عالم الأدب

الذكرى الـ50 لتأسيس شعر اللبنانية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

على عكس جل المجلات الأدبية التي سبقتها (مجلات نادت بتجديد للشعر وفق بوصلة التحولات السياسية أو الجمالية المنعزلة)، تميزت مجلة "شعر" بقدرتها على إدخال مفهوم التساؤل في صلب العملية الشعرية التي يختبرها الشاعر الحديث. فإذا كانت مجلة "ابوللو" تنادي بالتجديد، فإن ما كان يدور في خلدها هو الاستمرارية التراثية بتنويعات إيقاعية مستحدثة من صلب المعطيات الوزنية المتوفرة، ومجلة "الآداب" لم يكن لها هدف سوى جعل حركة "الشعر الحر" (شعر التفعيلة) وانتصاراتها الشكلية وبالتالي كل شظايا

خميس "شعر" الأسبوعي

المحاولات التجديدية التي كانت تلتمع هنا وهناك، تعبيرا شعريا للغليان السياسي الذي كانت تعيشه المنطقة، وللرغبة في الاستقلال الوطني، فإن مجلة "شعر" تعتبر أول مجلة ادخلت مفهوم "الحداثة" بنبذها الرومانسية التي كان الشعر العربي بكل تياراته غارقا في مياهها... وبالتالي أعادت الاعتبار إلى الشعر كموقف من العالم مستقل بذاته، واضعة العملية الشعرية بوجه ما كانت تريد مجلة "الآداب" تعميمه: تسييس الشعر.
وما الحرب الباردة التي كانت سائدة سوى عامل مساعد على تغذية هذا الشعور السياسي الهدف أولا والشعري التعبير ثانيا. والحرب هذه كانت تغذي نزعات التجديد الشعري بمقاربات متعارضة إزاء الفعل الشعري.. حد أنها (الحرب الباردة) ولّدت، بل قوقَعَت، تيارا رجعيا (مجلة "الشعر" المصرية) أخذ يعتبر عدوا للقيم الشعرية المتوارثة وبالتالي تهديدا للوجود العربي نفسه، كلَّ ما كان يتنامي في تلك الظروف من محاولات شعرية يسمى "شعرا حرا". بل اعتبر هذا التيار أعداءً حتى الذين هم في قرارة أنفسهم أكثر محافظة من أقطاب هذا التيار على التراث والوجود العربي كنازك الملائكة وعبد المعطي حجازي.
لو راجعنا نشريات تلك السنوات من مجاميع شعرية أو كتب نقدية أو عروض في مجلات، لوجدنا كلها تدور في حلقة مفرغة: قضية الشكل بمعزل عن المضمون.
في ظل هذا المعمعان من القول الشعري المتفتح على تحرر شكلي جديد من البناء الشعري، ومن المضمون المعبر عن الانتماء الإديولوجي للشاعر، شهد المشهد الشعري أيضا صعود أصوات شعرية متهربة من أي انتماء سياسي واضح، بل لنقل غير منتمية بالمعنى الذي طرحه كولن ويلسن في كتابه اللامنتمي؛ أصوات شعرية (توفيق صايغ، جبرا ايراهيم جبرا... الخ) كان غرضها صياغة مضامين شعرية جديدة من خلال التحرر الشكلي من الوزن. لكن كان عليها أن تنتظر هذه التجارب الشعرية الليبرالية، مجيء شاعر اسمه يوسف الخال لإحداث الأزمة التي تثير التساؤل النقدي حول مفهوم الشعر بشكل عام، وبالتالي ترغم كل شاعر على أن يحدد رأيه على نحو واضح من كل القضية الشعرية..
ففي محاضرته التي القاها في "محاضرات الندوة اللبنانية" بأشهر قبل صدور العدد الأول من المجلة، وضح يوسف الخال بأنه يجب: "تطوير الإيقاع الشعري العربي وصقله على ضوء المضامين الجديدة. فليس للأوزان التقليدية أية قداسة." ذلك أن المضمون هو الذي يخلق الشكل المناسب له؛ فالشاعر هو الذي يعطي ما لا شكل له شكلا... وعلى هذه الصخرة التحررية، تم تشييد مجلة "شعر" لفتح نوافذ التعبير الذاتي على آفاق جديدة من القول الشعري والوقوف وجها لوجه مع التيار الايديولوجي لشعر التفعيلة. وخير تلميح نقدي وجهته مجلة "شعر" لشعراء التفعيلة للخروج من اللغة الإيديولوجية هو قصيدة "ميت في بلد السلامة" لأحد شعراء التفعيلة الطالعين آنذاك سعدي يوسف. فقصيدة سعدي يوسف المستوحاة من حادث حقيقي في الجنوب العراقي، نقلت تجربة حياتية نقلا جعلت من هذا الحادث موقفا سياسيا دون أية إشارة إيديولوجية. واختيار الخال لها لتكون فاتحة العدد الأول من المجلة، لم يكن اعتباطيا، بل كان إشارة لحركة شعرية جديدة، ويلبي هذا الاختيار البند الأول لمحاضرته في الندوة اللبنانية: "التعبير عن التجربة الحياتية على حقيقتها كما يعيها الشاعر بجميع كيانه/ أي بعقله وقلبه معا." وقصيدة سعدي يوسف فذة ورائدة في هذا الكتابة الشعرية وصلت ذروتها في ديوانه "قصائد مرئية" وتعثرت فيما بعد.. كما فضل الخال نشر مقطع نقدي بقلم ارشيبالد ماكليش مترجم عن الانجليزية، ليكون أشبه ببيان المجلة الشعري، يؤكد فيه أن الشعر هو فعل سياسي بحوهره وليس بحاجة إلى أن يخضع إلى خطاب سياسي ما... وهذا ما لم يكن في حسبان معظم النقاد والشعراء المتصارعين حول مسيرة "الشعر الجديد" آنذاك...

ويوسف الخال الذي عاش في أمريكا واطلع على تطورات "الشعر (بمعنى النظم) الحر" Free Verse كان متفتحا لكل تجربة شعرية جديدة وواعيا إلى أن التحرر الشكلي الذي قامت به حركة "الشعر الحر" العربية، سيؤدي في نهاية الأمر إلى شعر حر خال حتى من الأوزان، كما حصل للشعر الحر الأوروبي والأمريكي.. فها هو شاعر جديد اسمه محمد الماغوط الذي عاين عن كثب لغة الواقع البوهيمية بكل تشردها ومتاهتها في شوارع العيش الخلفية، مأخوذا بتدفق الصور وتدفق المعاني بأوزانها الخاصة، دون أن يستذكر العروض والتفعيلات أو يلبي التزاماتها.. يكتب شعرا حرا وليس قصيدة نثر كما يتصور معظم النقاد... وها هو شاعر شاب آخر أسمه أنسي الحاج المتطلع إلى تكسير النحو العربي وتوتير المفردات العربية لكي تتنفس العربية شعرا جديدا أقرب إلى قصيدة النثر والشعر الخالي من الأوزان، وأخذ على عاتقه مساءلة نقدية تكسيرية لما كان يصدر من دواوين شعرية إيديولوجية. ... وسرعان ما هجر شوقي ابو شقرا الوزن ليعبث بالجُمل والتراكيب من أجل شعر يخرج من صلب اللغة المستعملة، إذ حصان العائلة بحاجة إلى ماء.. أما أدونيس، فكان كعادته يلعب دور المنظر المتلهف إلى احتواء كل ما يظهر من تنظير جديد... وهناك عشرات من رفاق الطريق شعرا ونقدا. في نفس المحاضرة، طالب يوسف الخال أيضا الشعراء بأن يعوا "التراث الروحي - العقلي العربي، وفهمه على حقيقته وإعلان هذه الحقيقة كما هي، دون ما خوف أو مسايرة أو تردد... وبالتالي الغوص إلى أعماق التراث الروحي - العقلي الأوروبي، وفهمه وكونه، والإبداع فيه."

في الحقيقة أن مجموعة "شعر" وعت التراث وبينت خلله وعدم صلاحيته في مواكبة روح العصر، وعيا جريئا سيجعلهم في عزلة وموضع شبهة في نظر السلطة الأدبية آنذاك، والوعي هذا تجلى ليس فقط في مقالات ونقد ونماذج شعرية شاذة من وجهة نظر النحو العربي، بل خصوصا بالغوص في أعماق التراث الأوروبي وترجمته.
وإذا تعودنا من المجلات على قراءة ترجمات لتراث أوروبي لم يعد له مفعولية، فإن مجلة "شعر" كانت تقدم لنا ترجمات تواكب آخر التجارب الشعرية العالمية.. وتضعنا في مرآة هذه التجارب.. والأخطر بأسلوب كان بحد ذاته محرضا على كتابة شعرية جديدة. وكما قلت سابقا ولا زلت أؤمن بأن الشعر العربي المعاصر مدين إلى ما تراءى من نماذج عبر ترجمات مجلة "شعر" أكثر مما هو مدين للإنتاج الأدبي العربي الحديث نفسه! فمن خلال ترجمات "شعر"، برز أمام الشعراء الشباب syntax تركيب جديد للجملة الشعرية لم يُعهد من قبل.. إن ما يعتبره السلفيون بشتى تجلياتهم، عربية مكسّرة، وجمل لاعلاقة لها بالبناء الكلاسيكي للجملة العربية، كان هو الشعر عينه الذي لا يزال يلهم عشرات الشعراء والشاعرات الجدد اليوم...

لكن... نعم لكن،
يبدو أنه في غمرة التجريب والدخول في معمعان النقاش مع شرطة مجتمع متحجر في تراثيته، لم يكن هناك متسع أمامهم لتوضيح عدد من المفاهيم وبالأخص مفهوم قصيدة النثر الأوروبية ومفهوم الشعر الحر. يا تُرى، ماذا كان حدث للكتابة العربية الجديدة، لو خصصت مجلة "شعر" عددا كاملا لنماذج قصيدة النثر الفرنسية، مثلا، وعلى نحو مدرسي!
ومع هذا فإني أستطيع القول أن هناك شعرا قبل "شعر" وشعرا ما بعد "شعر". وإن رغبة يوسف الخال العميقة في أنه من الضروري أن تكون حديثا دائما للمرة الأولى، ستكون هي ما يتبقى من مشروع "شعر" ساريَ المفعول... وإن العربية فقدت الطاقة الإبداعية التي كان يمدها الآخر، المسيحي اللبناني عندما كان يتنفس في هواء العربية الطلق، لاتحاصره خفافيش الظلام كما اليوم... نعم لا يمكن الاحتفال بالعيد الخمسيني لهذه المغامرة الشعرية، دون الانحناء للآخر المسيحي اللبناني الذي لولاه لما كان تغيّر الشعر العربي إلى قصيدة مفتوحة للجميع. (عن "ملحق النهار الثقافي" المخصص للذكرى الخمسينية لتأسيس مجلة "شعر"/ الاثنين 11 شباط 2007)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف