عندما تكون القناني فارغة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الله كرمون من باريس: ليس من السهل ترجمة عنوان كراس باتريك سترارام هذا، لذلك ترجمته ب"قناني فارغة"، لأنه من المحتمل جدا القول أيضا ب"قناني مستلقية على ظهرها"، غير أن كل قنينة تستلقي على ظهرها ليست بالضرورة فارغة، لكن منطق وذوق من يعرف عالم سترارام ورفقائه سيدرك جيدا أن الأمر عنده يصل، حد الإطلاق، كون تلك القناني فارغة، مادام الشرب والشاربون كثار وليل المجون يظل طويلا:"ننتظر أن نسكر كي نقصّر الليل".
الأمر هنا إيعاز منا بالعودة قليلا إلى خمسينيات القرن الماضي والنظر قليلا إلى حركتي (الليتريست) "الحروفي" و(الستواسيونيست) "أممية مبدعي الأوضاع" اللتين عرفهما
من ينظر في كتاب "تربية عبد القادر الجنابي" للجنابي، سوف يجد فيه إشارة كون هذا الأخير قد تعرف في باريس لدى وصوله إليها على بعض من تبقى من هؤلاء الرافضين، أممية مبدعي الأوضاع بالتحديد، إذ كان نفسه في خضم تمردهم.
ليستْ تُذكر كثيرا هاتين الحركتين مثلما حظيت السوريالية خلافهما بصيت ذائع. فسترارام هذا كان مع غي دوبور وآخرين في حركة "الليتريست" كي ينفضوا، هم، عنها ليؤسسوا حركة "أممية مبدعي الأوضاع" سنة1957، بينما باتريك سترارام قد غادر إلى كندا منذ سنة1954. لقد عاش كثيرا من التشرد والتيه ثمة في مون ريال قبل أن يلج عالم الإذاعة والصحافة، واستقبل في برامجه كثيرا من الشخصيات أمثال بن بركة المغربي وفرانز فانون وغيرهما ولعب بالتالي دورا بارزا في الحركة الثقافية بكندا آنذاك. كما أنه ظل على اتصال مع غي دوبور زعيم "أممية مبدعي الأوضاع"، وقد أرسل له رسالة جميلة وموحية نُشرت هي أيضا تقريبا في نفس الوقت مثلها مثل القناني لكن لدى دار نشر أخرى. سوف نتعرض لها في مقال آخر.
أمر آخر أن سترارام هذا لم ينج من عالم ملاجئ المرض النفسي السفلي، إذ عرف ثمة في دركاته بعض إقامات. كان سبب إيداعه ثمة ذات مرة، أنه أفرض في الشرب واستل خنجره يقطع طريق المارة ويطاردهم في شارع كيبسين قرب دار الأوبرا غارنييه!
الكتاب إذن تسجيل لمجريات ليلة نموذجية، مادامت الكتابة قيد العلم، في الحي اللاتيني وعبر سان جرمان دي بريه، يضع فيها سترارام كل مقتضيات الفكر والخمر والجنس والرغبة في بناء جديد للعالم يبدأ بالفعل من هدمه أساسا. هؤلاء المثقفين والمشاغبين يتراوح تأثيرهم بين سلطتي الزمن والمكان، ومادمنا عرفنا تحديدا طوبوغرافيًا للأول فإن الثاني لدى سترارام هو مجرد ليلة من ليالي سنة 1953 (ليلة يوم جمعة سادس مارس (آذار)) بما تعنيه بالنسبة لسجله الشخصي كما أنها سنة احتدمت فيها أفكار هؤلاء الممزوجة بخمرِ شمالِ أفريقيٍّ، شمسيٍّ، قوي وفعّال يباع فقط لدى بار "موانو" حيث يلتقي هؤلاء، مثلما يلتقون في حانات سان جرمان الأخرى وسان ميشال وأوديون ومابيون وغيرها.
لقد تأثر باتريك سترارام في كتابته لهذا النص الذي يعتبره هو على أنه قصيدة، بجويس ولكن بالأخص بمالكوم لوري في "تحت البركان"، في الزمن الذي استغرقته أحداث الحكي وفي شبه تعلق كليهما بالخمر كمادة أساسية في الاستمرار في الحياة والتمتع بتطورٍ أفقي لمدارك وأحاسيس ما وإن كانت مجرد وقائع كوارث.
مثلما كان هوسه بموسيقى وفن الجاز ليس يفلت ثمة انطباعه بطابعه في الكتابة مادام عاشقا كبيرا لذلك النوع من الفن، إذ نلحظ أيضا في أشعاره كثيرا من ذلك التأثير.
في النص إذن تسجيل شعري لليلة جمعت كثيرا من رواد حانة "موانو" المنتمين أكثرهم، في وقت سابق، إلى حركة "الليتريست"، أمثال غيي دو بور، جاك بلو، جاك إربيت، إيفان تشيتشوغلوف، هنري دو بيارن، جان ميشال مونسيون، ميشال بيرنشتاين (التي ارتبطت بسترارام لزمن وصارت فيما بعد زوجة غيي دو بور) وآخرين غيرهم.
ذلك أن النص أثار كل ما دار بينهم من حوارات وترهات وخصومات وأجمل من كل ذلك من التماعات أفكار، في اتجاه هدم العالم في سبيل بناء آخر يتصورونه حسب نظرياتهم وهم يقتفون أثر بعض كتابات جان بول سارتر الوجودية في بناء رؤيتهم الخاصة للعالم خاصة "زمن العقل".
"ثمة برد يشرع في الخارج وساعة شارع سان جرمان الحائطية تعلن الحادي عشرة ليلا..." هكذا إذن نكون أمام مناخ ما، ليل وبرد وسان جرمان كلها على مدى البصر. أو غيي هذا (دو بور) الذي ينتظر أن يسكر كي يقصر الليل". أو ثمة دائما كتابا تلزم كتابته ضد العالم. "كتاب ضد الثورة المسموح بها، الثورة ضد الثورة"
التقى ساشا الروسي الأصل في ساحة دانتون الشهيرة، حيث يهطل مطر صموئيل شمعون على التمثال، وهو يتشبث بإفريز مترو أوديون، يتمايل إذ يترنح من أجل ليل ليست، مادام خمر "أنجو" هنا، تبطئ كواكبه ضدا على أسى النابغة الذبياني. أو كما جاء عنده أيضا " بلا أمل نعيش في الرغبة".
أشياء أخرى كثيرة متعلقة بكلام نابي، بسباب وبلغة طبيعية تسمي كل الأشياء بأسمائها. أو التي تريد به أن يتجه نحو منطقة باب أورليون، تلك التي أزاحت ثوبها ولمح ثمة نهديها، أزاحت بدلتها وجنّنته، إذ رأى شيئها ملتصقا بين فخذيها، "الشيء الذي جننني".
أو ذلك الارتجال المسرحي ساحة مابيون واتخاذهم في زمن آخر السان جرمان كإطار أسطوري لملحمة تراجيدية تحدث فيها كثير من مجريات اللامعقول. "مادامت الحياة مجرد فيلم تسجيلي لوقائع وأقوال" أو "الكحول تحرق المسودات". هذه العبارات التي يصوغ فيها هؤلاء الندمان، أنصاف ثوار وأنصاف مشاغبين، وضعهم القلق. "أما أنا فأغني من أجل الذين يرابطون في السهوب" أو إذ ينطق أحدهم: "أتوني بعين تمساح، إذ ليس لدي ما أغطي به عضوي".
هكذا إذن عبر خط شبيه بشلال من هلوسات وهذيان يمضي سترارام في نسج تمارينه التي لا تدعي شيئا، إذ أقل ما تسعى إليه هو إعادة تشكيل العالم وأصواته وناسه. ها هو إذن يصف رفاقه ويمزج في لمزاته بين السخرية والصراحة المدهشة. وها كل هؤلاء يتهامسون، يقهقهون ويشربون كل أنواع الكحول. وفي الصباح، صباح يشبهه بصورة فوتوغرافية، يعبر جنب السين، يُسمع الجسور دقات قدميه، "ينظر في عين كل امرأة، ثمة بريقا يدل على حركة ما. غير أن كل شيء قد تركز ثمة في غياهب الزمن الخادعة" واختفى هو!