حياة كسرد متقطع: ترسّبات بين النسيان والذاكرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نصر جميل شعث من غزة: من شروط القائد، في عالم القيادة، تمتعه بالشخصية الكاريزمية. وفي عالم القصيدة، قاطرةُ الشروط، طالت أو قصرت، لابد من أن تقودها - أو تقود إليها - اللذة: أول أحكام الذوّاقة على جمال عمل ما. "حياة كسرد متقطع"، واحدة من القيادات الشعرية التي فاجأتنا بإمكانياتها وشخصيتها الفنية الجذابة؛ إذ استدرجتِ اللغةَ،
ولكن، قبل قراءة النسيان المتبادل بين الجيران، هناك أمر هام وخطير، وهو أن مسز مورس اسم كان استعاره الجار، من عنده، وسمّى به الجارة، مصرّحاً على لسان يِحيى : " لم يكن اسمها مسز مورس. هذا ما سميتها به لأعرف على أي جنب سأنام بين جاري مستر شارما وبينها في هلال لم تلمع وسطه نجمة واحدة. فلم أعرف اسمها قط رغم تبادلنا التحيات أو الكلام العابر عند مدخل بيتينا اللذين تفصل بينهما حديقتها المحسودة منا نحن الذين كلما رأينا عرقاً أخضرَ فكّرنا بماشية تأكل الأكياس وقشور البطيخ ". إنّ معالجة غياب الاسم الحقيقي للعجوز الإنجليزية بالاستعارة هو بمثابة خطأ في تصرّف العربي؛ فهو يشير إلى حقيقة جهل الجار بالآخر، فضلاً عن أفكار البداوة. فذلك، إنما، يجعله بمنأىً عن الإمساك بأي معرفة أو حقيقة عن هذا الآخر. إنّ هذا النوع من التصرّفات أو المغامرات، غير المحسوبة، يخلق غيابَ الثقة والفجوة والفروق الحضارية بين الجارين بسبب الاستعارة.
أما بالنسبة للنسيان المتبادل، فكما رأينا، في السطور السابقة، تنسى الجارة الانجليزية؛ أن جارها من الأردن، لأن ثمة ترسّباً أو استعماراً شائخاً، لكنه حاضر ويقظ، في الذاكرة والثقافة، لديها. حيث كانت الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس، في حين أن ذاكرة الجار القادم من البادية، لم تحظ بمعرفة اسم الانجليزية الحقيقي. وأما الجدة العربية، فتنسى، هي الأخرى، أن تفرق بين ملامح يحيى المقيم في لندن، والذي اعتاد زيارة الأردن، في مواسم الصيف، وأخيه أحمد المقيم في أمريكا. والحال نفسه، عندما يُصحّح لها الأمر يحيى، بعد أن تسأله الجدة، عن هويته وكينونته : " من أكون : فقلت لها : يحيى. قالت : ولكن يحيى في أمريكا. قلت : ذلك هو أخي أحمد، وأنا يحيى الذي يقيم في بريطانيا. قالت : الله يهدها.. كلها بلاد نجسة ". حال الحكم، إذاً، رَجْماً حاضراً نراه بصيغة دعاءٍ جاهز على لسان الجدة، ولكنّه عفويّ وحاسم. وهكذا يلعب الشاعر لعبة الكينونة، أو لعبة الحضور والغياب؛ مبرزاً ثنائية الإقامة عند الآخر المرجوم بدعاء العداء والكراهية، من قبل الجدة التي لم تفرّق، بذريعة الشيخوخة، بين يحيى وأحمد. وأما حكم يحيى على لعبة الكينونة التي يلعبها مع جدته العربية، في قصيدة " استعداد للطيران "، فهو أنها : " لعبة سخيفة طالت أكثر مما ينبغي " إذ هي تنطوي على الأخطاء والنسيان والتصحيح غير النافذ أو المغيّر، والتعميم والرجم المتبادل والجهل والاستعارة، في ظل هذا الخلط والتشابه الذي لا يلغي هوية أو كينونة أو تسمية بمقدار ما تترسّب الثنائيات المتناحرة في الكينونة التي تَختزل الأحكام والأخطاء فيها.
أمر هام آخر، وهو أن الجار الشاب يفسّر عجزه على لسان جدته عندما في قصيدة " استعداد للطيران " يَرِد النسيان كإحالة، هذه المرة، على عجز الإرادة؛ أكثر من كونه ذريعة من ذرائع الشيخوخة. إذ نقرأ أمجد ناصر يكتب : " ليست الشيخوخة بل النسيان، بل الرغبة بالتخفف من الوجوه والأصوات والتفاصيل (التي هي الجاذبية الأرضية ولاشيء غيرها) استعدادًا للإقلاع , ألذلك كانت ترى الخيوط تفلت من يدها من دون أن تبذل جهدا يذكر للامساك بها، مدخرة طاقتها الأخيرة للقفزة التي تفك ارتباطها بالوجوه والأصوات والتفاصيل المضنية ". بكلمة كبيرة، الترسبّات هي المعادل الجاذب والمختزل للوجوه والأصوات والتفاصيل. والتخفف منها شرط للإقلاع وفك الارتباط بالأيديولوجيا وإدراج لحظة الكتابة بين النسيان والتذكّر. فإذا ما نظرنا ليحيى (القناع) على أساس قرابته من الجدة المدخرة طاقتها للقفزة الأخيرة، فإنّ العين سترينا، إذا ما رفعنا القناع عن القصيدة، أن الشاعر ليس صاحب الطاقة المدخرة وحسب، بل والمستثمرة، عبر الكتابة التي تفك، الآن، ارتباطها بالترسبات. النسيان هو حيلة وذريعة وقناع لإرادة تمسك بعجزها. وكل نسيان لدى الشاعر محاولة محو للترسبات. ولدى الجدة حكم بتعميم إرث العداء الشرقي الشعبي على الغرب، ولدى مسز مورس إحياء لذاكرة الاستعمار وَرَكْن للدول في كبر الذاكرة المستعمرة.
لقد استدعت التحولات النزوية تنازلاتٍ وتوسلات من الشاعر الفحل واللاعب في الحياة. بل وأجبرته على تقديم التنازل الخلاق؛ فاحتاج الأمر إيماءةً وانتباهة منه أو " حيلة رجالية "، تجري مجرى الحكم، في عمله التجريبي، بضرورة تحرّر القصيدة من ذكورة الشكل، والمضمون كذلك. مع ذكورة الأول نجح، ومع خشونة الأخير لم يفلح؛ لأن ليس ثمة كتابة بيضاء، بل كتابة الترسبات، فيما هو يحاول نسيانها بالنزعة النزوية واللعبية.
على أية حال، تحضرني، الآن، رسالة من نادية لطفي إلى الروائي المصري إحسان عبد القدوس، وفيها تكتب : " أنت لا تعرفني، إذا كنت قد استطعت أن أدير عنقك في المرتين اللتين وقعت عيناك فيها عليّ.. في كلتا الحالتين لم أهتم بالتفاتتك كثيراً، فقد تعوّدت أن أدير أعناق الرجال. باختصار.. أنا جميلة.. واحدة من أجمل فتيات القاهرة، وقد قلت لك أني تعودت أن أديرَ أعناق الرجال، بما فيها عنقك ". فإذا كانت الرسالة الواثقة لسان حال " حياة كسرد متقطع "؛ فهذا يعني أن المسألة تأخذ بالتطور والتنّقل الناجح عبر أحكام اللذة، الكاريزما إلى أنثى تتحدى ! وهنا، حقاً، وصلنا إلى برهان الذات الفنية التي تتمتع بها حياة القصائد؛ بتفاصيلها المضنية، وسردها المتقطع الحافل بالانكسارات التي يلبسها الشاعر أو يحجبها بقناع المغامرات والنزوات العاطفية السريعة. قد يكون اهتمامنا بـ " حياة كسرد متقطع " بمثابة انحياز مرفوض من قبل الذكورة ذات النعرة الشكلية والدوجماطيقية. ولعل هذا ما يذكرنا بما قاله أحد النقاد الغربيين من أن هناك نقدين : نقد مذكر، وآخر أنثوي. النقد المذكر هو النقد الدوجماطيقي الذي بقرض معاييره على الأدب. النقد الأنثوي هو النقد التأثري الذي يستجيب لإغراء الفن في نوع من النشوة. ومن منا لا يسعى للنشوة ؟ الأنثى، في الحياة، تضعنا أمام جمال وسؤال الثقة، فإما المدح على أساس إغراء جمالية الوجود لنا، وإما الهجوم على الثقة، هجوماً لن يجدى نفعاً أمام حداثة القصائد وريادتها في عالم التجريب العربي، ورفعها السياج كلية عن نفسها، في لفتة باذخة من أمجد ناصر، وموفقة، على أية حال؛ كونها تثير التساؤلات عن الأمداد الممكنة للتحليق خارج الجاهز والاجتراري في حياة الفن المكتوب.