عالم الأدب

ما لم تعرفه.. وما لم تره.. عن آخر أيام محفوظ!!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

سلوى اللوباني من القاهرة: إعجابك أو حبك لشخص معين يدفعك لمعرفة ومراقبة كل تفاصيل حياته.. أدق تفاصيل حياته..وتدوينها وربما نشرها خاصة إذا كان الامر يتعلق بأديب إنساني مثل نجيب محفوظ، وأقولها ثانية أديب انساني بكل معنى الكلمة قبل أي شئ آخر.. وترددت كثيراً قبل عرض الكتاب الصادر حديثاً عن دار الشروق بعنوان "نجيب محفوظ.. المحطة الاخيرة" للاستاذ محمد سلماوي. بلا شك الكتاب يضم الكثير من الاقوال والمواقف الممتعة لاديبنا الراحل باسلوب جذاب وسلس. كما احتوى على صور نادرة وجميلة جداً لم تنشر سابقاً له ولعائلته ومع أصدقائه. فقد تناول الكتاب آخر 45 يوماً في حياة نجيب محفوظ من لحظة دخوله المستشفى في 16 يوليو الى أن رحل عنا في 31 اغسطس 2006، بكل ما تضمنته تلك التجربة من ألم ولحظات بهجة!! والكتاب ليس مجرد يوميات الفترة التي قضاها محفوظ بالمستشفى وإنما حاول من خلالها محمد سلماوي تقديم صورة إنسانية عن محفوظ وشخصيته وأخلاقه وإنجازه الادبي فمعرفته بمحفوظ تعود الى السبعينيات عندما قابله أول مرة. ويقول سلماوي أن البعض فضل أن تظل بعض من تفاصيل آخر أيام حياة محفوظ طي الكتمان، إلا أنه لم يستطع كتمان الشهادة!! وهنا أوافق البعض الذي فضل أن تظل هذه التفاصيل طي الكتمان..فهناك تفاصيل مؤلمة جداً وردت في الكتاب حول معاناة محفوظ بالمستشفى.. وأذكر هنا ما ورد على لسان سلماوي في احدى صفحات الكتاب عندما أرادت إبنة محفوظ رؤية والدها بعد موته قال لها: "لا داعي.. إجعلي الوجه البشوش الذي تعرفينه هو الذي يبقى في ذاكرتك.. أن هذا الوجه هو وجه الموت وليس وجهه"!! وهذا الرفض ليس نابعاً من كونه رمزا من رموز ثقافتنا العربية أو لانه الاديب العالمي.. بل لانه إنسان بمعنى الكلمة.. فشخصيته وأخلاقه نادرة جداً حتى وهو على فراش المرض وخصوصاً في أيامنا هذه. إضافة الى أن ذكر مثل هذه التفاصيل والتي تنم عن نوع من العتب...أو تأنيب الضمير تثير تساؤلات وشكوك حول كيف تم التعامل مع وضع محفوظ الصحي!! وهل كان يجب نقله الى الخارج كما طلب الناشر الامريكي سيدني شيف!! فاذا كان الجواب نعم. إذن كان من الافضل معالجة هذه التفاصيل بطريقة أخرى. ففي كثير من مواقع الكتاب كان سلماوي يعتب أو يتألم للطريقة التي يتم التعامل بها مع محفوظ إلا إنه لم يبد أي إعتراض واضح وصريح آنذاك.. بل كان يحدث نفسه فقط عن هذا الالم!! وحتى في طريقة الكتابة لم يلقي اللوم على أحد بل يترك للقارئ الاستنتاج! وهنا يقف القارئ وقفة مطولة..ليتأمل ما يقرأ ويحلل!! هل بالفعل هذه قيمة محفوظ لدينا!! هل قصرنا معه!! بالتأكيد نقله للخارج لن يطيل بعمره أو يقصره!! إلا أن هناك تفاصيل غريبة الشكل والمنطق حدثت كان من المفروض أن يتم التعامل معها آنذاك بطريقة مهنية فعالة!!!!!

تفاصيل مؤلمة
ومن التفاصيل التي كان يجب عدم ذكرها في الكتاب أو كان بالامكان ذكرها باسلوب مختلف لنعطي محفوظ حقه علينا.. على سبيل المثال طبيب العلاج الطبيعي الذي كان يحاول تنبيه أعضاء جسم محفوظ وتحريكها وكان محفوظ غائباً عن الوعي لا يدري الا أن أحداً يقوم بضربه على جميع أجزاء جسمه بلا سبب مفهوم!! وكانت ردة فعل محفوظ هي التوسل!!!! بأن يكف عن ضربه!! أو يبعد يد الطبيب عن ساقيه ويغطيها بالملاءة!! فهذا دليل على شعوره بالالم بالرغم من فقدانه للوعي!! الا إن الطبيب استمر بالضرب!! وأيضاً محاولة استبدال سماعة أذنه اليسرى التي حاولت الممرضة إدخالها في اذنه وأحدثت صفيراً أزعج محفوظ جداً وكان يتألم من وضع السماعة ليكتشفوا بأن هناك تسلخات في اذنه مكان السماعة القديمة!! لانهم لم يخلعوا السماعة القديمة عن اذنه حتى وهو نائم طوال فترة رقوده في المستشفى!! ومحاولة وضع قناع الاوكسجين على وجهه بسبب الانسداد في الشعب الهوائية لانه لا يسعل ولذلك لا يطرد البلغم من صدره.. مد يده وانتزعه..وكان ينزع القناع كل مرة.. الى أن أمر الطيبيب بربط يده!!! فربطوا يده في الاطار الحديدي للسرير!! وتفاصيل تغسيل جثمانه!! وطريقة حديث الممرضات مع محفوظ وكأنهن يتحدثن الى طفل صغير "يالا بقى لازم تاكل"!! أقولها ثانية لم يكن هناك داعي لكل هذه التفاصيل ..ولا أعتقد أن ذكرها يعتبر إنصافاً له بعد مماته!!

اليد التي خطت أجمل الاعمال
وأيضاً تحدث سلماوي عن تورم يد محفوظ اليسرى من "الكانيولا" التي اخترقت شاريينها.. فنقلوها الى يده اليمنى.. اليد اليمنى التي خطت كل هذه الروائع التي تركها لنا على مدى ما يقرب من 70 عاماً من الكتابة.. كانت هي اليد التي أصيبت بعجز جزئي بعد محاولة الاغتيال التي شلت الذراع لفترة من الرقبة وحتى أصابع اليد.. ظل يستخدمها بعد ذلك بحذر شديد. استغرقت فترات العلاج الطبيعي فترة تزيد على السنة!! ويكمل: الان هاهي الابر والانانبيب قد اندست في عروق هذه اليد، ربما كان غيابه عن الوعي أفضل له حتى لا يرى ما يحدث ليده اليمنى!! تلك اليد التي كتبت لنا أعمالاً من أعظم الاعمال الادبية التي عرفتها الانسانية!! وهي اليد التي قبلها "باولو كويلو" في خشوع واحترام. ويحدث نفسه سلماوي مخاطباً باولو تعال لترى كيف تورمت وصار لونها قاتماً لا استطيع أن أصفه لك!! هو مزيج من الاحمر القاني والازرق الداكن! أنت قبلتها لكننا فعلنا بها ما لن تعرفه!! وما لن تراه!! وقبل ذلك كان هناك المخابيل الذين ضربوه بالسكين في رقبته فسرى سٌمهم حتى أطراف أصابع اليد اليمنى!!

سيدني شيف وتحميل المسئولية
وأيضاً ذكر سلماوي المكالمة التي دارت بينه وبين الناشر الامريكي "سيدني شيف" حول وضع محفوظ الصحي..فما هو السبب من وراء ذكر هذه المكالمة؟ هل ليقول لنا سلماوي انه كان يجب نقله للخارج ليتم علاجه ومعاملته بطريقة أفضل؟ أم هو فقط مجرد ذكر لتفاصيل آخر أيام محفوظ؟ هل سلماوي عاتب على أحد بخصوص علاج محفوظ؟ واذا كان كذلك لماذا لم يفعل أي شئ آنذاك.. وهو القادر على ذلك من خلال منصبه وعلاقاته!! فقد اتصل سيدني بسلماوي وفي صوته نبرة غضب وألم قائلاً: كيف تسمحون بأن يصل نجيب محفوظ الى هذا الحال؟ -وقد علم من بعض الصحف الامريكية أن حالته الصحية تتدهور منذ دخل المستشفى وأنه الان في حالة غيبوية كاملة لا يعي شيئاً مما حوله- وقال: لماذا لا يأتي الى الولايات المتحدة؟ إن نجيب محفوظ قيمة إنسانية كبيرة..ولدينا هنا أفضل ما وصل اليه الطب، فأجابه سلماوي: لقد طرحت بالفعل فكرة السفر الى الخارج لكن الاطباء وجدوا أنه لا يعاني مرضاً ليس له علاج في مصر! قال سيدني: إذن لماذا لا تعالجونه طالما علاجه موجود في مصر؟ لماذا تتدهور صحته؟ ثم قال إنني أتحدث نيابة عن عدد كبير من الناشرين الذي يشعرون حقاً بالقلق وواصل قائلاً: أن محفوظ عبقرية إنسانية لن تتكرر.. وستنتظرون عدة عقود قبل أن يجيئكم محفوظ آخر. فقال له سلماوي: ادع معنا يا سيدي أن يقوم من وعكته هذه بالسلامة، فأجابه سيدني: إنه بحاجة لاكثر من الدعاء.. ونحن نحملكم المسئولية!!!

وقع بينما كان نائما!!
أما المفاجأ في وضع نجيب محفوظ الصحي آنذاك كما ورد على لسان سلماوي أنه بعد استفرار وضعه الصحي وكان مقرراً له أن يغادر المستشفى بعد أن مضى أسبوع على دخوله المستشفى بعد عمل بعض الغرز الجراحية لخياطة الجرح الذي أصيب به بعد تعثره في غرفة نومه في منزله ووقع على الارض.. وبعد أن كانت كل الدلائل تشير الى أن محفوظ سيخرج من المستشفى خلال أيام فكل شئ كان على ما يرام!! وقع محفوظ من سريره في المستشفى بينما كان نائماً!! فقاموا بوضع حواجز حديدية على جانبي السرير حتى لا يقع ثانية!!! وهذه الحادثة هي التي أدت الى تدهور صحته بالكامل فتوقف عن تناول الطعام بتاتاً فلم يكن لديه شهية للاكل واضطروا الى وضع أنابيب المحاليل في أوردة الرقبة، وتم اعطائه مهدئ حتى يسمح له بالنوم قليلاً، ثم ظهر هناك خللاً في وظائف الكليتين وخلل في الجهاز الهضمي، وارتفاع في الحرارة وحموضة في الدم وإسهالاً وغياباً متقطعاً للوعي، والمضحك في الموضوع أنهم كانوا يحاولون تحسين نفسية نجيب محفوظ من خلال إحضار الحلاق ليحلق له ذقنه!! أو إستبدال نظارته القديمة بأخرى جديدة!! ثم تم نقل محفوظ الى غرفة العناية المركزة فقد اصيب بعدها في التهاب رئوي حاد وانسداداً في الشعب الهوائية سبب له ضيقاً في التنفس!

جنازة محفوظ
أما أكثر المواقف التي تدل على أننا لم نعط محفوظ حقه بعد مماته.. هي جنازته..فذكر سلماوي كيف تم الاهتمام بكافة الترتيبات الامنية من أجل حضور الرئيس حسني مبارك الجنازة، كانت ترتيبات أمنية دقيقة ومحكمة حتى وصلت الى وضع حراسة تابعة للرئاسة على باب الثلاجة التي يوجد بها جثمان محفوظ حتى الصباح!! حتى تتم عملية الغسل والتكفين قبل الخروج الى الجنازة! كل ذلك الوقت لم يسمح بالاقتراب منه!!! فهي إجراءات أمنية لا يمكن التهاون فيها!! وانتهت هذه الاجراءات الامنية بعد إنتهاء الجنازة العسكرية أي لم يصحبوا الجثمان الى المدافن!! ويقول سلماوي بعد انتهاء الجنازة العسكرية ومغادرة الرئيس المكان فجأة تبعثر كل شئ.. اختفى النعش!! ولم نعرف أين ذهبت عربة المدفع وأين ذهب المسئولون!! وصرنا نتلمس طريقنا وسط الصحفيين وكاميرات التفزيون الذين كانت قوات الامن تحتجزهم حتى مغادرة الرئيس ثم فجأة سمحت لهم بالدخول فانسابوا كالشلال الهادر! كان كل منا يبحث عن الاخرين وعن سيارته!! فلم يكن أحد يعرف مكان الدفن!! وكنا سنسير جميعاً خلف سيارة الجثمان! كانت مظاهر الانضباط التي أمنها جهاز أمن الرئاسة قد اختفت فجأة من المكان!! كنت أبحث عن السيارة التي كانت ستقل الجثمان الى المدفن الذي يقع في مكان ما في طريق الفيوم!!


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف