فلسطين: الثقافة تعود إلى أهلها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
منذ أن أُغتصبت فلسطينُ الانتدابية في عام النكبة، وحتى أوائل التسعينات من القرن الماضي، قام الشيوعيون الفلسطينيون تحديداً، بحماية وتطوير الإرث الثقافي الفلسطيني والعربي في هذه البلاد. سواء عبر إبداعهم كأشخاص، أو رعايتهم للثقافة كجماعة. اضطلع الحزبُ الشيوعي الإسرائيلي [راكاح] بدور تاريخي، في هذا الجانب بالذات. دور لم يشاركه فيه أحدٌ من خارجه إلا لماماً وفي سنوات متأخّرة. ومن خلال هذا الحزب، ومن خلال منابره الإعلامية والثقافية الصادرة في حيفا [ صحيفة الإتحاد، ومجلتي الجديد والغد ] نشرَ المثقفون الفلسطينيون الباقون في ما اصطُلحَ عليه ب " أراضي الثمانية والأربعين "، كتاباتهم وإبداعاتهم ومرافعاتهم الوطنية عبر هذه المنابر الريادية، التي لم يكن موجوداً سواها في الزمان والمكان.
لقد أداروا، من خلال هذه المنابر، معركتهم الحضارية الشاقة والطويلة مع العسكريتاريا الصهيونية. وخاضوا حرب الحفاظ على هويتهم الفلسطينية، في ظل ظروف هي الأشرس والأسوأ والأردأ على الإطلاق.
في هذه المنابر ولِدَ ما عُرف بعد ذلك ب " أدب المقاومة وفكر المقاومة وشعراء المقاومة ". إميل حبيبي وإميل توما، محمود درويش وسميح القاسم، توفيق زياد وسالم جبران، ومعهم وسواهم العشرات.
استمر هذا الوضع حتى هزيمة حزيران. حيث فتحَ الاحتلالُ الإسرائيلي البلادَ على وسعها، فصارت كل فلسطين الانتدابية محتلة. وتهاوت الحدود بين الضفة والقطاع وبين الداخل العربي في إسرائيل. في ذلك الوقت، نشأ في الضفة والقطاع، تيار ثقافي جنيني، يتغذّى على الثقافة القادمة من الجليل، ويقرأ منشوراتها وكتبها، على نحوٍ سري بل بالغ السريّة. فإن وصلت لأحدهم نسخةٌ من صحيفة الاتحاد، مثلاً، كان يتكتّم عليها ويحرص على تداولها أو استنساخها بخط اليد، ثم يحملها تحت قميصه ويوزعها تحت جنح الظلام على رفاقه الآخرين، بوصفها من الممنوعات المحظورة التي يُحاكمُ حائزُها بالسجن شهوراً طويلة، حسب القانون العسكري الإسرائيلي السائد آنذاك.
ومع أواخر الستينات وبداية السبعينات، بدأ نفرٌ من المثقفين الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بالاستيقاظ من هول الهزيمة، مُتلمّسين خطاهم بصعوبة، ومحاولين فك الخناق العسكري المحكم، وتدارك أثر القطيعة التي تمت بينهم وبين بعض الأسماء الثقافية، التي سبقتهم في التجربة، والتي هاجرت عن البلاد بسبب الحرب : معين بسيسو وهارون هاشم رشيد في غزة، وجيل مجلة الأفق الجديد في الضفة.
حاول هذا النفرُ وصلَ ما انقطع، وكان رائدهم في مسعاهم هذا، تجربةُ أخوتهم ورفاقهم في إسرائيل. فُتحت صحف هؤلاء الأخوة لهم، فنشروا فيها، أولى كتاباتهم. ومن خلالها وصلت أسماؤهم إلى بيروت، ومن بعد، إلى المحيط العربي والكوني. وبدأ يتكوّن في الضفة والقطاع جيلٌ أدبي وثقافي، بعشرات الأسماء، رعاهم الحزب الشيوعي الفلسطيني ووفّر لهم ما استطاع توفيره، في ظل أعتى الظروف، من قمع الاحتلال وأحكامه العُرفية ونزعة العسكريتاريا المتأصّلة فيه.
من هنا، يمكن القول بأمانة تاريخية، أنّ الثقافة الفلسطينية، سواء في أراضي الثمانية والأربعين، أو السبعة وستين، أنتجها ورعاها وقام عليها الشيوعيون الفلسطينيون تخصيصاً، واليسارُ الفلسطيني بعامّة، بشقّيهم، هناك وهنا.
وفي وسط هذا الجو، كان الحزب الشيوعي الفلسطيني [ الذي سيحمل فيما بعد اسم : " حزب الشعب " ] مع قوى اليسار الماركسي من الجبهتين الديمقراطية والشعبية، هو حاضنة الثقافة والمثقفين في الضفة والقطاع. قامت هذه القوى مجتمعة بذات الدور الذي قام به أشقاؤهم الشيوعيون داخل إسرائيل. مع اختلاف وخصوصية كل طرف منهم على حدة.
أسّسَ الحزبُ المكتبات العامة، في المدن والقرى الفلسطينية. و أسس كذلك دور النشر، وطبع للأدباء أول كتبهم [ " مكتبة الشروق " ودار " آفاق أدبية " وسواهما من دور النشر ] بل إنّ أول مكتبة ثقافية تجارية بالمعنى المحترم للكلمة، عرفناها هنا في غزة، كانت وما زالت لأحد رموزهم، وهو السيد طلعت الصفدي، أمدّ الله في عمره.
فهذا الرجل، أعتبره أنا شخصياً أولَ وزيرٍ للثقافة في قطاع غزة. فمن مكتبته الشهيرة تلك [ المكتبة العلمية ] في أول طلعة شارع الوحدة من جهة الشجاعية، رضعَ جيلي ومَن هم أكبر منا سناً، أولى قطرات حليب المعرفة، وتعرّفنا على كبار الأدباء والمفكرين العرب والعالميين. وفتحنا عيوننا على سحر الثقافة الخفي. في وقتٍ كانت تطارده وتطاردنا فيه مخابراتُ الاحتلال وتحاسبنا على أية كلمة مطبوعة تجدها في بيوتنا، سواء أكانت منشوراً سياسياً أم صفحة في كتاب أدبي.
كذلك، لا ننسى الدور الفريد الذي قام به كل من الكاتب محمد البطراوي في الضفة، والشاعر عبد الحميد طقش في قطاع غزة، وهما من رجالات الحزب الكبار، في احتضان المواهب الأدبية مبكراً. حيث كان بيتاهما بمثابة ملتقى ومنتدى لكل المثقفين والمبدعين من الأجيال اللاحقة، بما أَهّلهما لحيازة صفة الأب الروحي والفكري عن جدارة.
كما لا أنسى أنّ أول اتحاد للكتاب الفلسطينيين، قام أيام الاحتلال، كان كله تقريباً من اليساريين الماركسيين ومن مناصريهم. ولقد ساهموا بعمل خلاق في تلك الفترة، وعلى مدى أكثر من عقدين ونصف من الزمن، فخرجتْ من مطابعهم أولى الكتب، شعراً وفكراً وثقافة، في القدس ورام الله. ورعوا عشرات الأسماء لمبدعين فلسطينيين، عبر صحيفتهم الأسبوعية [ الطليعة ] ومجلتهم الشهرية [ الكاتب ]. حتى أصبح هؤلاء فيما بعد من الكتاب المعروفين والمشهورين.
أقول هذا الكلام الآن، ليس فقط للتذكير [ والتذكير مهم خصوصاً وأنّ لدينا جيلاً لا يعرف تاريخه القريب ] وليس فقط من باب الوفاء، لأناسٍ أحترمهم وأقدّر تجربتهم السياسية وتاريخهم النضالي السلمي والمعرفي، فالوفاء دينٌ على أعناق الرجال، في كل حال. وإنما بمناسبة تولّى أخٍ منهم لوزارة الثقافة. وأقوله لأعبّر عن ارتياح عام لدى شرائح واسعة من المثقفين هنا، لكون وزير الثقافة الجديد ينتمي إلى قوى اليسار. فهذا الرجل ذو التاريخ النضالي، هو طاقة ثقافية وفكرية معروفة، منذ كان رئيساً لاتحاد الطلبة في جامعة بير زيت العريقة، في عز أيام اليسار في السبعينات. رجل مجرّب ومنفتح وديمقراطي فعلاً لا قولاً. رجل ابن عصره ومتابع للشأن الثقافي والفكري، العربي والعالمي، كهمّ شخصي أولاً، ولذلك فهو يعرف ما يدور في وطنه وفي العالم من حوله.
وأقوله، لأُذكّر هذا الوزير الشاب، بأنّ وزارة الثقافة في بلادنا، ومنذ نشأتها قبل 14 عاماً تقريباً، ومرور أربعة وزراء عليها، لم تفعل شيئاً مهماً للمثقفين الفلسطينيين. لأسباب موضوعية وذاتية. أما الموضوعية فالكل يعرفها وهي عموماً أسباب فوق الطاقة، تتعلّق بالاحتلال وكوارث الاحتلال. لذا لا نريد تحميل أنفسنا ولا السلطة، فوق ما نحتمل وتحتمل. أما الأسباب الذاتية، فمن حقنا أن نتكلّم عنها بإفاضة وربما في أكثر من مقال قادم. وأودّ في هذا المقال فقط أن أذكّرك أيها الوزير ببعض البديهيات التي أثق أنك تعرفها : منها أنّ السلطة، ومنذ بدايتها، أُلحقتْ وزارةَ الثقافة بحكوماتها المتعابقة، كوزارة _ ديكور فقط. وكمكان لاستيعاب وتشغيل الموظفين من غير ذوي الاختصاص في الغالب. ربما لأنّ السلطة ذاتها لا تملك مشروعاً. ولا كانت في وارد امتلاك مشروع. لذلك قامت هذه المؤسسة الرسمية، ذات الميزانيات البائسة [ كسور عشرية لا أكثر ]، وعلى اختلاف أسماء وزرائها، بدور جد هامشي في المشهد الثقافي الفلسطيني.
وأكثر من ذلك : أنّ المثقفين في بلادنا، على تعدد وتنوّع أطيافهم، لم يشعروا يوماً بأنّ هذه الوزارة هي بيت لهم. لذلك قاطعوها، وازورّوا عنها، بعد أن ازورّت هي عنهم. لقد انشغلتْ للأسف،، هي الموجودة لخدمتهم بالأساس، بغير الشأن الثقافي الحقيقي. انشغل وزراؤها بالسياسة في معناها المباشر، وبالسفر والمُهمات. وانشغل موظفوها، وهم معذورون في ذلك، كغيرهم من الموظفين، بالرتب والدرجات الوظيفية، ونسوا المهمة المركزية التي قامت من أجلها وزارتهم، وهي رعاية وتفعيل الثقافة وتأسيس البنية التحتية لها، من مراكز ثقافية وقصور ثقافة ومسارح ومكتبات وقاعات عرض سينمائي إلخ..
لذلك مضى علينا الآن أكثر من 14 عاماً، وحصادنا الثقافي الرسمي جدّ هزيل، ولا يسرّ أحداً من المثقفين الحقيقيين.
ففي بلاد منكوبة مثل بلادنا، وفي أزمنتها الثقافية التي صحّرها الاحتلالُ، وجعلها بلقعاً، لولا مواهب أفراد وإرادات أفراد، نحتاج أكثر ما نحتاج إلى بُنية ثقافية تحتية. ونحتاج أكثر ما نحتاج إلى يد مؤسسة حانية، تساعد المثقفين وترعاهم وتسهّل أمورهم. بخاصةٍ ونحن لا نجد مؤسسات ثقافية في المجتمع المدني، تؤدي هذا الدور الواجب تجاه المثقفين الفلسطينيين، الفقراء في غالبيتهم الساحقة. فالمجتمع المدني لا يولي كبير اهتمام ولا صغيره بالثقافة. لذا سيظلّ مثقفونا ينتظرون الشيء الكثير من وزارة الثقافة، حتى لو عتبوا أو غضبوا عليها، باعتبارها العنوان الرئيس لهم حتى هذه اللحظة. فهي لهم، إلى أن تزول قبضة الاحتلال عن الضفة والقطاع، ويتطوّر مجتمعنا المدني، في عملية صيرورة تاريخية، فيأتينا ببدائل أخرى.
لذلك عليك أيها الوزير أن تجتمع بهم مباشرة، وجهاً لوجه. وأن تصغي إلى همومهم وآمالهم. نقول لك هذا لأننا نعرف أنك وحزبك تحملون مشروعاً ثقافياً، فأنتم مع الجبهتين الشعبية والديمقراطية، أهلُ الثقافة تاريخياً في بلادنا، ومارستموها، في معناها المفتوح على الإنساني والكوني،عبر عقود من الزمن، وتحت أقسى الظروف.
وطبعاً نحن نعرف مقدار ما تواجهون من تحديات، داخلياً وخارجياً. ونعرف كما يقول فالتر بنيامين أن [ لا سياسة ثقافية صحيحة من دون سياسة صحيحة ]. إنها الجملة _ الاستشهاد، التي افتتحَ بها كتابَهُ، مفكّرنا فيصل دراج وهو يكتب عن " بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية ". هل تذكر هذا الكتاب ؟ أرجو ألا تنساه، وأن نتعلّم منه جميعاً، فلا نعيد تكرار أخطائنا، فندفع الثمن الواحد مرتين.
تحياتي لك، ولكل قوى اليسار في بلادنا، التي نأمل أن تتوحد ذات يوم قريب في جسم واحد، علّها تكون القوة السياسية الثالثة الحافظة لتوازن المجتمع. وأملي أن تنجح في مهمتك الشاقة، لتخدم هذا الشعب المنكوب، في جانب غير مُلتَفتٍ إليه، وهو الجانب الثقافي.
فلو كانت لدينا ثقافة، لو كان لدى سلطتنا مشروع ثقافي، لما تصحّر مجتمعُنا، نفسياً وفكرياً، و لما عرفنا ثقافة الفئوية والحزبية، التي تُعلي من شأن الفصيل فتضعه فوق فلسطين، ولما وصلنا أخيراً إلى ثقافة قتل الشقيق للشقيق.
تحيتي لك، ولليسار الفلسطيني بعامة، وعذراً من القرّاء الأحباء. فهذا هو مقالي الأول في تاريخي مع الكتابة، الذي أكتبه لمسؤول في كرسيه. مسؤول أتوسّم فيه الخير لكل المثقفين الفلسطينيين، وبالأخص في هذه الأعوام الرمادية من تاريخ ثقافتنا وتاريخ قضيتنا.
وسلام على فلسطين.