القاهرة بيروت باريس لممدوح الشيخ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سرد مختلف....حدث مثير.... ورؤية جديدة للذات والآخر
"القاهرة..بيروت..باريس" رواية للكاتب المصري ممدوح الشيخ الصادرة حديثا (2006) عن الدار العربية للعلوم ببيروت رواية صغيرة الحجم كثيفة المحتوى فيها جديد على المستويين، وأول ما يوحي به العنوان أنها رواية من أدب الرحلات لكن أحداثها في الحقيقة محصورة بين القاهرة وبيروت أما باريس فتحتل خلفية المشهد، وقد حاولت بناء صورة عن المبدع قبل الشروع في الكتابة عن الرواية فلفت نظري أنها جزء من رؤية معرفية وسياسية يتبناها الكاتب الذي يكتب عبر المسرحية والقصيدة والمقال السياسي والعمل البحثي، واهتمامه بباريس يتجاوز صفحات الرواية لينعكس في مدونة يحررها على الانترنت تحمل اسم "شؤون فرنسية"( www.maktoobblog.com/frenchaffaires) يمكن وصفها بأنها "هجائية" منظمة لكل ما هو فرنسي!
الرواية من روايات الجوائز إذ فازت بجائزة إبداعية مصرية هي "جائزة أحمد فتحي عامر" ورغم أن الكاتب يذكر أنها الأولى لكاتبها إلا أن النضج الذي تتسم به يجعل قارئها يرحج أنه قد سبقتها محاولات أخرى أو أعمال أخرى غير لكن غير منشورة.
على مستوى السرد استخدم ممدوح الشيخ آلية روائية جديدة تشبه سباقات التتابع وهي آلية تجعل الفكرة هي البطل الحقيقي للرواية فهي أشبه بالشعلة التي يسلمها متسابق لآخر فيختفي السابق ويحل اللاحق صدارة المشهد. الجزء من الرواية يتمركز حول شخصيات: فؤاد عبد القادر تاجر اللحوم المستوردة والعم شفيق الخطاط اللذين يدفعان الحدث الروائي إلى نقطة الذروة عبر خطأ غير مقصود يرتكبه عم شفيق عندما يكتب على المنتج الذي يستورده فؤاد عبد القادر "لحم بشري طازج" بدلا من "لحم بقري طازج" ليختفي كل منهما بطريقة مختلفة ويحتل واجهة المشهد بلا منهما بهي الأحمدي الصحافي الفضولي الذي يقرر تتبع القصة في بيروت بعد أن يكشف الخطأ غير المقصود عن وجود لحم بشري فعلا في المنتج، فيما يشبه زوالا مفاجئا وصادما للخيط الفاصل بين الحقيقة والخيال. في الوقت نفسه يظهر "البطل الشبح" شهاب علم الدين صديق بهي الأحمدي المختفي ليلعب رغم غيابه دورا رئيسا فغي الرواية عبر آلية التذكر. وبهذا التتابع فإن أيضا من الشخصيات الرئيسة في الرواية لا يمكن وصفه بأنه "البطل".
من ناحية أخرى فإن شخصيتي العم شفيق "الخطاط" وشهاب علم الدين يقفان على تخوم الأسطورة رغم أن الكاتب أفلح في رسم ملامح شخصيتهما كشخصيات إنسانية من لحم ودم، فالأول خطاط من طراز نادر تكشف حواراته مع محسن الموظف بشركة فؤاد عبد القادر عن وعي ثقافي عميق، فمن بين حوارتهما الملفتة:.
"ألم تجرب الكتابة بالكومبيوتر يا عم شفيق؟"
فقال شفيق وهو يرشف فنجان القهوة:
"جربت.. عندما ظهر كنت من أوائل من تعاملوا معه، وحاولت استخدامه في إنتاج لوحات تجمع بين دقة الآلة ورقة الإنسان، لكنني اكتشفت في النهاية أنه آلة.... آلة بلا روح".
اتسعت عينا محسن الجامعي نصف المثقف من الدهشة وهو يسمع هذا العجوز البسيط المظهر يتحدث عن الرقة والدقة والإنسان والآلة. وقطع العم شفيق دهشته:
"لا تندهش يا بني.... أم أقول لك يا أستاذ محسن؟"
واكتست ملامح محسن، رغم إحساسه المفرط بالانشغال وضيق الوقت، ببشاشة واضحة:
"لا يا عم شفيق بل أنت الذي يستحق عن جدارة وصف الأستاذ.... تفضل أكمل كلامك".
رشف شفيق رشفة أخرى من فنجان القهوة وأشار إلى لوحة معلقة على جدر المكتب خلف محسن وقال:
"انظر إلى هذه اللوحة"
والتفت محسن إليها، وشعر وهو الذي يقضي شطر النهار في المكتب يوميا لسنوات أنه للمرة الأولى يراها بوصفها لوحة، كانت نبرات عم شفيق في حد ذاتها دعوة يصعب رفضها للتأمل والتأني. وقبل أن يكمل شفيق كلامه دق جرس الهاتف.....
وفي حوار ثالث نقرأ:
اندهش محسن وهو يسمع كلمات الرجل العجوز والدفء الغامر في أحرفها والعمق الشديد في معانيها:
"ألهذه الدرجة تحب الفن يا عم شفيق؟"
"الفن شيء نبيل يا أستاذ محسن، والنبل أجدر الأشياء بالاحتفاء في هذا العالم.... وهو من نتائج تكريم الله للإنسان.... وفي حدود علمنا فليس للكائنات الأخرى فنون".
وفي مونولوج داخلي للعم شفيق نقرأ:
"الفن أنبل ما في التاريخ البشري"
هذه العبارة التي سمعها شفيق من مُدرِّسه يوم التحق للمرة الأولى بمدرسة الخطوط العربية بشارع نوبار شابا صغيرا يبحث عمن يعلمه كيف يصبح خطه الجميل مصدر دخل يرتزق منه. ومرت السنوات قبل أن يعرف شفيق أن هذا الـمُدرِّس العجوز فنان عظيم أعطى عمره لفن الخط والزخرفة وأدرك في نهاية رحلته أن الزمن ليس زمنه فوهب عمره للحبر وقنع بأن ينقل شيئا من النبل للأجيال القادمة.... تحسست يده الخطوط والنقاط المتشابكة وتمتم:
"الله يرحمك يا أستاذ حامد.... الله يرحمك ويسامحك".
وبدأ صوت داخلي ينساب في أعماقه مستعرضا رحلة العمر:
"كان هدفك يا أستاذ حامد أن تضع على كاهل كل تلميذ من تلاميذك مسئولية الدفاع عن النبل في هذا العالم.... لكنك دون أن تقصد وضعت على كواهلنا الضعيفة كل التاريخ البشري.... ربما لم تتخيل أن يأتي يوم يتحول فيه الناس من جهل النبل أو تجاهله أو الاستخفاف به إلى كراهيته.. بل إلى الرغبة في قتله.. هذه هي الحقيقة يا أستاذ حامد... البشري أصبح كل طموحه أن يقتل بشريته ويؤكد حيوانيته"
وفي حوار ثان بين الخطاط ومحسن نقرأ:
"الآن أحسست بالبعد الإنساني فيه.... لأنه بشري، فيه قبس إلهي"
هذا التزاوج بين الإلهي والإنساني يرتبط بالتقابل الواضح بين ما هو فطري و ما هو صناعي في حياة بهي الأحمدي، يقول ممدوح الشيخ على لسان الراوي:
شخصية بهي الحقيقية تبدو أكثر في وضوحا في شقته فهي ممتلئة بالأشياء الثمينة لكن دون معنى، فهو مغرم بالأشياء العابرة.... الأصدقاء.... الأفكار.... النساء.. حتى علاقته بالصحافة التي تبدو الشيء الوحيد الثابت هي الأخرى بدأت بصدفة وما زالت علاقة هاو بهواية ممتعة.....اتجه نحو المطبخ متثاقلا.. وقف أمام الحوض المعدني نصف الممتلئ بالأواني المستخدمة.. أمسك إناءً صغيرا.... سكب ما فيه من بقايا قهوة اليوم السابق.. وضع الإناء تحت الصنبور وأضاف البن والسكر دون حاجة إلى تركيز فقد اعتادت يده هذا الطقس اليومي.... وضع الإناء على النار ووقف ينتظر غليانه، فالقهوة بالذات لا تحتمل أي سهو في إعدادها حتى يكون لها "وش" يكمل تأثيرها البيولوجي في الجسد بالتأثير النفسي لطعم هذا الوش وسمكه.
ويصف علاقة بهي بحياته قائلا:
عندما قرر أن يعيشها كما هي وكما هو.... علاقات عابرة.... منبه يوقظ الجسد.. قهوة تركية غليظة القوام توقظ المخ.. ضوء صناعي للعمل ليلا.... ستائر كثيفة ليستطيع النوم نهارا...
"ما بالنا نهرب من كل شيء طبيعي ونفرح بهذا الهرب فرحا أبله ؟".
مد يده إلى فنجان من الخزف صب فيه القهوة وعلى وجهه علامات مزاج معتكر.. وضع القهوة على منضدة أنيقة عليها زخارف إسلامية محفورة حفرا غائرا. كانت القهوة بلونها البني القاتم تجعل الفنجان الأبيض يبدو كما لو كان حلقة بيضاء موضوعة على المنضدة، فاللون واحد تماما كأن المنضدة غمست في فنجان قهوة ضخم. ترك فنجان القهوة وخرج من المطبخ إلى الحمام.. وفعلت "العكننة" الأثر نفسه الذي تفعله القهوة، فهي أيضا منبه قوي المفعول.
.......استسلم بسعادة غامرة........أغلق الدش وخرج من حوض الاستحمام ونظر في المرآة وقال بصوت مسموع لصورته في المرآة:
"وما عيب الطقوس اليومية ؟....إن هذا الحمام أروع طقس يومي عرفه الإنسان"
وللحلم في الرواية دور مركزي رغم أنه يمر كالطيف فالصحافي الفضولي يزداد اهتمامه بالقضية بعد أن رأى في الحلم صديقه الغائب منذ سنوات والرجل الأعمال تملكه الرعب قبل أن يكتشف مثل كل الأطراف وجود لحم بشري في المنتج الذي يستورده بسبب حلم مخيف طارده قبل القضية بفترة.
الدور الفرنسي في الرواية يتكثف بالتدريج عبر لعبة اسدتعاء لا تخلو من مراوغة للقارئ فالصحافي الذي أصبح فجأة في قلب عاصفة من المفاجآت المربكة يقول مستسلما لحضور طيف صديق الغائب:
"يبدو أنه لا مفر"..
اتجه إلى الدولاب وأخرج منه حقيبة قديمة تركها شهاب يوم غادر منزلهما المشترك لآخر مرة متجها لبيروت.... أوراق كثيرة لم يفكر بهي أن يقرأها أبدا، كان يخاف أن تتبدل نظرته للعالم بفعل أفكار شهاب التي كانت.. أحيانا تبدو غريبة.. وأحيانا متشائمة.. وأحيانا حادة.. وغالبا ما تكون خليطا من هذا كله. فتح بهي الحقيبة........وبدأ يتصفح الأوراق لا بحثا عن شيء بعينه بل بحثا عن شيء لا يعرفه..........
وبدأ يبحث في أوراق الشركة الفرنسية التي استورد منها فؤاد عبد القادر صفقته المشئومة، اسم الشركة: سامبل إتش كي (SAMBL.HK.) أسسها عام 1890 مجموعة من الشركاء بينهم الجنرال سانت أرنو أحد قادة الجيش الفرنسي المتقاعدين. تولى رئاستها عام 1911 ابنه بيير، وتحت رئاسته توسعت أعمالها خارج فرنسا. ومنذ تولى رئاستها جورج بيير دي سانت أرنو عام 1955 وهي تدار من بيروت حيث اختار جورج أن يعيش.
"ليس مجرد قائد عسكري متقاعد ضمن مجموعة مستثمرين إذن"
تمتم بهي الذي أصبح دون أن يشعر يرى العالم بعيون شهاب علم الدين:
"إنها ثكنة عسكرية فرنسية واصل قادة الاستعمار الفرنسي في الجزائر من خلالها حربهم لكن بطريقة أخرى وفضلوا التوقيع بالأحرف الأولى، فاسم الشركة مكون من الحروف الأولى من أسمائهم"،
ومرت أصابعه على الأسماء:
جي بليسيه
سانت أرنو
دي شانجارنييه
إم هيريسيون
جي مونتانياك
إي لاموريسيير
أر كافينياك.
شعر بهي أنه أمام جبل جليد عائم لم تكن تبدو منه إلا قمته الطافية على وجه الماء.... جبل جليد ضخم يكتسح كل ما يواجهه بلا رحمة.... ألقى الأوراق وفتح حقيبة شهاب كالمجنون.. أزاح الصور وقصائد الشعر بعيدا، وبدأ يقلب في مسودة كتاب كان شهاب مشغولا بإعداده قبل أن يتخذ قرار السفر لبيروت "فرنسا في الجزائر: رسائل الجنرالات والجنود".. لم يكن في حاجة للبحث كثيرا فشهاب كان يعرفهم ويطاردهم ويجمع أدلة إدانتهم، حتى قبل أن يرتكب العم شفيق خطأه الذي نزعت صدفته القناع عن عالم بأكمله.. إنهم جنرالات الحرب الفرنسية السابقين في الجزائر.
وهنا يلجأ ممدوح الشيخ لآلية سردية أخرى هي التوثيق التاريخي فكما تثير ملاحظة في نهاية الرواية فإن خطابات الجنرالات الفرنسيين الواردة في الرواية هي رسائل حقيقية منقولة بنصها نم مصادرها التاريخية:
تسمر بهي على السرير وجاءه صوت شهاب مختنقا بعبرة بكاء حار:
"كتب الكونت ديريسيون في خطاب إلى ذويه : لقد كان الزوج من آذان الوطنيين يساوي عشرة فرنكات.. لقد عدنا ومعنا برميل مليء بآذانهم التي قطعناها من الأسرى"....
وكتب مونتانياك: "لقد قطعت رأسه ومعصمه الأيسر ووصلت برأسه مثبتا على رمحي ومعصمه عالق ببندقيتي وقد أرسلته إلى الجنرال باراجوي الذي كان يعسكر بالقرب منا وإنك لا تتخيل كيف كان ابتهاجه بذلك، وكنت أحيانا أفرج همومي بقطع الرؤوس لا رؤوس الصبار بل رؤوس الرجال".
وكتب الجنرال سانت أرنو في خطاب إلى زوجته "إن بلاد بني منصر بديعة وهي من أجمل ما رأيت في أفريقيا فقراها متقاربة وأهلها متحابون، ولقد أحرقنا كل شئ ودمرنا كل شئ،.. الحرب !! الحرب !! أواه منها ما أكثر من هلك فيها من نساء وأطفال هاجروا إلى جبال الأطلسي فقضوا نحبهم فيها بين ثلوجها وبتأثير البرد والبؤس..... إني أفكر فيكم جميعا وأكتب إليكِ يحيط بي أفق من النيران والدخان، لقد مررنا عند قبيلة اليراز فأحرقت أفرادها جميعا ونشرت حولهم الخراب، وأنا الآن عند السنجاد أعيد فيهم الشئ نفسه ولكن على نطاق أوسع. لكأني في سرداب تكثر فيه الخيرات, وفي رسالة أخرى يقول "ما أجمل أشجار البرتقال التي سأعمل الآن على اقتلاعها إني أنشر اليوم الحرائق في ممتلكات ابن سالم وقراه".
ومن "البراني" إلى الجوانبي لا يهمل ممدوح الشيخ التحولات النفسية التي يمر بها بهي الأحمدي يالتوازي مع تطور الحداث، يقول على لسان الراوي:
أصبح الفراش الوثير أقرب إلى قفنذ ضخم... تقلب بهي... وتزاحمت الأفكار والمشاعر واستسلم لعالم الدم الذي دخله على غير موعد، هو الذي فر من عالم البزنس مع أبيه بحثا عن مهنة أكثر بريقا وإنسانية قادته تداعيات هذا اليوم العجيب إلى عالم من الأساطير المرعبة يقود بعضها إلى بعض. ورغم أن عالمه كصحفي هو ما يحدث الآن إلا أنه لم يستطع منع نفسه من الإمساك بالخيط الذي عثر عليه في أوراق شهاب ومن الواضح الآن أنه خيط متصل يجمع سانت أرنو وحفيده جورج بيير دي سانت أرنو.
........أصبح أكثر انشغالا لكن أكثر سكينة ويقينا.
وفي موضع آخر يقول:
غرق بهي الأحمدي في أوراق شهاب علم الدين فابتلعته وفتحت مسام عقله لشبق ضخم للمعرفة. كان السفر مغامرة مهنية للبحث عن المتاعب والمال والشهرة وأصبح لفحة نارية من الحنين أحرقت العاشق الذي دخل عالم العشق ببراءة ساذجة كبراءة الفراش. اختار بهي في لحظة واحدة أن يحرق جسر التنهدات الذي التهم أكثر من عشرة أعوام من عمره وأن يعبر جسر القلق الذي فتح بابا للمجهول والخطر وربما الموت....
وفي موضع آخر يقول واصفا ما مر به بهي من معاناة:
"كيف يفقد العالم بهجته وجماله هكذا في لحظة.... كيف يبدو وحشيا قاسيا هكذا بلا أقنعة؟"
اصطدمت عيناه بفتاة جميلة شقراء جلست بجواره دون أن يشعر وهو في شروده القصير.... استيقظت حواسه فشم العطر الأنثوي المثير.... وجال ببصره من خصرها الذي يحيط به حزام الأمان إلى ساقيها البيضاوين المشربين بلون وردي شفيف، واستدار كأن شيئا لم يكن. كانت مثل هذه المصادفة في وقت آخر كفيلة بأن توقظ القناص القابع في أعماقه....
لكنه فجأة فقد كل مواهبه في القنص والصيد ونسي نصب الفخاخ.. وهكذا الإنسان إذا زهد فلم ير في فريسته إلا قطعة لحم:
"أه كم أصبحت هذه الكلمة مرة !!"
كان مشهد الأنثى يبعث في نفسه بهجة ونشوة سحريتين.... ولأول مرة يشعر أن النزال حُسم لصالح شهاب علم الدين.. حسمه وهو غائب عن ميدان العركة بالضربة القاضية. لكن المهزوم هذه المرة لم يشعر للهزيمة بمرارة، بل كانت ميلادا جديدا.. ولكل ميلاد مخاض.. ولكل مخاض ألم.
وفي نقلة أخرى يستخدم الروائي الشعر لتهيئة القارئ لمرحة انتقال الأحداث من القاهرة إلى بيروت فيورد جوءا من قصية له عنوانها "بيروت":
بيروت سيدةٌ
تعطر مفردات قصيدتي
وتنام فوق دفاتر الذكرى
إذا ملت عيون الثاكلات من البكاء
....
بيروت
يا أجمل الأحلام في صحو وفي نوم
ويا شرف القبيلة
يا جرحنا الدامي وطفلتنا الجميلة
أحرقت أطفال المخيم كلهم
من أجل من ؟
وسرقة خارطة البلاد
وشارة اللقيا
وأغنية الوطن
وتركتنا جزرا مشتتة
وأحرقت السفن.
ومرة أخرى يستحضر شخصية - يشير في نهاية الرواية إلأى أنها شخصية حقيقية - هي شخصية الشاعر المصري صلاح الدين عبد الله مستخدما إحدى براعياته الشعرية استخداما موفقا يقول الشاعر:
أنا عمري ما شربت الخمرة
هاتقوللي عفة؟
ها أقولك لأ
لكن أخاف اسكر مرة
أغلط وأنطق كلمة حق".
ويعقب ممدوح الشيخ بعد هذه الأبيات:
اختلطت الأزمنة والأشياء وصارت الأفكار خارج نطاق السيطرة فاستسلم بهي لحالته وتمتم:
"أكيد يا عم شفيق أنت أيضا تخليت عن حذرك وشربت خمرا فأخطأت ونطقت كلمة حق.... لكن كلمتك لم تتسبب إلا في شقائي أنا".
وإذا كان الكشف عن حقيقة اللحم البشري الذي يتم تعليبه الذروة السردية في الرواية فإن الذروة المعرفية تكون عند لقاء الصحافي الفضولي بهي الأحجمي مسئول من الشركة الفرنسية في بيروت، وهو ما يصفه قائلا:
قاده السائق إلى مكتب الاستقبال فاستمهله الموظف لدقائق....جلس على مقعد جلدي أسود فاحم مريح بجانبه منضدة صغيرة عليها منفضة سجائر وشعار معدني للشركة وكتيب تعريفي معد بعناية.. كانت الدقائق التي قضاها كافية لأن يتأمل التناقض بين البريق الأخاذ للأشياء ومعانيها، وتذكر ذلك الشيخ الجزائري الذي قيل له إن الفرنسيين جاءوا الجزائر لنشر الحضارة فقال في عفوية مذهلة: "ولماذا أتوا بكل هذا البارود؟".
وفي لغة باردة تحدث الموظف اللبناني المتفرنس فقال:
"الذي حدث مسيو بهي خطأ إداري واجهناه بكل حسم، والذي حدث أن منظمات إغاثية عديدة دخلت مخيم صابرا وشاتيلا بعد الكارثة وكانت الحالة مأساوية"
وفي إدانة واضحة للحرب الأهلية اللبنانية يقول الروائي ممدوح الشيخ على لسان الموظف المتفرنس:
"الحرب نحن لم نصنعها.. بل صنعها اللبنانيون مدعومين بأطراف عربية وغير عربية"
وتحدث الرجل بتحد:
"أرجو ألا تنسى أنهم في حرب المخيمات كان هناك لبنانيون يحاصرون إخوانهم اللبنانيين وأن المحاصرين أكلوا لحوم الكلاب والقطط،.. وفي آخر الشوط استصدروا فتوى دينية للموجودين تحت الحصار في حرب المخيمات تجيز لهم أكل لحوم البشر".
...........
عادت لهجة الفرنسي المتعرب إلى هدوئها وبدأ يبني على المقدمة السابقة موجها كلامه لبهي بلهجة تقريرية لا تخلو من تودد:
"نحن شركة تجارية، وقد اكتوينا بالحرب ربما أكثر من غيرنا، دورنا في المخيمات كان إنسانيا محضا لم تكن وراءه أية أبعاد سياسية أو تجارية".
"أكمل"
قالها بهي وهو يجلس متأهبا لسماع كارثة أبشع من كل ما سمع وكل ما تخيل.
"الحالة في المخيم كانت بالغة البشاعة والجثث كانت أكواما.. طلب منا، كشركة تعمل في مجال حفظ اللحوم ونقلها أن نقدم معاونة لم نتأخر فيها.. وخلال أيام كانت الجثث تملأ ثلاجاتنا.. كانت هناك ضرورة بيئية في المقام الأول"....
..........
"بعض الجثث استخدمت في تجارب تتصل بحفظ اللحوم دون علم إدارة الشركة.... تجاوز في استخدام الصلاحيات من إحدى الإدارات الفرعية".
وبشكل لا شعوري تقلصت معدة بهي وانعكست حالته على ملامح وجهه الذي اكتسى بلون الدم واحتقن احتقانا شديدا.... وبدأ بهي يتقيأ بعنف.
........
بقي في غرفة مجاورة حتى انتهت الإسعافات الأولية.. أفاق بهي وجاءه بعد قليل الفرنسي المتعرب يرمقه بنظرة هي خليط من الإشفاق والازدراء، وبادره قائلا:
"نحن ندرك شعوركم الطاغي بالاختلاف عنا.... ولهذا فضلنا أن نصدر الجزء الأكبر من هذه اللحوم الناتجة عن مشروع تجريبي إلى الدول الأوروبية كمعلبات مخصصة لتغذية الحيوانات الأليفة.... والجزء القليل الذي صدر إلى بلادكم جاء إليها عبر مافيا معروفة تشتري منتجات مماثلة من الأسواق الأوروبية بأسعار زهيدة وتعيد تغليفها وتصديرها"
استدار الفرنسي المتعرب وأطلق عينيه خارج النافذة مستطردا:
".. وفي النهاية، هذا الخطأ الذي أثارك لدرجة القيء يا مسيو ثمن طبيعي للتقدم.... فلا تقدم دون ثمن وتضحية وقسوة... طبيعتكم العاطفية من أهم أسباب رؤيتكم السلبية لنا... نحن نجرب فنصيب ونخطئ... وبالتالي نتقدم.."
ثم حدق في عينيه متحديا:
".. أما أنتم فالزمن يتجاوزكم وأنتم مقيدون بقيود العاطفة والقداسة....إنني أحدثك باعتبارك مثقفا سيعي معنى ما أقول"..
وصمت بهي للحظات....
ثم بصق في وجهه !!
عند هذه الذروة انتهت الرواية فعليا عندما رأى بهي الأحمدي الوجه القبيح للعلمانية الأوروبية دون أقنعة!
ناقدة مصرية