظهر مثلاً أوضح ما يكون في "بيوت":
الكل في فلك يسبحون
تصيّرت الأعمدة تراباً
لا زال النفس ينفذ
بنعمة ربك فحدّث!
أما عن التناص الأسطوري -وهو جزء من الديني- فحاضر طبعاً في أسطورة تموز وعشتار التي استعارتها الشاعرة كما رأينا في قصائدها. أما التناص الأدبي فنجده في حديثها عن "كتاب الرمل" في قصيدة "بل مخطوطة" حيث أنه أحد عناوين قصص بورخيس الشهيرة. كما نجد في قولها حديثها عن حوار النهود في "مثلث الاثنتين" تذكيراً بإحدى قصائد نزار قباني. وربما نجد في قولها "تعبت من حمل الحقيبة" معارضة للحقيبة الدرويشية/ الوطن حين يقول: "وطني ليس حقيبة"، فحقيبتها فعلاً يبدو أنها وطنها البديل في رحلة هجرتها عن حبيبها.
أخيراً فعناوين القصائد تشي بمضمونها وليست مفصولة عنها، فعناوين مثل: "مكتبة"، "بل مخطوطة"..إلخ تدل على الافتتان بالمعرفة، وعناوين مثل "مثلث الاثنتين" و"تعالن نلتف السكون بصخب" تفضح مكنون قصائدها. وكما كان الماء رمزاً للخصب لدى الشعراء يظل لدى الشاعرة كذلك في قصيدتها "استسقاء" فهو خلاص لها، ولكن تأبى إلا السوداوية والعبثية فحتى هذا الماء تجده مالحاً في موضع آخر في قصيدتها "محيط"، وعناوين مثل "نزيف"، "بلاء"، "عطب أحمر"..إلخ تشي بالمعاناة الأنثوية المستمرة. والجو الديني حاضر في قصائد "إيمان"، "صلاة تهجد"، "عقيدة"، "أرصاد إلهية"..إلخ. وعنوان مثل "يأس" و"براثن التطيّر" يدل أيضاً على سوداوية تحدثنا عنها لكن الأمل نجده أيضاً في "اقتراف الأمل" وإن كانت تقترفه كجريمة. حتى البراءة التي قد نجدها مفقودة لدى الشاعرة ربما نلمحها في عنوان "أطأ عراءك بحذر" فهي هنا تخلع البراءة على عتبة مرحلة جديدة. وطبعاً لا ننسى الحب المتفشي في عناوين "نحن عزيزي" و"حبيبي الأول" و"رسالة إلى تموز" التي هي فعلاً قصيدة/ رسالة له."

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف