حكاية عن الشاعر حيدر صالح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حكايات من الدفتر الشخصي:
إن لم يكن حيدر صالح شاعراً،
فليكن إذن مجنوناً وملعوناً
ولنكن نحن التائهين بغربتنا سلواه.
ذهب صوب الفرات وبقى هناك حتى غرق النهار!
عام ونصف العام على خروجي من سجن رقم واحد في معسكر الرشيد ببغداد، المليء بالقمل والديدان وأقبيته الخاصة لخنق الهواء وحراسه السفلة، عام 1972ـ1973، حينما لمحته صدفة أمامي كأنه قمر يستهل للاستحمام بنهارات بغداد المضنية، الشعر أشعث بسواده، والعيون جنوبية متكحلة بحفيف سعف النخيل.. من جاء به يا ترى مع مدينته، مدينة الخير واللعنات "الشطرة" ؟ هكذا، لينزوي في مقهى "أم كلثوم" في شارع الرشيد قرب سوق "الهرج" في حي الميدان، في زحم ضوضائه وصياح باعته وسبله المغمسة بروائح الشرق والقمصان الغربية وبنطلونات الجارلس العريضة الضيقة المثقبة الرطبة، الخوذ والفانلات الإنكليزية والبطاريات وروائح الفلافل الهندية مخلوطة بالسراويل الكردية. خليط عجيب من عرق الكادحين، واللصوص واللوطيين وبائعي الهريسة والباجة وشاي الدارسين، وبؤس الحفاة والرجال الفاشلين.
لم يكن سُهيل صبياً يزرع كواكب من الجمر فوق شرفة نهار خبأها عمداً عن سماء ذاك العراق، وقد استمات يصارع مع قدره العراقي ضد فصول جحيم العبث، من أجل أن لا ي
صورة من ذاك الزمان، تجمع من اليمين: بائع سجائر مجهول [الطفل بالصورة]،
عبد الحسن [الملتحي]، صلاح الحمداني [المعطف الأسود]، عصام [صاحب القبعة]
، رزاق [صاحب القلم والشعر المرتب]، سُهيل [حيدر صالح [يقرأ]،
حسون [ينظر بعين الكاميرا] وأخيرا سمير [الهادئ]..
التقطت هذه الصورة في كازينو البشائر في شارع الرشيد، ساحة الرصافي في بغداد،
في تأريخ 1972ـ1973 [حسبما أتذكر
لقد رأيت كيف تتسكع نفسه المدن، وتغلف روحه عتمة سموات هذه المدن الخالية من الرأفة.. في ماضيه الذي أجهله كان مشردا، وبالأمس تعرفت عليه مشرداً، ومنذ آخر لقاء جمعنا في شوارع بغداد، كان يحفظ الشعر ويلتهم الكتب. أما اليوم فأني أصارع مع ذاكرة الجمر وأقصى نهاراتي كي لا أصبح فزاعة لفصول بلا رائحة، ولكي لا يرتدني قبر الشعراء الأحياء. من هو يا ترى الذي سيعينني بالتغلب على الآخر، أو يجعلني أفهم تمرده، أنا الرافض لاستقبال مقابر المنفى ؟
لم يمسك يوما ما بحقيبة إلا وشعر وكأنه مسافر على عجل، ناسياً هموم نهاراته الرتيبة، وحمم براكين شباب حياته الماضية، التي تموء الآن في داخلي، معزولة، مثل امرأة عجوز تسحقها الأقدام وسط فزع أناس يتشتتون أمام شاحنات جنود يطلقون النار عشوائيا على المتراكضين. أما المكان والزمان والاتجاه فلم يكن أبداً شاغله، ولم يكن هما من هموم تجواله الذي ملأ كياني دون رغبة بذلك. لم يمض وقت طويل على حضوره في حياة هذه المدينة، التي تبنته هو وأشياؤه وأسماله ونزعاته، ومرات عصبيته الثائرة المتهورة، لم لا، وهو الشاعر المتمرد، الملعون.. وهو كذلك، المرء الذي تراه بوضوح حين لا تجد أحدا يأخذ بيدك وقت الشدة، من أوائل المبادرين في مساعدة من لا سكن له، أو من يحمل وطنه بحقيبة، وتحسه رغم تيهه الشخصي، ينشغل فجأة ويعرق، ومرات تجده يقف ساعات طوال لا على التعيين، محتاراً، وكأنه نخلة أضاعت دربها وسط حقائب المسافرين وأوطانهم، منتظراً قدوم قطار ما، دامعاً وكأنه سيفارق أصحاب الصبا والشباب من جديد.
أسمه الحقيقي الذي عرفته في بغداد هو "سُهيل"، ولكنهم اليوم وفي باريس أسمعوني غير ذلك! إذن ليكن الشاعر [حيدر صالح] المجنون، المعتوه كما يقولون! فلا الموت يجهل ضحيته ولا الشعر ينطفئ!
لقد كان حيدر قبل أن يغادرنا، شبيها بقطط السطوح البغدادية، باغتته المنية، ربما، ونحن لم نزل نخطئ الإصابة، ونجهل سبل الخلاص، نراوغ الموت، نخدعه ونكشر بوجهه، نتنفس كما نستطيع، منكفئين بمرايانا كما تغطس الأسماك متعجلة بالخلاص من هواء البشر المتلوث.
هل كان سُهيل رقماً مثلنا ؟ لم لا، ولا أعتقد ذلك، فنحن لم نكن ولا زلنا، سوى عقلاء، رغم بحثنا المضني عن الجنون! تجمعنا طامة كبرى، أكبر من حجمنا كما يبدو، إلا وهي الحياة بكل سذاجتها وبساطتها، ولكي نفلح ولو بشيء بسيط من هذه الحياة، وجب علينا التمرد على ما كان وعلى ما هو سائد اليوم، وربما التمرد على الغد، وسوف لن تنشف أرواحنا حتى الرمق الأخير من المطالبة بالحياة، نحن العقلانيون نحب الحياة. من منا كان جاداً في تبني هذه الرؤيا ومن منا كان صعلوكاً مقلداً لا أكثر ؟ بكل الأحوال لم يكن أولئك "الكبار"، المسيطرين على أبواب جنائن الأدب بنذالتهم، منصفين بحقنا، نحن أوائل المضحين بأحلام شبابنا، قبل أن نضحي بعقولنا ومدركاتنا لحياة أفضل، حياة أفضل للجميع دون استثناء، هذا ما كنا نتوخاه من تضحياتنا.
حين أقول "الكبار"، أقصد التوفيقيين، المتهادنين مع تقاليد مجتمعاتنا العربية المتخلفة، أولئك المتواطئين ولا يزالوا بوجوههم البائسة وأفكارهم المرسخة، يماشون ما تمليه عليهم السلطات، رغم المقابر الجماعية والحروب، نجدهم أحياء بلا منازع، دوما رافعين رايات معاركهم الخاسرة، ونياشينهم المبتذلة، وهم رغم أنوف الأجيال المضحية، مصرين رغم جبنهم على أن يكونوا البديل الأوحد لمستقبل الأمة الثقافي.
أن القيل والقال التي كانت ولا زالت تلوكها الألسنة ضد حرية الشباب، لا تصلح اليوم أن تكتب أو تخط على واجهة باب دكان للأدب المستهلك، والفكر الثوري المزيف.. فمن كان متمرداً في العراق لا يزال متمرداً، وحتى منهم من حمل الفأس وساهم فعلا في تحطيم محصنات النظام الصدامي الفاشي في العراق.. أما من كان يدعي الثورية والتطور لنكتشفه اليوم متحسرا على مجرم مثل صدام، لا يدري أين يعط بوجهه من أجل كسب الجائزة الأولى من ناس مغمسة أياديهم بدم الأبرياء من أهلنا في العراق، فسأترك له مرآة التأريخ ليتمرغ بها وهو سكران بعجزه! وإلى الجحيم!
كان سُهيل وسيم الطلعة، متوسط الطول ولكن دائما يبدو عليه أنه صغير السن ومجنونا.. لا أقصد أنه كان خبل العقل أبداً، بل كان كما أتذكره سريع البديهة والفكرة، شرس الطباع، ذكي في الحوار ومشدات الاختلاف مع الآخر.. ضحكته العريضة كانت خير دليل على ذلك.. كنا نتقاسم "الصمون" والشاي في مقاهي شارع الرشيد، وصولاً إلى مقهى "المعقدين" في الباب الشرقي، وحين عرف أني شاد الرحال إلى أوربا، ولكن ينقصني شاهدا يكفلني كما نص عليه قانون السفر العراقي، أخذني بصحبته إلى مدينة "الشطرة"، مسقط رأسه [كما يبدو] للبحث عن الحل! ليلة كاملة وأجسادنا ترتج في شاحنة كبيرة لنقل ركاب أهل الجنوب البسطاء، متروكين مع الدجاج والغنم والعجاج، بينما رأسه يتكئ على قلبي!
رغم فارق العمر بيننا، وصغر سنه، كان ينصحني بأن لا أهاب شرطة الشطرة، الشرطة التي قبضت علينا متسكعين تحت العربات مع عتمة الليل: ـ قل لهم بأنك قومي، وإنك تحترم أحمد حسن البكر [رئيس الجمهورية آنذاك]، وإذا تتمكن فأقرأ لهم أي شيء يمجد رئيسهم الكلب! أكذب عليهم! كان قلقاً عليّ ويعرف بأني سأتصادم معهم لو أهانونني، لإدراكه أن من كان معتقلا سياسيا مثلي عنيد الطباع، وهو عرضة للنباح وعضات كلاب الدولة الفاشية.. كان شجاعاً وأكثر مني تفنناً في التملص من براثين أسئلة الشرطة:
ـ سيدي هذا شاعر قومي كبير، ويحب أحمد حسن البكر! فضحكوا منا وأطلقوا سراحنا..
لم يتمكن من الحصول على كفيل وشاهد ليّ رغم اتصالاته الكثيرة ومعارفه بالشطرة!
افترقنا بعد أشهر.. ثم سافرت.. وبعدها جفت ساقية التلاحم، وافترقنا، كل منا مصلوباً بمصيره.. ثم عشت أعوام الفراق على باب وجودي في فرنسا.. وفي ليلة من الليالي رن الهاتف وكان المتحدث الشاعر عبد القادر الجنابي، الذي تربطني به علاقات فكرية وأدبية وإنسانية، لا زلت رغم خشونة طباعه، أحتفظ بها للآن في أعماق الروح.. أخبرني الجنابي وكان متوتر النبرات، منزعجاً:
ـ الشاعر حيدر صالح موجود بداري، وقد أخبرني بأنه يعرفك من العراق، لكنه وصل عندي وكأنه مخدر دون ان يدري من قبل آخرين جاؤوا به الي.. يتصرف بشكل فج ويبول من شرفتي مما مسكته وسحبته الى خارج الشقة وأغلقت الباب بوجهه، لأنه يحمل سكينا ويهدد ويصيح ويشتم، وقد أفاق جميع نزلاء العمارة!
أخبرت الجنابي بأني لا أستطيع المجيء إليه في الحال، فالوقت متأخر والدنيا ليل، فأعطاني موعدا على اليوم التالي من بعد الظهر، مؤكدا ليّ بأنه سيكون بصحبة حيدر في مقهى كان الجنابي معتاد الجلوس فيها، وهي على بعد مسافة قصيرة من المدخل الرئيسي لجامعة السوربون.
كانت الطاولات والكراسي متناثرة، والزبائن مزدحمين كالمعتاد في الأيام المشمسة أمام السوربون، الجو صيف.. جئت بصحبة الصديق القديم جواد بشارة، وقف حيدر ـ سُهيل ليستقبلني، احتضنني وأجهش بالبكاء.. لم تمض سوى بعض دقائق على جلوسنا، وإذا به يشتم الجنابي مازحا! ثم التفت نحوي ليشتمني وهو يضحك: ـ جبان، برجوازي!
الغريب في الأمر أني لم أعرف سُهيل شاعراً، أعني منتجا ومبدعا وكاتبا للشعر، أعرف أنه كان يحفظ الشعر العراقي والعالمي، ويؤذنه بصوت مسموع، [هل ما كان يردده طوال الليل والنهار من جمل وكلمات شعر وفلسفة تعود إليه ؟! ربما.. لمَ لا .. يا إلهي، كيف حدث كل هذا؟]
بمرور الزمن، أخذنا نلتقي بين الحين والحين الآخر، وكلما التقينا كان ينظف جيوبي ببراعة، ويأخذ ما أملكه كدليل أخوي على علاقتنا القديمة في العراق.. أتذكر مرة من المرات، اضطررنا أنا وصديقي جواد بشارة في جلب فراش نوم كامل له في وقت متأخر من ليالي الصيف لكي يرقد في ساحة [Nation ناسيون]، الكبيرة في وسط باريس لأنه لا يفضل النوم تحت سقف منزل.. ليختفي من جديد.. بعدها، سمعنا أنه باع الفراش وما عليه.. التقينا بعدها مرات عديدة، ولقاءات حسب الصدف في شوارع وضواحي باريس. سمعت منه، أنه كان متزوجا في بيروت وله بنت صغيرة، وأيضاً سمعت أنه كان يتعاطى المخدرات بصحبة بعض الجزائريين والمهربين في باريس، وعرفت أنه ذهب يوما إلى السفارة العراقية آنذاك، وكان مدمي ومشوه الوجه، حليق الرأس، للطلب من موظفيها إرجاعه إلى العراق!؟
ما هي صحة هذه الأقاويل والأخبار.. لا أدري!؟
الذي أعرفه... لا .. لا أدري، ولا زلت لا أعرفه!
ـ على المنفي أن لا يكون دونياً!
هكذا كان يصرح، ممسكا بزمام أعصابه وجسده الذي يهتز جراء سعاله الحاد، وكأنه تحول إلى سائس يمسك رقبة فرس تصهل وسط زحام الناس وأبواق السيارات، ويضيف بعد أن يشعر في أن جميع أبواب المصارحة قد أغلقت، وأن ليس هناك من منفذ يمكنه أن يطل منه على مسامع هؤلاء الذين لا يهتز لهم ضمير، أمام أوجاعه التي نخرت قواه ونبضات فؤاده التعبان، فيضطر على تكملة جملته، ولكن هذه المرة بهدوء لا يطاق:
ـ لأن الدونية هي عاهة قبل أن تكون سمات العهر بامتياز، لا يمتلكها ويغذيها لكي تزهر في رحم البشرية، سوى من هو سبباً في مأساتنا ومصائبنا جميعاً.. [هكذا كان ممكنا أن يقول، أو هكذا أريد أنا أن أقول اليوم عوضاً عنه]
كان يقضي معظم أوقاته وهو يطارد الناس بنظراته، منشغلا بخلق وترتيب حوادث وتصورات خيالية، لكي يرتب منها قصة مصطنعة سريعة، تناسب أحد المارة الخاطفين أمامه، من الذين يجد في هيئتهم أو حركاتهم عوالم غير مألوفة، تثير عنده الرغبة بالرحيل في دهاليز خياله المطلق، إلى الحد الذي يجعل من الآخرين بالاعتقاد بما يقوله تماماً، ويصدقون على ما ينسقه ويبنيه من تصور، لناس مجهولين، مروا هكذا لا على التعين من هنا، من هناك، منذ لحظات أو منذ سنين، عابرين الشوارع، أو عبارين لقبور حياتهم.
ذات يوم التقيت به جالساً في مقهى يرتادها عادة بعض العراقيين المخضرمين في حي باريس اللاتينى. وبعد التحية دعيت نفسي إلى شرب القهوة، فقبل الدعوة.. جلسنا نتبادل أطراف الحديث متسائلين عن أحوالنا وعن ذكرياتنا وأوضاع العراق والعراقيين وبيروت.. وكما أعتدت على طباعه، لم تمض دقائق وإذا به يوطئ صوته، ويبدأ يحدث نفسه همساً، كأنه لا يرغب بـإسماعي وإسماع من كانوا يحيطوننا بما كان يفكر.. رفعت رأسي، لأراه واقفا فجأة، ثم مضى إلى سبيله.. فهمت حينها لماذا انطفأ صوته، ولماذا كان قلبي يرتجف من عطبه عليه، وقد نسيت حركة الشارع ووجود الناس.. فهو يعرف كل شيء عن الترحال والسفر وإرهاق أعوام حرب لبنان الأهلية، ويعرف أيضاً المدن الجائعة، وشعوبها العارية، وذلك من دون أن يجهد نفسه في متابعة أخبار تلك الشعوب.
بعد أسابيع، رأيته يتحرك ويتنقل بجسده من مكان إلى مكان، يسكن في مقهى مقابل محطة كبيرة في مدينة باريس المحتشدة بالخريف آنذاك، والتي تحصن سكانها ومنذ زمن بعيد بالأعلام والرايات والثقافات والانتصارات والأمراض النفسية وجنون تاريخ العظمة المحقة.
منذ فترة طويلة والكتب التي [يؤممها] كما كان يصرح الجنابي عن تأميمه لكتب المكتبات، أو تلك التي يستعيرها من بعض أصحاب المكتبات العربية، قد أخذت تتراكم فوق جسده وتحت الكراسي، وفي زوايا غرف أصحاب الصدفة المؤقتة.. تلك الكتب المحزمة في أكياس البلاستيك، التي يعبئها عادة مع قناني النبيذ والبيرة، وعلب الساردين والبصل والجبن والخبز، تلك الكتب التي يتركها محطوطة في زوايا مطبخ غرفة صديق ليلة واحدة، من أجل النوم، أو تلك المخزونة في الغرف الصغيرة، التي تقع في أحياء تبعد عن العاصمة باريس، أعوام لا تحصى بأصابع الخيال.
لم أستغرب أبداً في أن يحدث ما حدث له! فسُهيل كان يقضي معظم أوقاته في صحبة "أصدقاء" كان يختارهم هكذا لا على التعيين، من المقاهي والبارات أو في الحدائق العامة.. كان محبوباً رغم قسوة لسانه، ومرحاً رغم حقارة الزمن، وخجولاً أيضا، في التلميح إلى حكايته وغربته، وفقط الإشارة إلى ماضيه، يجعله يصاب بالغثيان المدمر.. طفلته في بيروت، أم حبيبته الغائبة ؟ العراق أم الشعر ؟
كيف يجري عادة ترتيب الأحداث، حين نكون جسد واحد مع الفراغ ؟!
لم يأخذ حيدر صالح، خلي سُهيل الشاعر، لم يأخذ أشياءه معه، ولا حتى أشياءنا، نحن الشعراء، أصحاب السوء، فذهب إلى حيث الفرات كما يبدو، وبقي هناك إلى أن غرق بصحبة النهار!
لم يكن ينتظر منا أكثر من ذلك، ولم يفعل سوى العيش محصنا بيقينه الذاتي من عبث الحياة، وازدرائه المستفحل بمن كان يحاول ترقيع أو تلميع ملامح هذا العبث.. أشعل البخور وحرق في جمر الانتظار ظلال الرمال، رحل بعيدا عن نفاق الشعراء ليضع فوق رأسه الطين، كما فعلت جدتي، حينما كبل القتلة البعثيين ولدها الكبير أمام أنظارها، وأطلقوا النار في رأسه، وتكالبوا يركلون جثته إلى أن انحدرت لتستقر في البستان.
دفن حكاياتنا المشتركة وحكايات الجميع في مقبرة مركبه الذي لا يزال ينتظر الخلاص، وغطاه بالصدف والنجوم المحتضرة المتناثرة على شاطئ ريبته، صارخاً بكل قواه: ـ أنا وحيد أيتها الآلهة في منازلة العزاء!
لم يستجد سُهيل من السموات أن تكون هادئة مع الطبيعة، ولا من الغيوم أن تروي فسحة تربته الجرداء.. أستنزفه زمنه القصير، بين الحروب والبحث عن الحلم الضائع، وربما راح ضحية بحثه عن عالم الخلاص من النفاق والثقافة العربية التي ما زلنا نرثيها، وربما مغادرته لنا دون وداع، هكذا بين ليلة وضحاها، لأنه لم يصح على ضياعه فينا ولم يجد ذاته.. فلت منا الملعون، يا لسوء طالعنا وثقافتنا، توارى، بينما كنا نتمر في غربته متمرسين في اللامبالاة على أنفسنا فيه.. غاص حيدر صالح فينا إلى أن تلاشت آدميته بأعوام التشرد، وفصول العزلة.. لم يسأل الريح عن الذي يؤلب العاصفة، ولم يسخر من النجوم والنسيم، لأنه أقسم على كتم الأسرار وحكايات المجانين، مات لأننا لم نصلح أن نكون أهلا له، ولكنه حرض حاجته للتمرد على ربّ الصامتين لكي ينهش عظامهم، بينما هم يسكنون غصتهم.
ضحك كثيراً ولوقت طويل، غاسلاً دموعه بزرقة البحر، وراقصاً لضياع الغسق.. وضع كل عذاباته وأمتعته في صرّة من الاحتجاجات، ورحل ظمأً من حيث أتى.. لم يتوضأ، لم يصل، ولكنه لم يترك من أغتال فجره مرتاح البال.. تحول إلى غيمه من الحجر، سيمطر علينا حجراً.. سينتقم من مرايانا ونعاسنا ومن صباحاتنا، التي نرتشف فيها قهوة دافئة، ونحن ننظر ما فعله سُهيل ـ حيدر صالح من شعر مشعوذ، في أهداب تأريخنا المعاصر الأعمى، ويسخر من ما فعلناه نحن من خطيئة وخراب في حياته، وفي طفولة عراقية بريئة، ستبقى متدلية في قدر مجهول، هو الآخر يتأرجح دوما في الفراغ.
كتب عام 1995 في باريس... أنشره اليوم، كشهادة شخصية بعد أن أجريت عليه جملة من التغييرات.
[سُهَيلٌ]: نجم، قيل: عند طلوعه تنضج الفواكه وينقضي القيظ، وهو من النجوم اليمانية. وفي المثل: "إذا طلع سُهيل، رُفِع كيلٌ ووُضع كيل". يضرب في تبدُّل الأحكام. [هكذا جاء في المعجم الوسيط]