عالم الأدب

ضد التحريم!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد الله كرمون.من باريس: صدر فقط بداية هذا العام كتاب "تيريزا فيلسوفة" لدى دار فلاماريون في طبعة جديدة، محققة ومنقحة مع توطئة علمية هامة أنجزتها فلورونس لوتري من جامعة ستراسبورغ. لقد صدرت على طول السنوات الماضية طبعات أخرى لدى مختلف دور النشر مثال طبعتي الروائع الممنوعة سنة1979 وغاليمار فقط في 200. طبعة فلاماريون أعادت نشر الصور التي احتوتها طبعة باريس سنة 1785. إذ نشر الكتاب لأول مرة سنة 1748 بلييج وقد تعرض بعد ذلك لمنع وتعقب الشرطة وتم إفساد كثير من النسخ التي سقطت في أيديها آنذاك. ما لم يمنع "تيريزا فيلسوفة" مع ذلك من مقاومة عاديات الرقابة واستطاع بالتالي أن يجتاز مفعوله القرن الذي أطلق عليه بحق فما بعد بعصر الأنوار. إذ أن سنة ظهور الكتاب نفسها كانت سنة الفلسفة والاهتمام الايروسي بامتياز!.
الكتاب لم يحمل اسم كاتب ما على الغلاف، إذ لم يتأكد بعد كون نسبته إلى الماركيز بوير دارجين مفروغ من أمر صحتها، وإن كانت أغلب الدلائل ترجح ذلك. فالكتاب لم ينشر تحت اسم ما، ما ذهب بالكثيرين أن يزعموا كونه من كتب الماركيز دو ساد تارة أو ديدرو تارة أخرى، أو غيرهما، غير أن هذين مستبعدان عن شأن كتابتهما له. فإن كان ديدرو ليس يعلن إلحاده أمام الناس، فالماركيز دو ساد ينزع في فلسفته الايروسية منزعا آخر يختلف في الجوهر عما نجده في تيريزا هذه إضافة إلى كونه من كبار ملحدي القرن الثامن عشرة ومن أشد الذين انبروا بشدة لنشره كما نعلم جميعا.
لم يكن كتاب "تيريزا فيلسوفة" فريدا في طرازه بل جاء ضمن منشورات كثيرة تعالج في مجموعها نفس الموضوع مع تنويعات لها مبرراتها الذاتية المتعلقة بالموضوع ومن يقف خلفه. مثل جولييت دو ساد المعروفة وجيلي نيرسيا، الفيلسوفة هي أيضا. أمر آخر هو أن كتاب تيريزا مثلا قد استفاد من الكتب التي نشرت من قبله سواء أواخر القرن السابع عشرة أو بداية القرن الموالي.
ندرك جيدا الصعوبة التي تعتري قراءة كلاسيكيي القرون السالفة، سواء تعلق أمرها بكونها مكتوبة بالفرنسية القديمة، أو بتخلل نصوصها كلمات قديمة لم تعد تستعمل أو قد طرأ تغيير كبير على معانيها رغم احتفاظها على مبانيها القديمة. إضافة إلى ضرورة فهم كثير من التعابير التي تعوّد الناس على استعمالها آنذاك.
من فضائل الطبعة التي تنشر اليوم أيضا أنها استقت من نسخة متواجدة بالخزانة الوطنية بباريس تعود إلى القرن الثامن عشرة وتم تخطي ذلك بكتابتها ببناء لغوي حديث كما وضعت إحالات تشغل عدة صفحات توضح كثيرا من التعابير والكلمات القديمة، إضافة إلى إيراد ما تقتبسه الرواية من كتب سابقة أو ما تشترك فيها معها.
"تيريزا فيلسوفة" إذن أو مذكرات حول قصة الأب ديراغ والآنسة إيراديس، يقدمه كاتبه إلى القارئ وكأنه نص كتبته تيريزا تحت طلب عاشقها الكونت، وإن نجد معطى آخر وسط الكتاب تذكر فيه تيريزا أنها يلزمها أن تخط قبل أن تنساه لدى عودتها إلى غرفة النوم، ما جرى من مذاكرة فلسفية بين القس "ت" والسيدة "س" في حديقة بيت الأخيرة الريفي، إذ اختبأت ثمة في مكمن كي تعاين كل الذي يدور بين ذلك الرجل وتلك المرأة إذ أحست أن شيئا سريا يجري بينهما. قد لا يهم هذا الأمر لأن تيريزا إذن امرأة مثقفة تقرأ وتكتب ربما على الدوام وهذا الكتاب إذن هو ما يتيح ذكر قصة ديراغ وإيراديس ثم حكاية مانون بعد ذلك أي بوا لوريي.
الكتاب إذن يمزج بين أمرين: الفلسفة والايروسية وإن كانت الايروسية نفسها فلسفة قائمة. ما يعني خصوصا كون الكتاب يركز على نقاش منطقي نوعا حول الدين المسيحي أو الأديان بوجه عام ثم يعاود معالجة مؤاخذة الدين على ممارسة حرةٍ لايروسية طبيعية وعادية.
يجئ الحكي في أول الأمر ونجد فقط في آخر الكتاب حدوث لقاء تيريزا بالكونت الذي تحكي له عن إيراديس وغيرها.
صحيح أن تيريزا راحت في البداية تشهد على أهمية السعادة سعادة الفرد ذاته وسعادة الآخرين بعد ذلك. واللعنة كلها لمن يقف ضدها. تتساءل نفسها في البدء: "لماذا نخشى من كتابة حقائق مفيدة للمجتمع؟"
يطرح الكتاب إذن في تناوب موضوعاتي تنوعا في مضامين معينة تتعلق كما أسلفت بحديث أسئلة الجسد والجنس وضرورته وعن أمر الدين وهدف احتشاد تعاليمه بكثير من المنع ورصد حرمان الإنسان من متع الجنس التي ليس يرتاح العقل والبدن سوى بعد استفاء حقها وإشباع سغبها إذ قال كارل ماركس نفسه، في أمر استحضره من الذاكرة، أن الجنس جوع لكن ليس يمكن إشباعه ماعدا بحضور كائن إنساني!
بغض النظر عن جعل شخوص تنتمي إلى عالم الكنيسة والمجال الديني، فإنها أيضا شخوص، خاصة الأب "ت"، تمتلك فلسفة متنورة عن الدين وعن كون رغبات الإنسان ليست تتعارض مع أساس الأمر الإلهي أو حتى أنها لو تعارضت معه فإن ذلك ليس يمنع ممارستها، بشرط استحضار كثير من الحرص والحذر اللازم عدم إغفالهما. زيادة، وهذا هو الأكثر أهمية، عن عدم إظهار حقيقة إمكان وصحة ذلك لكل العامة والدهماء، من ليسوا في نظر حكمة الكتاب، أهلا لمعرفة الحقيقة كلها، سواء لكونها قد لن تفهم أولا أو لكون هؤلاء قد يستغلون كون وجودها واستباحها لأمور كي تحدث فوضى هائلة. ما نجد من قبل أيضا لدى فلاسفة اليونان وفلاسفة العرب أنفسهم، وغيرهم. من هنا أيضا اختلاف فكرة الكتاب عن جوهر الفكر الذي ناهض دو ساد من أجله كل العالم وخبر بسبب ذلك أفظع سجون فرنسا إذ ذاك.
ودون إسهاب غير ذي بال، نشير أيضا كيف جاءت في كل الذي نقلت إلينا تيريزا، كون فكرة التساؤل حول كون الإنسان مخيرا أم مسيرا؟ قد مازجت نفسها فلسفتها، وتضاربت الأفكار حول كون أفعالنا متأتية من اختيار أو من إجبار مصدره القدر. يعرف الجميع كيف دارت نقاشات مفكري الإسلام القدامى حول نفس الفكرة وكيف خلص أكثرهم إلى استنتاج أن يكون الله ليس يدعو إلى الشر وليس يمليه على الناس أبدا!
فإذا كان الدين يرغب في سعادة الإنسان على الأرض فكيف يرفض للإنسان تمتعاً بملذاته؟
هذا الدين إذا بهذا الوجه يجعلنا نتأكد، كما جاء في الكتاب، أن هذه الأديان والكتب التي نقول عن نفسها كونها سماوية ليست سوى من صنع الإنسان، مادام الله الذي نسبغ عليه كثيرا من الطيبوبة ليس يقدر على كل الشر المسطر فيها! مثلما كانت فكرة شديد القدرة ضحلة قدام مكر الشيطان به!
مع ذلك فإن كتاب تيريزا لا يعلن أي إلحاد وإن شارف نقدا ما لبنية الدين. كما أن كل ما روت تيريزا أو صديقتها بوا لوريي من لوحات إيروسية صارخة، بما فيها مشاهد من استمناء ومن جماع مثليي، لا تذهب فيه مثل ساد إلى أقصاه بل راعت فيه مع ذلك كثيرا من الحذر والحيطة بفضل بلاغة لا تبدي كل شيء بقدر ما تلمح فقط.
فلنشدد إذن مع فلورونس لوتري في الأخير حول خاتمة ذكرت فيها هولباش صاحب "نظام الطبيعة" حوالي سنة 1770، إذ قال: "فلنعمَد إذن أن نزيح عن الإنسان الضباب الذي يمنعه من السير في طريق الحياة بخطو واثق!"

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف