عالم الأدب

الإنسان كائنٌ جميل.. أعيته الهندسة ومتّعهُ الفن

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الأهرامات بنتها قدرة العقل لا قوة الجسد
الإنسان كائنٌ جميل.. أعيته الهندسة ومتّعهُ الفن

عدنان ابو زيد من امستردام: ما هي مهام الفن الاخرى عدا ما يتعلق بالبعد الميتافيزيقي؟ وهل ثمة تأويل آخر للتفسير التقليدي لصفحات مختلفة من الحياة والتاريخ استطاع الفن تأسيسها بشكل يجعل الإنسان ينظر الي تاريخه وحياته بعين الاحساس لا بعدسة المادة؟ وكيف استطاع مفكرون وفنانون بلوغ أقصى حافات الوعي وتجاوز محدوديات الجسد والمادة من استنباط نموذج روحي يضفي علي صفاته طابع الاحساس الفني لا التلمس المادي، وهو ارتقاء بالحاسة من التعبير البسيط الى العاطفة العلوية؟

بودلير وباسكال والبحث عن الجمال
ولكن ألم يكن الوجود المادي مخترعا للأفكار، والبصر برهافته هو العدسة التي حفزت تفوق الحاسة، فالوجودية التي جعلت من التأمل وعيا وجوديا، وفسحت المجال لكتابة رواية العصر الميتافيزيقية، وتأسيس كراهية الطبيعة، وبودلير الباحث عن النقاء، وأفلاطون الكاره لرطوبة الجسد الانثوي، وباسكال الذي بحث عن الكمال والنضج في العقل في العلوم الرياضية، كل ذلك جعل من ماهية الوجود المادي جزءا من الكيان الاجتماعي بحيث لم يعد ثمة انسلاخ بين الانا والمحيط.

الفن .. تصوير لا تأويل
ومهما حاول فلاسفة مثل كيركيغارد من تكريس للرهبنة، والتسامي عن روح الجماعة، واخرون مثل سارتر في تحريضهم على الكره والقول ان الارض هي الجحيم، فإن ذلك اللااعتراف بقوى المادة لايعني ان دحرها امر مفرغ منه بل العكس، حيث استطاع الفن بقدرته على التصوير لا التأويل خلق ذلك الائتلاف المشترك لعناصر المادة والفكر والما وراء، بحيث اصبح اداة قادرة على توضيح التجلي بين حاجات الحياة المشتركة ماديا وروحيا.

الفن لاجل الفن
وعلى عكس الفلسفة فان الفن صاحب نزاهة فكرية وبراءة بحثية غابت في الفلسفة التي بدت في تاريخها وكأنها تحوك مؤامرات ودسائس، فحاولت الانتقاص من مثيولوجيا الشعوب، ودحض تلقائية التفكير الحيوانية، ووصف الانسان بالنقص، بينما اضفى الفن أبوته على هذا الكائن الجميل الذي سمته الفلسفة بالحيوان، وبهذا يكون الفن ذا نزاهة فكرية يخلو من الديماغوغية، محاولا بناء جسور بين رؤية الفلسفة والنشاط السياسي، بحيث تكون المثل العليا في الحياة مرتبطة بنشاط فكري هادف بحيث لايكون شعار الفلسفة (الفلسفة لاجل الفلسفة) موجودا ايضا في الفن (الفن لاجل الفن) محافظا على القيم التأملية في الفن والتي تتجاوز الواقع الاستاتيكي.

الاستلاب، علم يخلقه وفن يدحضه
والفلاسفة في كل تجاربهم، حاولوا دحض الخطوة المادية من اشكالية القالب البيولوجي الصرف الى الروحانية السامية، ولكنهم لم يمتلكوا الاداة كما امتلكها الفن، لذا باتوا مؤمنين ان الفن هو المعبر الاول، اما العلم فقد اتاح للفن أن يشق طريقه بسهولة، لم يفعل اكثر من ذلك، ووظائف الفن هي التي سحقت الاستلاب في النظام الاجتماعي، بينما العلم وماديته هو الذي خلق هذا الاستلاب، ودليل ذلك ان العلم لم يخلق سوى كاتونات من العزلة الفظيعة بينما فتح الفن الشبابيك امام العيون، وهذا يعني ان الفن خلق ذلك الانسجام واماط اللثام عن التجريد المرعب للحضارة الحديثة.

الإنسان .. ذلك الكائن العظيم
وفي مرحلة ما من حياة الانسان، ثمة من نبذ الفن، وقدس العقل، واباح لنفسه تغطية مشاكل الانسان الوجودية بغطاء الشيئية، لكن ذلك سرعان ما انهار حين اقر مفكرون مثل ماركس ان العقل هو رديف ظاهرة اجتماعية وان الانسنة الجديدة يجب ان تكافئ العقل والانسان والتامل على حد سواء بغية القضاء على الذاتوية المحضة التي مثلها كيرغارد والتي قدس فيها الانسان الملموس وللقضاء على المادية التي سعى إلى تكريسها ماركس، ومن ثم الرجوع الى الانسان كمحور ثنائي من العقل والتأمل لتبدأ من جديد فكرة ان الانسان، هو ذلك الكائن العظيم الذي يجب ان يبني ويحلم ولكن ليس من حق احد ان يحلم بدلا منه.

العلم واقصاء الحلم
وربما يؤمن كثيرون اليوم ان الفن هو غير العلم الصرف فهو الذي ادرك الانا، وزاوج الوعي واللاوعي وقرن الاحساس بالفكر، بينما أسس العلم الصرف لاصرة قوية بين اليد والعقل، ولكن النزوع العلمي في الفن كان مفيدا لاقصاء الحلم والميثولوجيا عنه، وتحويل القصيدة واللوحة الى وثيقة مادية يمكن ان تكون اداة التاريخ في التحليل.
لقد كان لتطور العلم والرأسمالية بثورتها الصناعية جعل المطلق الميتافيزيقي يتهاوى الان، كما ان مواضيع الفن الدينية والواقعية قد انحسرت الان، وبدا كما لو ان فوضى الموضوع بدأت تتجسد في الفن، ولعل مواضيع مثل انقاذ الانسان بدت غريبة بينما كان السائد انذاك هو صورة الانسان ذاته والطبيعة من حوله او صورة الجسد الانثوي وتكامله مع الطبيعة، وبالتالي فان اطار المعالجة الجديدة كان في ابعاد الانسان من ربطه بالجسد وعالم الحيوان، وتأويله على انه موضوع صالح للخير والشر، الشك واليقين، الجسد والطهارة، الظلام والنور، الجنة والنار. ولعل أكثر ما عكسه الفن لاحقا، هو القلق وخوف الانسان من المستقبل ومن ثم الحنين الى الاصل والهروب من الزحام والنفور من القادمين الجدد ليتحول العذاب الميتافيزيقي الى عذاب مادي.

فيثاغورس .. مهندس وفنان
واجمل ما في التاريخ الانساني هو ذلك الفيثاغورسي العظيم، المهندس والفنان الذي امتلك الوعي المطلق لمزج العلم بالفن، فمعادلاته ونظرياته تفتقت عن غابة من المربعات والمعينات والاشكال الهندسية، وكان مؤمنا بان الهندسة هي الطريق لتحقيق نبوءة الفلاسفة والمفكرين وكان يدحض افكار القوة التي بنت الاهرامات، مؤمنا بقوة العقل، والفعل الرياضي الذي امتلكه العقل الانساني.

الشعر خلاصة الوعي، والعلم كينونة التطور
وبين الفكر النقي الذي ساد والمادي الذي ينتج ثقافته السائدة اليوم، يظل الفن واصفا للحركة الجدلية التي تؤلب الافكار، واذا كان وعي الازمنة الحديثة قد ارتبط بالعلم فمن الاولى القول ان الشعر والفن كان المراة التي عكست الخلاصة التي نتج منها هذا التطور المادي، واتاح المجال ثانية للكينونة الانسانية ان تعبر ثانية عن البعد الاخر الذي لا ترقى اليه المادة.
ان العلم والفكر والفن الروح الثالوث المرادف للاسطورة والفن بحكم قدرتها على مقاومة شتى انواع الاغراء العقلاني الحديث.


adnanabuzeed@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف