رواية ترسم ملامح المشهد المصري الأخير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
خالد عزب من الاسكندرية: صدر مؤخرا عن دار ميريت للنشر كتاب جديد بعنوان جدران المدى حيث صدر الكتاب في 155 صفحه من القطع المتوسط حيث تعود بنا رواية "جدران المدى" للكاتب عمار علي حسن إلى "المقولات الكبرى" بتشكيل لغوي بديع، وتتخذ من مصر كلها مكانا لها، بحكم انتماء أبطالها، إلى بقع متفرقة على جسد الوطن،
وأبطال الرواية موزعون على التيارات السياسية المصرية، أحدهم يساري، خانه الرفاق وهجرته الحبيبة ولفظته الوظيفة الحكومية بعد معاناة شديدةة، والآخر إسلامي متطرف حكم عليه غيابيا بالسجن أثناء رحلة هروبه، ولم يجد من يسمعه رغم تغييره لأفكاره بحكم تجربة جديدة عاشها وكتب مستنيرة قرأها في هذه الرحلة، التي انتهت به إلى العيش في الكهوف.
أما الثالث ففلاح مصري بسيط، تدفعه الظروف الظالمة إلى أن يصبح قاطع طريق. وعلى أطراف هذه الشخصيات المحورية الهاربة من الوادي الخصيب إلى قلب الصحراء الغربية، تحفل الرواية بشخوص عدة، ينتمون جميعا إلى المهمشين، من سعاة وعمال تراحيل وطلبة يعانون في سبيل استكمال دراستهم.
والحلم هو القيمة المركزية في هذه الرواية، لكنه حلم منسي ومقموع، لأبطال مأزومين، انكسروا حين انكسرت أحلام الوطن الضائع، فتاهوا في الغربة والخوف. وهذا النص الروائي مفتوح على تأويلات عدة، وهذه سمة للنص الجيد العامر بالمعاني والقيم، وهو نص يعيد طرح المقولات الكبرى، وينتصر لعالم المهمشين، بقيادة اليساري علي صابر حسنين الباحث عن الحب والوطن، وأحمد عبد السميع الإسلامي الباحث عن شاطئ الأمان والفهم الصحيح، وعم عوض أبو سليم الفلاح الهائم على وجهه في البراري.
والمقطع الأول من الرواية يبرهن على عذوبة اللغة هذه إذ يقول: "كل شيء هالك هنا إلا المرارة المتدفقة إلى فمي، وصخرة عالية تعاند الفناء، امتطياها وخبأت عيني في عمق الظلام يمنة ويسرة، وتركت أذني لصفير الريح والغبار، وهواء بارد اصطكت له أسناني"، وكذلك المقطع الأخير الذي تنتهي به الرواية ويقول: "لم يكن هناك مجيب غير صدى يهزأ مني، وصراخي يلف الصحراء ليموت هناك على أسنة التباب البعيدة، ثم يسقط في الرمال السافية التي ربما تنتظر قدميّ المنهكتين فتبتلعني، فريسة شهية في ذلك الليل الساكن. صعود وهبوط. قيام وقعود. وقوف وسير بطئ. حركات في الزمان والمكان لا تعني شيئا سوى أنني تائه ضائع، أبحث عن ضالتي. وضالتي كهف رطب في بطن الصخر الصوان، ورجال جاءوا ليقضوا هنا أياما يريدون لها جريانا، لكنها تمضي كسيحة رتيبة، لا يلوح أمل في الخلاص منها سوى الموت".
وبصفة عامة فإن الرواية تدل على أن كاتبها قد هضم جزءا كبيرا من الموروث الروائي السابق، ويبني عليه نصه هذا، الذي يرسم معالم بداية مشروع روائي ننتظر اكتماله، بعد مجموعتيه القصصيتين "عرب العطيات" و"أحلام منسية" وروايته "حكاية شمردل".
وبالنسبة لأنماط الشخصيات داخل الرواية أو البطاقات الروائية، نجد أن الرواية حافلة بشخصيات عديدة، الصعيدي والفلاح والبدوي، الريفي وابن المدينة، القاهرة والسكندري، السواحيلي وسكان الجبل، وجميعهم ينتمون إلى بقاع شتى في مصر، ويشكلون الوطن بأكمله، وكأن الروائي أراد أن يؤكد أن روايته هذه هي تلخيص أدبي لمشهد سياسي/ اجتماعي مصري معاصر.
ولا تخلو الرواية من حس صوفي سواء على مستوى عذوبة اللغة أو الروح الكامنة في التفاصيل أو النداءات التي تبدأ بها الرواية وتنتهي. ويبدو بطل الرواية "مجازي" يبحث عن الحرية، ويمتلك كل عناصر الخير (المطلق) ليواجه الشر (المطلق)، ليبدأ الصراع بين الاثنين، ولا ينتهي، بدليل أن نهاية الرواية مفتوحة. وهذا البطل هو الصيغة الأخيرة، أو النسخة المعاصرة من اليساري، ذلك الذي مر بنقد صريح للذات، انتهى به إلى التصالح مع الأفكار المعززة للديمقراطية، ومع العطاء الروحي للأديان، وهذا يدل على أن زمن الرواية هو تسعينيات القرن الماضي على الأرجح، وبداية القرن الحالي.
وبصفة عامة فإن الرواية ترسم باقتدار ملامح المرحلة الاجتماعية والسياسية التي تمر بها مصر في الوقت الراهن، فأحداثها عامرة بتفاصيل حياتية عديدة، بدءا من الحياة الوظيفية إلى الفلاحة وحياة العمال وكدحهم وحياة اللصوص وأولاد الليل والمطاريد إلى بدو الصحراء، ومن المهمشين إلى المتمكنين في الإدارة وعالم الأعمال. وهذا التنقل بين أماكن عدة وشخصيات تنتمي إلى عوالم مختلفة يبين أن الرواية هي مشهد متحرك غني بالوقائع والأحداث عن مصر في لحظة فارقة من تاريخها المعاصر.