جوهر الأدب - كلام الروح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بالكلمة يستهل العالم بدايته وتكوينه فحين نقرأ في قصة الخلق افتتاحية الكتاب المقدس "في البدء كانت الكلمة" نرى المقدار والمكانة المميزة للكلمة والتي لولاها لما بدأ التكوين. وكلما كنت اقرأ هذه الجملة كان يصيبني إحساس غريب أن هناك نقصا متعمدا في ظاهرها. التعبير عن هذه الجملة هو الذي دفع الشيخ الأكبر إلى استبطان "الكلمة" واستبطان الوجود من خلال حرف النون في "كن فيكون". فلولا النقطة في "كن- يكون" لتعذر وجود العالم على ماهو عليه. إن النقطة هنا هي الدلالة السيمائية الرمزية إلى الكتلة التي توازن العالم والتي من دونها لاصبح قانون الطاقة العالمي لا معنى له. لكن المبحث- الاستبطان الذي كان يقوم به ابن عربي هو استبطان لامادي ولاعلاقة له بالكلمة المتداولة بيننا بل لا علاقة له بحرف النون أصلا وأن نظرته التي يؤمن بها أن الحروف والكلمات هي أرواح هي نظرة باطنية لها البعد غير المرئي الذي يصل الكلمة بالروح الأولى. وكأن النقص الذي لمسته في الجملة أعلاه هو النقص المقصود الذي نجده في سرد الأسرار.
الكلمة هي صوت، هواء، وتنتفى خارج محيط الأرض، فلا وجود لها في مكان خال من الهواء. وفي بداية التكوين لم يكن ثمة هواء (ولم يكن هناك وجود للكون) بل كانت الكلمة؟! أي كلمة يتكلم عنها هنا الكتاب المقدس؟
"وكانت روح الله ترف فوق الغمر" تتبع هذه الجملة الجملة السابقة كي تقرأ كما يلي: "في البدء كانت الكلمة وكانت روح الله ترف فوق الغمر" إذن هناك وصل بين الكلمة وبين روح الله فهما العاملان اللذان وجدا قبل التكوين، قبل شرارة الانبثاق، ولقد وضعت الكلمة في المقدمة ذلك لأن محركها الخلفي كان روح الله. كي نجد أن الكلمة لم تكن هي البداية بل كانت الوجه لروح الله. ولا أريد أن أخوض في التفاصيل فالمقالة ليست فلسفية أو لا هوتية. إلا أن ما أريده في النهاية هو أن الكلمة في تلك العبارة تبدو كأنها سابقة للصورة (الروح) والتي الصورة في هذا العالم هي المحرك الأساس للخلق - الأدب. فمن دون صورة تنتفي الكلمة وتنتفي الكتابة، فكيف إذن نقبل "في البدء كانت الكلمة"؟!
ليست الكلمة هي كلمة اللغة بل هي كلمة الطلسم التي تحافظ على قوتها وطاقتها من دون نطق- نطق الصمت (كلام الروح). والطاقة هنا هي احدى عناصر الصورة والتي انتقلت إلى الكلمة في مثال "كن فيكون" وهذا المثال يستفتح مقالات اخرى تستكشف هذه الفكرة وتعمقها فإننا إذن بعد حين نجد أنفسنا قد وضعنا يدنا على معنى الكلمة في الأدب، معنى الأدب. وهذه المقالة السريعة لن تحمل التعمق ولا الاستكشاف، إلا أن الملخص نعرضه وهو أن العالم في تركيبه الكلي عبارة عن طاقة، وإن التحول من شأن إلى آخر هو تحول في الطاقة (الصورة - الكلمة ) وما الأدب سوى عنصر من عناصر هذا العالم وسيعتمد على المتحول الأول ألا وهو الطاقة. والطاقة الأدبية هي عامل لغوي تحمله الكلمة والجملة.
إن استجرار نظرية الترموديناميك والتي تنص على أن الطاقة مصانة لا تنضب ذلك إن كان كوننا جملة مغلقة والحديث يدور عن أن هناك توسعا في الكون وهذا لا يتم إلا بحقن طاقة جديدة في عالمنا من عوالم مجاورة. ربما هو احد العوالم الذي أشار إليه الشعراء الأوائل عالم الجن والشياطين ينقلون مادة الأدب وطاقته من عالمهم إلى عالمنا. إنها بالحق سخرية واستخفاف بقدرات العقل أن نورد الأفكار في هذا الطريق اللولبي المشعوذ. إلا أن الأدب بحالته الجديدة ليس سوى شعوذة عصرية وسحر واستخدام. هو قريب من عالم الروح المجهول أكثر من قربه من عالم العقل. إن الطاقة الجديدة القادمة من عالم الغيب -كما يسميه العقل البشري المحدود- هي طاقة الخلق المتكرر المتجدد التي أشار لها الفيلسوف (الملحد- المؤمن) ديموقريطس- في حديثه عن ظاهرة الكون.
ابدأ بالكلمة السائرة على ألسنة الأدباء إن الأدب هو ثورة على الحياة، والثورة هي قلب المفاهيم القديمة وتصدير لمفاهيم جديدة، إلا أننا حين نتمعن في فرص الحياة وخطواتها فإننا سنلقى عكس ذلك، ليس الأدب ثورة بل هو نكوص وعودة- إنه الرجوع إلى المبتدأ حيث يلعب الماضي وتلعب الاسطورة فيه دورا رئيسيا. ومن خلال التعرف على الأدب نقوم بالزيارة إلى المبتدأ ذلك كي نتذكر ونعايش احاسيس البرهة الأولى. هذه الأحاسيس تمنحنا الطاقة كي نواجه ماكنة الحياة. ومن هنا جاءت أهميته فهو ليس ثورة بل هو إعادة ارتباط مع المركز والروح البدئية. إنه الجد أو الجدة التي تأتينا في الأحلام كي تمنحنا الأمل. وهذه الفكرة تنفي المفهوم الشائع بنبوة الأديب فالأدب لا يعمل على المستقبل بل يعمل على الحاضر ومستقبله هو الماضي البعيد- ماضي الأجداد، اليوتوبيا. والكلمة الأخيرة هنا أن الأدب ليس ثورة بل الحياة هي الثورة ولا يفعل الأدب إلا العودة إلى الينابيع.. إلى اللغة الأصلية التي تحرفها الحياة.
إن قانون الحياة، هيكلها وروحها- هو الذي شكل ويشكل الوعي الانساني، واللاوعي نفسه الذي يغذي الأدب هو أيضا تشكيل قديم قد مرت يد الحياة الغابرة عليه. إن الانسان أخيرا- العقل والروح، هما انعكاسان لوجه الحياة غير المحدود.
وإن كان مثالنا في الأدب أن الأديب يأخذ قوْته ويرحل نحو الأعماق- يعود الى الخلف- كي يسترد الجواهر المنسية التي تركتها رحلة الحياة وراءها فإن هذا المثال يبين ماهية الأدب وهي أن الأدب هو المرشد الذي يربط الخطوة المعاصرة بالخطوة السابقة ذلك تحسبا للضياع في متاهة ينتفي فيها معنى وجود الانسان فوق هذه الأرض. إنه أحد إخوة الدين.
من هنا يكون المشي إلى الخلف هو مشية الأدب.
من هنا ايضا نكتشف المنطقة التي يعمل فيها الأدب أنها منطقة غير واقعية ولا تمت إلى زمان أو مكان بصلة. وما قصة الزمان والمكان في نصوص الأدب إلا قناعا وهميا يسهل إزالته، فطبيعة الفن لا تقبل مفهوم الزمان ولا مفهوم المكان إنها طبيعة سرمدية خالدة ولا حياة أرضية فيها. أنها لوحة تشكيلية بل إنها موسيقى. وإن ما يحضرني هنا هو حال الناقد الذي يتتبع حركة الزمان والمكان في العمل الأدبي وهذا التتبع هو قصور في إدراك الوجود الذي يعمل فيه الأدب.
إن كان الزمان والمكان هما عاملا ً واحدا له صلة مباشرة مع صيرورة الوجود الأرضي- وما كلمة "كان يا ما كان في قديم الزمان" إلا محاولة للصق هذه الصيرورة- فإن هذا العامل لا يعرف أن يعيش في العمل الأدبي. إن السلاسل المتراكمة في النص الأدبي والتي تنتظم في قناع زمني هي في الواقع لا تفعل في الزمن ولا يفعل بها الزمن إنما هي وصف للمعمار النفسي الذي يقوم بالأساس على طاقة الترداد الروحي إن جاز الوصف، وهذا الترداد هو الذي يصل السلاسل ويوصّفها بطابعه ويأتي العقل كي يفهمها زمنيا وهو الفهم القاصر الذي لا ننتبه إليه.
وخير مثال على غياب الزمن هو النظر في النص الشعري- جوهر الأدب. النظر في الموسيقى أو في لوحة التشكيل.
إن كانت هناك حقيقتان في هذا العالم وهما الحقيقة الفيزيائية والحقيقة النفسية فإن الأدب ينتمي الى الأخيرة فهو نفسي الطابع مائة في المائة. ولقد أصاب علم النفس التحليلي في قراءته للإسطورة واضعا رؤية "العود البدئي" أو الترداد الذي يكرر نفسه. وكما يقال يكتب الروائي رواية واحدة ويقول الشاعر قصيدة واحدة فالبنية الأساسية في عمل الأديب هي واحدة وإن تعددت أعماله. إنها باطنه النفسي العميق حتى يمكن مقارنة بواكير الأعمال مع أعمال مكتملة ناضجة فنرى الملمح ذاته والطبيعة ذاتها.
ولخطوة أبعد - لقد بدأت المقالة بالكلمة واستغرابي أن تكون هي بداية الخلق وسوف أكون واضحا أكثر في عملية مقارنة الأديان.
وليست الكلمة هي بداية الخلق.
لقد كانت هناك صورة. ويدرك ذلك الموسيقيون والفنانون التشكيليون فهم يرتبطون بالفن من جذوره ومن دون وساطة الكلمة. حتى أن الصورة أيضا ليست هي بداية الخلق بل إنها الطاقة، طاقة الترداد التي تملأ الصدر ولا يجد الفنان بدا من فتح النوافذ لارسالها الى النور. وكم نجد هنا الفيلسوف الالماني هيدجر متأخرا في إدراكه لمعجزة الخلق ولقدرة تكوين الصور والمعالجة التي تتم لانتاج الكلمات. نحن من طاقة ومادة وما الكلمة وما الصورة إلا طرائق مخاطبة وتفاهم- ليستا هما الأساس. وباختصار شديد متعسف أقول لقد جاءت الأديان الشرق أوسطية حاملة معها الكلمة كمعجزة للتكوين والخلق. وهذا كما أظنه انحدار نحو الواقع- الانسان الأرضي، وابتعاد عن الانسان الروحي السمائي الذي تعلق بإله الكون عن طريق الحدس (الطاقة)، عن طريق اللاوعي. الطريق الغامض الذي لايستوعبه انسان العصور الحديثة والذي حاول أن يدركه فشوههه بمداد الكلمة. وكانت هذه الأديان بالتأكيد ضرورة فالواجب الغامض -التطوري- يدفع البشري كي يبتعد عن الروح الأم ويتأقلم مع المادة ومظاهرها.
ما الأدب، أو لماذا الأدب؟ والجواب هو، كي لا نضيع عن المصدر. في الواقع أن الفن هو ككل جاء مدركا للحقيقة التي تنص أن الفن هو الرباط المقدس مع الانسان الروحي الذي تركناه ومضينا في طريق معاكس.
عن طريقه يتم الإلهام.
الشيء الذي لا يمكن الوصول إليه، فهو البعيد، هو الحبيب\الحبيبة الخالدة غير الموجودة على الأرض، الذي ينتفي عنها الزمان.
إن وجود الفن بين ظهرانينا لهو دليل قاطع على العزلة التي يعانيها الانسان.
*
يقف الشرق الأوسط بين شاطئين- إنه البرزخ والجسر- لهذا له أهميته القصوى في تركيب العقل العالمي الكلي. جاءت الأديان الشرق اوسطية الثلاث تحمل معها الكلمة التي تخفي الصورة - ارادةالطاقة- بينما نجد أن الأديان الشرق ادنويه- الصين (اليابان) والهند قد قدستا الصورة وقدستا الطاقة - لقد كانت النيرفانا إحدى الأمثلة. وهنا نقول أن الروح-الأدب في تلك المناطق هو الأدب المثالي الصاغ غير المشوه. غير المشرب، عيار 24. إنه الحكمة. أضم أيضا افغانستان وبلاد فارس فهي البلدان التي مازلت تقع تحت تأثر الصين والهند. مليئة بالحكمة ومليئة بالتأمل واستطلاع العامل الروحي الذي يحتاجه الانسان. ولا غرابة في أن ينهل منها عزرا باوند وأن يبتدئ فريديرك نيتشه جوهر فلسفته على أساسها باحثا عن الانسان السوبرمان ومن يكون السوبرمان سوى الانسان الكلي التي تحدثت عنه حضارات الصين المتعاقبة.
وهنا أستعرض مثالا تطبيقيا وصفيا خلقيا: لنستمع الى اللغة الصينية حيث الكلام فيها قادم من باطن الرئة- إنها اللغة التي لاتحمل لغة، كأنها تولد من جذور الانسان ذاته بينما الكلام الأوربي هو ولادة من حجرة الفم القريبة من الشفتين، إنها إبتعاد عن تأثير الروح والباطن. لهذا فإن الأدب الأوربي لا يرقى روحيا إلى مصاف آداب الصين وفي أقل منها الى آداب بلاد فارس والهند. وقد لفتت نظري قراءات في الأدب الفارسي الحديث وكم كان بدر شاكر السياب في انشودة المطر قريبا روحيا منها حيث العراق هو على الحدود ومنه جاءتنا الاداب الروحية التي يمكن منها أن نتعلق بعمق بمراكب أهل الشرق الادنى لكن لا ننسى أن الوجه الآخر الذي نملكه أيضا هو وجه يطل بنا على شاطئ براجماتي مادي.
ماحاجتنا الآن للأدب، إنها إحدى الحاجات الروحية التي ستفتح لنا شق النور في عتمة الضياع والتيهان. حيث الحاجة هنا هي استقرار لاكتشاف البنيان الضائع وتمليه.
لدينا من هذه المناظرة ثلاث صفحات أولاها صفحة الشرق الأدنى وثانيها الشرق الأوسط والأخيرة هي الغرب.
وإن كان هناك مكان للتصنيف الذي يذل الحقيقة ويبتعد عن الواقع فإن التصنيف سيكون استنادا الى العلاقة مع العوالم الثلاثة هو"حكمة - شعر- رواية". لكن هذه الفقرة بحاجة الى بحث مستقل، وهي ستؤدي إلى نتيجة مفادها إن كانت الرواية هي الأدب العالمي اليوم فإن العربي سيسمها بطابعه الطابع الشعري. وهذا الطابع سيكون متطورا عن ألف ليلة وليلة.
لقد ظهرت الآداب الغربية المعاصرة بدون كيخوته مكرسة العنصر الغالب وهو الراوية، مغامرة للتخلص من رفض الواقع ومن رفض التحول الذي أصاب العالم الارستقراطي. تبدو أنها رواية العودة الى الأصول واحدى السبل اليها هي محاربة طواحين الهواء- هذه الجملة المشهورة التي أفهمها على نحو آخر- محاربة طواحين الهواء ليست محاربة الوهم بل هي محاولة التخلص من الوهم ومحاولة قبول العالم كما هو. ولهذا كان هناك بطلان في الرواية وهما ليسا سوى شخص واحد ويقاتل من اجل التخلص من العالم القديم ذلك بإغتنام ضمني للعالم الجديد.
إن كانت ألف ليلة وليلة إبنة مدللة تأخذها الطفولة من يدها في طريق مشوق مليء بالمفاجآت فإن الدون كيخوته قد هجرتها الطفولة تقفد طاقتها وحبورها وتذهب وراء وسواس ضائع ذلك كي يتأكد مرة أخرى أن العالم هو أرضي براجماتي خال من المثل العليا. التوازن (الروحي المادي) الذي يتحقق في ألف ليلة وليلة لا نجده في الدون كيخوته فالأخيرة هي رواية عقلية تستفتح عصرا جديدا للأدب يمتد إلى خطى يولسيس جيمس جويس.
وأعود الى الوراء قليلا أو أقفز مرة واحدة نحو الفكرة كي أقول إن الشرق العربي بيده مفاتيح لا يملكها الغرب ولا الشرق الأدنى وهي النظرة المعتدلة التي تضع الأمور في نصابها.
إن توازن الشرق يتوازن العالم وإن مال يميل. ونستنتج من هذا أن وجود شرقا أوسطيا قويا سيفتتح مادة جديدة في الواعية البشرية والمثال على ذلك كان الانتقال من نظرية المستوي ذي البعدين إلى الفراغ ذي الأبعاد الثلاثية وكان قد ابتدأه العرب بصورة رمزية عبر رمز القبة في الهندسة المعمارية وقد ترجمتها الحضارة الغربية على يد ديكارت بمحاوره الثلاث المشهورة. "المئذنة التي تطعن السماء على حد تعبير إدوار الخراط".